الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [103] ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون

                                                                                                                                                                                                                                      ما جعل الله من بحيرة أي: ما شرع وما وضع. و (من) مزيدة لتأكيد النفي. والبحيرة (كسفينة) فعيلة بمعنى المفعول من (البحر) وهو شق الأذن. يقال: بحر الناقة والشاة، يبحرها: شق أذنها. وفي البحرة أقوال كثيرة ساقها صاحب القاموس وغيره.

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو إسحاق النحوي: أثبت ما روينا عن أهل اللغة في البحرة: أنها الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن، فكان آخرها ذكرا، بحروا أذنها (أي: شقوها) وأعفوا ظهرها من الركوب والحمل والذبح، ولا تمنع من ماء ترده ولا من مرعى. وإذا لقيها المعيي المنقطع به، لم يركبها.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا سائبة وهي الناقة كانت تسيب في الجاهلية لنذر أو لطواغيتهم. أي: تترك ولا تركب ولا يحمل عليها كالبحيرة. أو كانت إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث، ليس بينهن ذكر، سيبت فلم تركب ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ولدها أو الضيف. أو كان الرجل إذا قدم من سفر بعيد، أو برئ من علة، أو نجت دابته من مشقة أو حرب، قال: وهي (أي: ناقتي) سائبة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا وصيلة كانوا إذا ولدت الشاة ستة أبطن عناقين عناقين. وولدت في السابع عناقا وجديا، قالوا: وصلت أخاها. فلا يذبحون أخاها من أجلها. وأحلوا لبنها للرجال وحرموه على النساء. والعناق (كسحاب) الأنثى من أولاد المعز. [ ص: 2184 ] وقيل: الوصيلة كانت في الشاة خاصة، إذا ولدت الأنثى فهي لهم، وإذا ولدت ذكرا جعلوه لآلهتهم. وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم: ولا حام وهو الفحل من الإبل يضرب الضراب المعدود. فإذا انقضى ضرابه جعلوا عليه ريش الطواويس، وسيبوه للطواغيت. وقيل: هو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن. ثم هو حام حمى حمى ظهره. فيترك فلا ينتفع منه بشيء، ولا يمنع من ماء ولا مرعى. وحكى أبو مسلم: إذا أنتجت الناقة عشرة أبطن، قالوا: حمت ظهرها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد روي في تفسير هذه الأربعة، أقوال أخر. ولا تنافي في ذلك؛ لأن أهل الجاهلية لهم في أضاليلهم تفننات غريبة.

                                                                                                                                                                                                                                      هذا وروى ابن أبي حاتم عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة، عن أبيه مالك بن نضلة، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في خلقان من الثياب. فقال لي: هل لك من مال؟ فقلت: نعم. قال: من أي المال؟ قال فقلت: من كل المال: الإبل والغنم والخيل والرقيق. قال: فإذا أتاك الله مالا كثيرا فكثر عليك. ثم قال: تنتج إبلك وافية آذانها؟ قال قلت: نعم. قال: وهل تنتج الإبل إلا كذلك؟ قال: فلعلك تأخذ الموسى فتقطع آذان طائفة منها، وتقول: هذه حرم؟ قلت: نعم. قال: فلا تفعل. إن كل ما آتاك الله لك حل. ثم قال: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام

                                                                                                                                                                                                                                      أما البحيرة فهي التي يجدعون آذانها فلا تنتفع امرأته ولا بناته ولا أحد من أهل بيته بصوفها ولا أوبارها ولا أشعارها ولا ألبانها. فإذا ماتت اشتركوا فيها. وأما السائبة فهي التي يسيبون لآلهتهم يذهبون إلى آلهتهم فيسيبونها، وأما الوصيلة فالشاة تلد ستة أبطن. فإذا ولدت السابع جدعت وقطعت قرنها فيقولون: قد وصلت، فلا يذبحونها ولا تضرب ولا تمنع مهما وردت على حوض.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن كثير: هكذا ذكر تفسير ذلك مدرجا في الحديث. وقد روي من وجه آخر [ ص: 2185 ] عن أبي الأحوص من قوله، وهو أشبه. وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد عن مالك بن نضلة. وليس فيه تفسير هذه. والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون أي: ما شرع الله هذه الأشياء، ولا هي عنده قربة. ولكن المشركون افتروا ذلك وجعلوه شرعا لهم وقربة يتقربون بها، وليس ذلك بحاصل لهم، بل هو وبال عليهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي البخاري أن التبحير والتسييب وما بعدهما، كله لأجل الطواغيت. يعني أصنامهم، [ ص: 2186 ] وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار. وكان أول من سيب السوائب وبحر البحيرة وغير دين إسماعيل. لفظ مسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      زاد ابن جرير: وحمى الحامي.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول [ ص: 2187 ] من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر، وإني رأيته يجر أمعاءه في النار» .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن كثير: عمرو هذا هو ابن لحي بن قمعة أحد رؤساء خزاعة الذين ولوا البيت بعد جرهم. وكان أول من غير دين إبراهيم الخليل. فأدخل الأصنام إلى الحجاز ودعا الرعاء من الناس إلى عبادتها والتقرب بها. وشرع لهم هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها. كما ذكره الله تعالى في سورة الأنعام عند قوله تعالى: وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا الآيات. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      لطيفة:

                                                                                                                                                                                                                                      قال الرازي: فإن قيل: إذا جاز إعتاق العبيد والإماء، فلم لا يجوز إعتاق هذه البهائم من الذبح والإتعاب والإيلام؟ قلنا: الإنسان مخلوق لخدمة الله تعالى وعبوديته. فإذا أزيل الرق عنه تفرغ لعبادته تعالى، فكان ذلك قربة مستحسنة. وأما هذه الحيوانات فإنها مخلوقة لمنافع الناس. فإهمالها يقتضي فوات منفعة على مالكها وعلى غيره. أي: وهو خلاف الحكمة التي خلقت هي لأجلها. على أن الرقيق إذا أعتق قدر على تحصيل مصالح نفسه، بخلاف البهيمة. ففي تسييبها إيقاع لها في أنواع من المحنة والمشقة.

                                                                                                                                                                                                                                      قال المهايمي: قاسوه (يعني التبحير) على عتق الإنسان مع ظهور الفرق. لما في عتق الإنسان من تمليك التصرفات، ولا تصرف للحيوانات العجم.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال: الأول كالعتق بلا نذر. والثاني كالعتق بالنذر. والثالث مشبه بما يشبه العتق. والرابع ملك النفس بلا تمليك. ولا معنى للتمليك في الحيوانات العجم، فهذه الأمور غير معقولة ظاهرا وباطنا، فلا يفعلها الحكيم.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2188 ] تنبيه:

                                                                                                                                                                                                                                      قال السيوطي في "الإكليل": في الآية تحريم هذه الأمور. واستنبط منه تحريم جميع تعطيل المنافع. ومن صور السائبة: إرسال الطائر ونحوه. واستدل ابن الماجشون بالآية على منع أن يقول لعبده: أنت سائبة. وقال: لا يعتق. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض مفسري الزيدية: قال الحاكم: استدل بعضهم على بطلان الوقف بالآية الكريمة؛ لأن الملك لا يخرج عن ملك صاحبه إلى مالك آخر. أو على وجه القربة إلى الله. كتحرير الرقاب.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الحاكم: وليس بصحيح؛ لأن الوقف قربة كالعتق. ولقائل أن يقول: يستدل بالآية على نظير ذلك. وهو ما يلقى في الأنهار والطريق وقرب الأشجار، من طرح البيض والفراريج ونحو ذلك. فلا يجوز فعله، ولا يزول ملك المالك. ويحتمل أن يقول: قد رغب عنه وصيره مباحا. وأما كسر البيض على العمارة والطريق والأبواب، فالظاهر عدم الجواز؛ لأن في ذلك إضاعة مال، ولم يرد بفعله دليل. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما بين تعالى أن أكثرهم لا يعقلون أن تحريم هذه الأشياء افتراء باطل حتى يخالفوهم ويهتدوا إلى الحق، وإنما يقلدون قدماءهم - أشار إلى عنادهم واستعصائهم حينما هدوا إلى الحق، وإلى ضلالهم ببقائهم في أسر التقليد، بقوله سبحانه:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية