الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 5 ] ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون .

جملة ولو أننا معطوفة على جملة وما يشعركم باعتبار كون جملة وما يشعركم عطفا على جملة قل إنما الآيات عند الله فتكون ثلاثتها ردا على مضمون جملة ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ) إلخ ، وبيانا لجملة ( وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون )

روي عن ابن عباس : أن المستهزئين ؛ الوليد بن المغيرة ، والعاصي بن وائل ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب ، والحارث بن حنظلة ، من أهل مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من أهل مكة فقالوا : أرنا الملائكة يشهدون لك أو ابعث لنا بعض موتانا فنسألهم : أحق ما تقول ، وقيل : إن المشركين قالوا : لا نؤمن لك حتى يحشر قصي فيخبرنا بصدقك أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا ؛ أي : كفيلا ، فنزل قوله تعالى : ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة للرد عليهم وحكى الله عنهم ( وقالوا لن نؤمن لك ) إلى قوله : ( أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ) في سورة الإسراء .

وذكر ثلاثة أشياء من خوارق العادات مسايرة لمقترحاتهم ، لأنهم اقترحوا ذلك ، وقوله : وحشرنا عليهم كل شيء يشير إلى مجموع ما سألوه وغيره .

[ ص: 6 ] والحشر : الجمع ، ومنه وحشر لسليمان جنوده وضمن معنى البعث والإرسال فعدي بـ ( على ) كما قال تعالى : بعثنا عليكم عبادا لنا .

و كل شيء يعم الموجودات كلها ، لكن المقام يخصصه بكل شيء مما سألوه ، أو من جنس خوارق العادات والآيات ، فهذا من العام المراد به الخصوص مثل قوله تعالى في ريح عاد : تدمر كل شيء بأمر ربها والقرينة هي ما ذكر قبله من قوله : ( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى ) .

وقوله : ( قبلا ) قرأه نافع ، وابن عامر وأبو جعفر - بكسر القاف وفتح الباء - وهو بمعنى المقابلة والمواجهة ؛ أي : حشرنا كل شيء من ذلك عيانا ، وقرأه الباقون بضم القاف والباء وهو لغة في ( قبل ) بمعنى المواجهة والمعاينة ؛ وتأولها بعض المفسرين بتأويلات أخرى بعيدة عن الاستعمال ، وغير مناسبة للمعنى .

و ما كانوا ليؤمنوا هو أشد من ( لا يؤمنون ) تقوية لنفي إيمانهم ، مع ذلك كله ؛ لأنهم معاندون مكابرون غير طالبين للحق ؛ لأنهم لو طلبوا الحق بإنصاف لكفتهم معجزة القرآن ، إن لم يكفهم وضوح الحق فيما يدعو إليه الرسول عليه الصلاة والسلام فالمعنى : الإخبار عن انتفاء إيمانهم في أجدر الأحوال بأن يؤمن لها من يؤمن ، فكيف إذا لم يكن ذلك ، والمقصود انتفاء إيمانهم أبدا .

ولو هذه هي المسماة " لو " الصهيبية ، وسنشرح القول فيها عند قوله تعالى : ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون في سورة الأنفال .

وقوله : إلا أن يشاء الله استثناء من عموم الأحوال التي تضمنها عموم نفي إيمانهم ، فالتقدير : إلا بمشيئة الله ؛ أي : حال أن يشاء الله تغيير قلوبهم فيؤمنوا طوعا ، أو أن يكرههم على الإيمان بأن يسلط عليهم رسوله صلى الله [ ص: 7 ] عليه وسلم ، كما أراد الله ذلك بفتح مكة وما بعده ، ففي قوله : إلا أن يشاء الله تعريض بوعد المسلمين بذلك ، وحذفت الباء مع ( أن ) .

ووقع إظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار ؛ لأن اسم الجلالة يومئ إلى مقام الإطلاق وهو مقام ( لا يسأل عما يفعل ) ويومئ إلى أن ذلك جرى على حسب الحكمة ؛ لأن اسم الجلالة يتضمن جميع صفات الكمال .

والاستدراك بقوله : ولكن أكثرهم يجهلون راجع إلى قوله : إلا أن يشاء الله المقتضي أنهم يؤمنون إذا شاء الله إيمانهم ، ذلك أنهم ما سألوا الآيات إلا لتوجيه بقائهم على دينهم ، فإنهم كانوا مصممين على نبذ دعوة الإيمان ، وإنما يتعللون بالعلل بطلب الآيات استهزاء ، فكان إيمانهم في نظرهم من قبيل المحال ، فبين الله لهم أنه إذا شاء إيمانهم آمنوا ، فالجهل على هذا المعنى : هو ضد العلم ، وفي هذا زيادة تنبيه إلى ما أشار إليه قوله : ( إلا أن يشاء الله ) من أن ذلك سيكون ، وقد حصل إيمان كثير منهم بعد هذه الآية ، وإسناد الجهل إلى أكثرهم يدل على أن منهم عقلاء يحسبون ذلك .

ويجوز أن يكون الاستدراك راجعا إلى ما تضمنه الشرط وجوابه من انتفاء إيمانهم مع إظهار الآيات لهم ؛ أي : لا يؤمنون ، ويزيدهم ذلك جهلا على جهلهم ، فيكون المراد بالجهل ضد الحلم ؛ لأنهم مستهزئون ، وإسناد الجهل إلى أكثرهم لإخراج قليل منهم وهم أهل الرأي والحلم فإنهم يرجى إيمانهم ، لو ظهرت لهم الآيات ، وبهذا التفسير يظهر موقع الاستدراك .

فضمير يجهلون عائد إلى المشركين لا محالة كبقية الضمائر التي قبله .

التالي السابق


الخدمات العلمية