الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              [ ص: 96 ] المسألة التاسعة :

                                                                                                                                                                                                              قوله تعالى : { فمن عفي له من أخيه شيء } إلى آخرها : قال القاضي رضي الله عنه : هذا قول مشكل تبلدت فيه ألباب العلماء ، واختلفوا في مقتضاه . فقال مالك في رواية ابن القاسم : موجب العمد القود خاصة ، ولا سبيل إلى الدية إلا برضا من القاتل ، وبه قال أبو حنيفة

                                                                                                                                                                                                              وروى أشهب عنه أن الولي مخير بين أحد أمرين إن شاء قتل ، وإن شاء أخذ الدية ، وبه قال الشافعي .

                                                                                                                                                                                                              وكاختلافهم اختلف من مضى من السلف قبلهم وروي عن ابن عباس : " العفو أن تقبل الدية في العمد ، فيتبع بمعروف وتؤدى إليه بإحسان " يعني يحسن في الطلب من غير تضييق ، ولا تعنيف ، ويحسن في الأداء من غير مطل ولا تسويف .

                                                                                                                                                                                                              ونحوه عن قتادة ومجاهد وعطاء والسدي زاد قتادة : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من زاد أو ازداد بعيرا يعني في إبل الدية ، فمن أمر الجاهلية } ، وكأنه يعني فاتباع بالمعروف لا يزاد على الدية المعروفة في الشرع .

                                                                                                                                                                                                              وقال مالك : تفسيره من أعطي من أخيه شيئا من العقل فليتبعه بالمعروف ; فعلى هذا الخطاب للولي ، قيل له : إن أعطاك أخوك القاتل الدية المعروفة فاقبل ذلك منه واتبعه .

                                                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الشافعي : تفسيره إذا أسقط الولي القصاص ، وعين له من الواجبين له الدية فاتبعه على ذلك أيها الجاني على هذا المعروف ، وأد إليه بإحسان .

                                                                                                                                                                                                              وهذا يدور على حرف ، وهو معرفة تفسير العفو ، وله في اللغة خمسة موارد : الأول : العطاء ، يقال : جاد بالمال عفوا صفوا ، أي مبذولا من غير عوض . الثاني : الإسقاط ، ونحوه : { واعف عنا } { وعفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق } . [ ص: 97 ] الثالث : الكثرة ، ومنه قوله تعالى { حتى عفوا } أي كثروا ، ويقال : عفا الزرع ، أي طال . الرابع : الذهاب ، ومنه قوله : عفت الديار . الخامس : الطلب ، يقال : عفيته وأعفيته ، ومنه قوله : ما أكلت العافية فهو صدقة ، ومنه قول الشاعر :

                                                                                                                                                                                                              تطوف العفاة بأبوابه كطوف النصارى ببيت الوثن

                                                                                                                                                                                                              وإذا كان مشتركا بين هذه المعاني المتعددة وجب عرضها على مساق الآية ، ومقتضى الأدلة ; فالذي يليق بذلك منها العطاء أو الإسقاط ; فرجح الشافعي الإسقاط ; لأنه ذكر قبله القصاص ، وإذا ذكر العفو بعد العقوبة كان في الإسقاط أظهر .

                                                                                                                                                                                                              ورجح مالك وأصحابه العطاء ; لأن العفو إذا كان بمعنى الإسقاط وصل بكلمة " عن " كقوله تعالى : { واعف عنا } وكقوله صلى الله عليه وسلم : { عفوت لكم عن صدقة الخيل } ، وإذا كانت بمعنى العطاء كانت صلته له ; فترجح ذلك بهذا ; وبوجه ثان ، وهو أن تأويل مالك هو اختيار خبر القرآن ، ومن تابعه كما تقدم ; وبوجه ثالث ، وهو أن الظاهر في الجزاء أن يعود على ما كان عليه الشرط ، والجزاء عائد إلى الولي ، فليعد إليه الشرط ، ويكون المراد بمن ، من كان المراد بالأمر بالاتباع .

                                                                                                                                                                                                              الرابع : أنه تعالى قال : { شيء } فنكر ، ولو كان المراد القصاص لما نكره ، لأنه معرف ; وإنما يتحقق التنكير في جانب الدية وما دونه . وينفصل أصحاب الشافعي عن ترجيح المالكية بأن العلة تتحقق إذا كان معنى عفا أسقط ; لأن تفسيره " ترك " وكلمة " له " تتصل بترك ، كما تتصل بأخذ [ ص: 98 ]

                                                                                                                                                                                                              وأما قول ابن عباس فقد اختلف في ذلك ; فروي عنه أنه قال بمثل قولنا ، وأما الجزاء فقد يعود على من لا يعود عليه الشرط ، فتقول : من دخل من عبيدي الدار فصاحبه حر ، وإن دخل عمرو الدار فعبدي حر ، وأما فصل النكرة فغير لازم ; فإن القصاص قد يكون نكرة وهو إذا عفا أحد الأولياء فتبعض القصاص فيعود البعض منكرا .

                                                                                                                                                                                                              وهذا كما ترون تعارض عظيم ، وإشكال بين ، وترجيح من الوجهين ظاهر ، إلا أن رواية أشهب أظهر لوجهين : أحدهما الأثر ، والآخر النظر ; أما الأثر فقوله عليه السلام : { فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ; إما أن يفدي وإما أن يقتل } .

                                                                                                                                                                                                              وقد ذكرنا في شرح الصحيح كيفية الروايات واستيفاء ما يتعلق بالحديث .

                                                                                                                                                                                                              ولبابه هاهنا أن الحرف الأول فيه روايتان : إحداهما : { فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين } .

                                                                                                                                                                                                              والرواية الثانية : { فمن قتل فهو مخير } .

                                                                                                                                                                                                              وفي الحرف الثاني ست روايات : الأولى : { إما أن يعقل وإما أن يقاد } .

                                                                                                                                                                                                              الثانية : { أن يعقل أو يقاد } .

                                                                                                                                                                                                              الثالثة : { إما أن يفدي وإما أن يقتل } .

                                                                                                                                                                                                              الرابعة : { إما أن يعطي الدية أو يقاد أهل القتيل } .

                                                                                                                                                                                                              الخامسة : { إما أن يعفو أو يقتل } .

                                                                                                                                                                                                              السادسة : { إما أن يقتل أو يقاد } .

                                                                                                                                                                                                              وإذا نزلت الرواية الأخرى على الأولى جاء منها اثنا عشر تنزيلا : [ ص: 99 ] الأول : { فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ; إما أن يعقل أو يقاد } ، ويكون معناه : إما أن يأخذ الدية ، وإما أن يتفق مع صاحبه على مفاداة معلومة .

                                                                                                                                                                                                              التنزيل الثاني : في قوله : { يعقل أو يقاد } ، ويكون معناه : إما أن يأخذ الدية أو يأخذ القود .

                                                                                                                                                                                                              التنزيل الثالث : في قوله : { يفدي أو يقتل مثله } .

                                                                                                                                                                                                              التنزيل الرابع : في قوله : { إما أن يعطي الدية أو يقاد أهل القتيل } ، يكون معناه إما أن يعطي الدية له أو يقاد : يمكن من القود ، وكذا أهل القتيل ; لأنه الحقيقة ، وما تقدم من العبارة عنه إنما كان مجازا في الإخبار به عن وليه .

                                                                                                                                                                                                              التنزيل الخامس : في قوله : { إما أن يعفو أو يقتل } ، وهي رواية الترمذي ، وهي صحيحة متقنة مضبوطة مفهومة جلية ، وتكون العبارة عنه بأنه يفعل ذلك إن كان جريحا حقيقة ، أو يعبر عن وليه به مجازا ; لأنه سلطان الأمر .

                                                                                                                                                                                                              قال الله سبحانه : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } .

                                                                                                                                                                                                              التنزيل السادس : في قوله : { يقتل أو يقاد } ، تقديره إما أن يقاد به القاتل برضاه أو يقتل ، وكذلك تتنزل التقديرات الستة على الرواية الثانية بإسقاط قوله : له قتيل ، ويكون قوله : من قتل عبارة عن فعله في حال جرحه قبل موته ، أو يعبر عن وليه به ، فهذا وجه الادكار من الأثر بالنظر .

                                                                                                                                                                                                              وأما طريق المعنى والنظر ، فإن الولي أو القاتل إذا وقع العفو منهما بالدية ، فإنه واجب على القاتل قبوله دون اعتبار رضا القاتل ; لأنه عرض عليه بقاء نفسه بثمن مثله ، كما لو عرض عليه بقاء نفسه في المخمصة بقيمة الطعام للزمه ، يؤكده أنه يلزمه إبقاء نفسه بمال الغير إذا وجده في المخمصة فأولى أن يلزمه إبقاء نفسه بماله .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية