الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل

                                                          وقد أمر الله تعالى نبيه الأمين أن يتولى هو القول التهديدي، وهو: اعملوا على مكانتكم، والمكانة: الطريقة، أو الأمر الذي مكنوا منه، والأمر هنا للتهديد بالإشارة إلى عاقبة ما يفعلون، كقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، فالأمر: (اصنع) للتهديد بأن يفعل متحملا تبعة ما يفعل ونتيجته، فإن كنتم تزعمون أنكم على حق فاعملوا وسترون العاقبة، وإني عامل على ما أدعو إليه، وهو الحق الذي لا ريب فيه، ولكل وجهة هو موليها، فكونوا كما تريدون لأنفسكم.

                                                          [ ص: 2683 ] وإنه في هذا المقام المهدد المنذر الذي يحملهم الله سوء ما يعملون- يأمر نبيه بأن يناديهم نداء يقربهم ولا يبعدهم ويدنيهم ولا يجافيهم، فقال تعالى: قل يا قوم فأمره تعالى بأن يناديهم بما يربطه بهم، وهو أنهم قومه الذين تربطهم رابطة النسب، فيحب خيرهم، وإنهم إن كذب الناس جميعا لا يكذبهم، فهو يناديهم بنداء المحب الذي لا يعادي ولكن يذكرهم بالحقائق التي لا تقبل مداجاة، ولا مواربة، وكأنه إذ يحملهم تبعة ما يعملون لا يبعد عنهم بل يدنيهم ليهديهم، فالهادي لا بد أن يكون قريبا من أنفس من يتصدى لهدايتهم، ولقد ذكر من بعد ما يشير إلى العاقبة، وأنهم سيعلمونها علم البيان، فقال: فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار

                                                          (الفاء) هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، و: (سوف) هنا لتأكيد الوقوع في المستقبل، أي: سوف يعلمون بالعيان لا بالخبر من له عاقبة الدار، و: (العاقبة) النهاية التي تعقب ما يسبقها من أسباب تؤدي إليها، و: عاقبة الدار المراد بها نهاية هذه الدار، وعاقبتها تكون لمن، والدار هنا قد تراد بها مكة وما حولها مما يسيطرون عليه، أو البلاد العربية، أو الدار الدنيوية على العموم.

                                                          أي: سوف تعلمون من تكون له في النهاية، وفي عاقبة الأعمال الدار والسلطان، فالمراد من تكون له العاقبة في الدار والسلطان، وينصره الله تعالى حيث يكون لأهل الحق السلطان.

                                                          ويصح أن يراد الآخرة، وعندي أنه يراد الداران، أما الدار الآخرة، فأمرها إلى الله تعالى، وقد أشار سبحانه وتعالى أن النعيم المقيم يكون للمؤمنين، والجحيم يكون للكافرين.

                                                          وأما في الدنيا -وهذه الآيات قد نزلت بمكة- فإنه قد آل أمر البلاد العربية من اليمن إلى حدود الشام إلى المؤمنين في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصارت الكلمة للمؤمنين، وحقت كلمة الله تعالى: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار

                                                          [ ص: 2684 ] وقال تعالى: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز

                                                          هذه عاقبة الدار في الدنيا والآخرة، ولقد ختم الله تعالى الآيات بقوله: إنه لا يفلح الظالمون

                                                          الضمير ضمير الشأن، أي: إن الله والشأن وسنة الله تعالى في خلقه: لا يفلح الظالمون، أي: لا يفوز الظالمون، والتعبير بالوصف يشير إلى أن الظلم هو سبب الخسران، وإنه وإن بدا الظلم قويا غالبا فائزا فإلى حين، والعاقبة للعادلين المنصفين المقيمين للحق، وللظلم صور شتى: ظلم في العقيدة، وظلم في العمل، وظلم في الحكم وظلم في المعاملة بين الناس، فإن الظالم لا يفوز في نهايته، وإن فاز في بعض الأمور العرضية، والله هو الحكم العدل.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية