الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 290 ] باب الكفارة قبل الحنث وبعده

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله : " ومن حلف على شيء وأراد أن يحنث فأحب إلي لو لم يكفر حتى يحنث ، فإن كفر قبل الحنث بغير الصيام أجزأه ، وإن صام لم يجزه : لأنا نزعم أن لله على العباد حقا في أموالهم ، وتسلف النبي - صلى الله عليه وسلم - من العباس صدقة عام قبل أن يدخل ، وإن المسلمين قدموا صدقة الفطر قبل أن يكون الفطر ، فجعلنا الحقوق في الأموال قياسا على هذا ، فأما الأعمال التي على الأبدان فلا تجزئ إلا بعد مواقيتها كالصلاة والصوم " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : قد ذكرنا أن كفارة اليمين تجب على ماض ومستقبل ، فأما اليمين على ماض ، فالكفارة فيه واجبة بعقد اليمين وحده إذا كانت كذبا ، ولا يجوز تقديم الكفارة فيها قبل وجوبها : سواء كفر بإطعام أو صيام ؛ لأنها لا تجب إلا بسبب واحد ، وهو عقد اليمين ، وأما اليمين على مستقبل فالكفارة فيها واجبة بعقد اليمين والحنث ، فتعلق وجوبها بسببين عقد وحنث ، وله في التكفير بها ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكفر قبل اليمين والحنث فلا تجزئه ، سواء كفر بمال أو صيام لفقد كل واحد من السببين كما لا يجزئه إذا عجل زكاة ماله قبل ملك النصاب والحول .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن يكفر بعد اليمين فلا يحنث فيجزئه ، سواء كفر بمال أو صيام ، وقد أخرجها بعد وجوبها ، فصار كإخراج الزكاة بعد حولها .

                                                                                                                                            والحال الثالثة : أن يكفر بعد اليمين ، وقبل الحنث فيكون كتعجيل الزكاة بعد ملك النصاب وقبل الحول ، فقد اختلف الفقهاء في تعجيلها على ثلاثة مذاهب :

                                                                                                                                            أحدها : وهو مذهب أبي حنيفة يجوز تعجيل الزكاة قبل الحول ، ولا يجوز تعجيل الكفارة قبل الحنث .

                                                                                                                                            والمذهب الثاني : وهو مذهب مالك ، لا يجوز تعجيل الزكاة قبل الحول ، ويجوز تعجيل الكفارة قبل الحنث .

                                                                                                                                            والمذهب الثالث : وهو مذهب الشافعي أنه يجوز تعجيل الزكاة قبل الحول ، [ ص: 291 ] ويجوز تعجيل الكفارة قبل الحنث إذا كانت بمال من كسوة أو إطعام أو عتق ، فلا يجوز تعجيلها إذا كانت بصيام .

                                                                                                                                            وقال أحمد بن حنبل : يجوز تعجيلها قبل الحنث بمال أو صيام .

                                                                                                                                            فأما مالك فهو موافق في تعجيل الكفارة مخالف في تعجيل الزكاة ، وقد مضى الكلام في موضعه .

                                                                                                                                            وأما أبو حنيفة فقد مضى الكلام معه في تعجيل الزكاة ، ويتعين الكلام معه هاهنا في تعجيل الكفارة قبل الحنث . وله في الاستدلال طريقان :

                                                                                                                                            أحدهما : المنع من تعجيل الكفارة قبل الحنث .

                                                                                                                                            والثاني : أن الكفارة تجب بالحنث وحده دون اليمين ، واستدل على المنع من تعجيلها بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ، ثم ليكفر عن يمينه فكان له من الخير دليلان :

                                                                                                                                            أحدهما : قوله : " فليأت الذي هو خير منها " فقدم فعل الحنث على الكفارة بحرف الفاء الموجب للتعقيب .

                                                                                                                                            والثاني : قوله : " ثم ليكفر عن يمينه " وثم موضع للتعقيب والتراخي .

                                                                                                                                            ومن القياس أن يكفر قبل الحنث فلم يحرم كالصيام .

                                                                                                                                            ولأن كل حال لا يجوز التكفير فيها بالصيام لم يجز التكفير فيها بالمال قياسا على ما قبل اليمين ، واستدل على وجوب الكفارة بالحنث وحده دون اليمين بأمرين : أحدهما : أن الحنث ضد اليمين ؛ لأن اليمين تمنع من الحنث ، والضدان لا يشتركان في معنى الوجوب لتنافيهما .

                                                                                                                                            والثاني : أن الحنث لو كان أحد السببين في الوجوب لما روعي بعد عقد اليمين إحداث فعل من جهة ، كما لا يراعى في الحول بعد النصاب إحداث فعل من جهته ، ولما روعي في الكفارة حدوث فعل الحنث من جهته دل على أن فعل الحنث هو الموجب للكفارة كما نقول : إن الظهار وإن لم يكن إلا بعد عقد النكاح لما كان بفعل حادث منه ، كان الظهار هو الموجب للكفارة ، دون النكاح .

                                                                                                                                            والدليل على جواز تعجيل الكفارة قبل الحنث ما رواه مالك ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه ، وليأت الذي هو خير .

                                                                                                                                            وروى قتادة عن الحسن ، عن عبد الرحمن بن سمرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا [ ص: 292 ] عبد الرحمن إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها ، فكفر ثم ائت الذي هو خير فجوز في هذين الحديثين تعجيل الكفارة قبل الحنث .

                                                                                                                                            فإن قيل : فقد روي فيها وفي الخبر المتقدم تأخير الكفارة عن الحنث فعنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن تقديم الكفارة أشهر من تقديم الحنث .

                                                                                                                                            والثاني : أننا نستعمل الروايتين معا ، فنحمل تقديم الكفارة على الجواز وتأخيرها على الوجوب ، ونستعملها على وجه ثان أن يحمل تقديمها على التكفير بالمال ، وتأخيرها على التكفير بالصيام . فتكون باستعمال الخيرين أسعد ممن استعمل أحدهما وأسقط الآخر .

                                                                                                                                            ومن القياس ما يوافق عليه أبو حنيفة أنه لو جرح إنسانا وعجل كفارة قتله بعد جرحه وقبل موته أجزاه ، وكذلك لو جرح المحرم صيدا لو قدم جزاءه بعد جرحه وقبل موته أجزاه ، فجعل هذا معه أصلا للقياس فنقول : يكفر لتعلق وجوبه بسببين فجاز تقديمه بعد وجود أحدهما قياسا على كفارة وجزاء الصيد ؛ ولأنه يكفر بمال بعد عقد اليمين فوجب أن يجزئه قياسا على ما بعد الحنث .

                                                                                                                                            ولأنه حق مال يجب بسببين يختصان به فجاز تقديمه على أحدهما قياسا على تعجيل الزكاة ، فإن منعوا من وجوبها بسببين دللنا على وجوبها بالحنث واليمين لقول الله تعالى : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان [ المائدة : 89 ] وبقوله : ذلك كفارة أيمانكم [ المائدة : 89 ] فجعلها تكفيرا لليمين ، فلم يجز أن يخرج من شرط الوجوب ؛ ولأن الكفارة حكم متعلق بالحنث ، فوجب أن يتعلق باليمين ، كما لو قال : إن دخلت الدار فعبدي حر كان عتقه متعلقا بيمينه بدخول الدار ، وإن منع أصحاب أبي حنيفة من تعليق عتقه بيمينه وبدخول الدار ، وارتكبوا أن عتقه مختص بدخول الدار وحده منعوا من ارتكاب هذه الدعوى بما لا يدفعونه من أصل أبي حنيفة في هذا العبد إذا ادعى العتق باليمين والحنث ، فأنكره السيد ، فأقام العبد عليه شاهدين باليمين وشاهدين بالحنث وحكم الحاكم بعتقه ، ثم رجع شاهدا اليمين وشاهدا الحنث قال أبو حنيفة : تجب قيمته على شاهدي اليمين خاصة نصفين وعندنا تجب على شاهدي اليمين وشاهدي الحنث أرباعا ، فقد جعل عتقه باليمين أحق من الحنث ، فكانت الأيمان بالله أولى .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن الخبر فقد مضى .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن القياس على تعجيل الصيام ، فهو أن الصيام من حقوق الأبدان [ ص: 293 ] فلم يجز تقديمه قبل وجوبه كما لا يجوز تقديم الصلاة وصيام شهر رمضان على وجوبهما ، والمال مما يجوز تقديمه قبل وجوبه لتعجيل الزكاة ، ومثله ما يقوله في حقوق الآدميين : إن تقديم ما تعلق بالمال من الديون المؤجلة قبل محلها جائز ، وتقديم ما تعلق بالأبدان من القصاص وحد القذف قبل وجوبها غير جائز ، وفي هذا دليل على أحمد بن حنبل في جمعه بين الأمرين في الجواز .

                                                                                                                                            وعبر آخر ، وهو أن الصيام في الكفارة يجوز بعد العجز عن المال في وقت الاستحقاق ، فلاعتباره عند الحنث لم يجز تقديمه قبل الحنث ، فخالف المال في هذا المعنى .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على تعجيلها قبل اليمين فهو أنه لم يوجد أحد سببي الوجوب ، فامتنع التقديم كما امتنع تعجيل الزكاة قبل ملك النصاب ، وجاز بعد اليمين لوجود أحد السببين كما جاز تعجيل الزكاة بعد ملك النصاب .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بأن الحنث ضد اليمين فلم يجز أن يشتركا في الوجوب ، فهو أن اليمين عقد والحنث حل ، والحل لا يكون إلا بعد عقد فلم يتضادا ، وإن اختلفا كما أن قوله : " لا إله " كفر ، وقوله : " إلا الله " إيمان ، فإذا اجتمعا كان الإيمان بهما منعقدا ولم يتنافيا بالمضادة .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بأن تعلق الكفارة بإحداث فعل يمنع من تعلقها بما تقدمه من اليمين ، كالظهار يمنع من وجود الكفارة فيه بالنكاح وهو من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الحنث في الأيمان ما لا يتعلق له بإحداث فعل ، وهو أن يقول : والله لأدخلن الدار في يومي هذا ، فينقضي اليوم قبل دخولها حنث بغير فعله ، وقد منع أبو حنيفة من تعجيل الكفارة فيه ، فبطل أن يكون إحداث الفعل عليه في اختصاصه بالوجوب ، فكان يلزم أبا حنيفة إن أراد صحة تعليله أن يجيز تقديم الكفارة في اختصاصه بالوجوب فيما لم يكن الحنث بفعله ، ويمتنع منهما فيما كان الحنث بفعله .

                                                                                                                                            والثاني : أن المقصود بعقد النكاح غير الظهار فلم يكن سببا في وجوب التكفير فيه ، وإنما تجب كفارة الظهار بالظهار والعود ، ويجوز تعجيلها قبل الظهار وقبل العود ، وعقد اليمين متردد بين أمرين من بر وحنث فصار لوقوفه بينهما سببا في وجوب التكفير على أن أبا علي بن أبي هريرة يقول : إن كفارة الظهار تجب بثلاثة أسباب بعقد النكاح ، وبلفظ الظهار ، وبالعود ، فلم يجز تقديمها بعد النكاح وقبل الظهار لوجود سبب واحد وبقاء سببين . وعلل بعض أصحابنا بأن الظهار محرم ، فلم يجز تعجيل الكفارة فيه لأنه يؤدي إلى استباحة محظور عليه ، والحنث غير محرم ، فجاء من هذا التعليل أن يعتبر حال الحنث في الأيمان ، فإن كان واجبا كمن حلف : لا صليت فرضا أو مستحبا كمن حلف : [ ص: 294 ] لا صليت نفلا ، أو مباحا كمن حلف : لا أكلت لحما ، جاز تعجيل الكفارة فيها قبل الحنث ، وإن كان الحنث محظورا كمن حلف بالله لا شربت خمرا ، ولا قتلت نفسا لم يجز تعجيل الكفارة فيها قبل الحنث ، فصار تعجيلها فيما لم يكن محظورا جائزا وجها واحدا ، وجواز تعجيلها فيما كان حنثه محظورا على وجهين . فأما تعجيل جزاء الصيد قبل إحرامه ، وقبل قتله وجرحه ، فلا يجوز وجها واحدا وإن اختلفوا في تعليله ، فعند أبي علي بن أبي هريرة أن علة المنع أن الجزاء متعلق بثلاثة أشياء : بالإحرام والجراح والموت ، فلم يجز تعجيله بفقد أحدها وبقاء أكثرها ، وعند من راعى الحظر والإباحة علل بأن تقديم الجزاء موجب لاستباحة محظور ، فلم يجز فإن حل له قتل الصيد لضرورة إليه ، قال صاحب هذا التعليل ، وحكاه عنه أبو إسحاق المروزي : يجوز له تعجيل جزائه بعد إحرامه وقبل قتله ، وعند جمهور أصحابنا أن علة المنع أن الإحرام غير مقصود لقتل الصيد ، فلم يكن مسببا لوجوب الجزاء ، فأما تعجيل الجزاء بعد الجراح وقبل الموت ، فجائز باتفاقهم وإن وهم فيه أبو حامد الإسفراييني فخرجه على وجهين : لأنه ليس يستبيح بالجزاء بعد الجزاء محظورا ؛ لأن موت الصيد حادث عن الجرح المتقدم قبل تكفيره . والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية