الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              896 (54) باب

                                                                                              فيمن سلم من اثنتين أو ثلاث

                                                                                              [ 462 ] عن أبي هريرة قال : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي ، إما الظهر وإما العصر . فسلم في ركعتين ، ثم أتى جذعا في قبلة المسجد فاستند إليها مغضبا ، وفي القوم أبو بكر وعمر ، فهاباه أن يتكلما ، وخرج سرعان الناس ، قصرت الصلاة . فقام ذو اليدين فقال : يا رسول الله ! أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - يمينا وشمالا فقال : ما يقول ذو اليدين ؟ فقالوا : صدق ، لم تصل إلا ركعتين . فصلى ركعتين وسلم ، ثم كبر ، ثم سجد ، ثم كبر وسجد . ثم كبر ورفع .

                                                                                              قال : وأخبرت عن عمران بن حصين أنه قال : وسلم .

                                                                                              وفي رواية : أنها صلاة العصر (من غير شك)، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في جواب ذي اليدين إذ قال : أقصرت الصلاة يا رسول الله ! أم نسيت ؟ قال : كل ذلك لم يكن ، فقال : قد كان بعض ذلك يا رسول الله ! فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس فقال : أصدق ذو اليدين ؟ قالوا : نعم يا رسول الله ! ، فأتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بقي من الصلاة ، ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم .

                                                                                              رواه البخاري (1228)، ومسلم (573) (97 و 100)، وأبو داود (1008 - 1012)، والترمذي (394)، والنسائي (3 \ 30 - 36)، وابن ماجه (1214) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (54) ومن باب : فيمن سلم من اثنتين أو ثلاث

                                                                                              قوله : إحدى صلاتي العشي - إما الظهر وإما العصر - أول العشي إذا فاء الفيء وتمكن ، ومنه قول القاسم بن محمد : ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشي ، وآخره : غروب الشمس ، وأصله : الظلمة ، ومنه : عشا البصر ، وعشوت النار : نظرت إليها عن ظلمة .

                                                                                              وقوله : ثم أتى جذعا فاستند إليها ; الجذع : أحد الجذوع ، وهو خشبة النخلة ، وهو مذكر ، لكنه أعاد عليه ضمير المؤنث ; لأنه خشبة ، كما قالوا : بلغني كتابه فمزقتها ; لأن الكتاب صحيفة .

                                                                                              [ ص: 188 ] وقوله في أبي بكر وعمر : فهاباه أن يتكلما ; يعني : أنهما بما غلبهما من احترام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتعظيمه ، وإكبار مقامه الشريف ، امتنعا من تكليمه ، مع علمهما بأنه سيبين أمر ما وقع ، ولعله بعد النهي عن السؤال كما قررناه في كتاب الإيمان . وإقدام ذي اليدين على السؤال ; دليل على حرصه على تعلم العلم ، وعلى اعتنائه بأمر الصلاة .

                                                                                              وقوله : وخرج سرعان الناس ; رويته بفتح السين والراء ، وهو المحفوظ عن متقني الشيوخ ، وهو قول الكسائي ، وغيرهم يسكن الراء ، وهم : أخفاؤهم والمسرعون منهم . ورواية الأصيلي في البخاري : سرعان : بضم السين وإسكان الراء ، وكأنه جمع سريع ; كقفيز وقفزان ، وقضيب وقضبان ، وكسر السين خطأ ، قاله الخطابي .

                                                                                              وقوله : قصرت الصلاة ؟ معناه : يقولون : قصرت الصلاة ، على اعتقاد وقوع ما يجوز من النسخ . وذو اليدين : رجل من بني سليم ، كان طويل اليدين . ووقع في رواية : بسيط اليدين ، وظاهره : طويل خلق اليدين ، ويحتمل أنه كان طويل اليدين بالفضل وبالبذل . وقد سماه في حديث عمران بن حصين : الخرباق ، قال : وكان في يديه طول ، ويحتمل أن يكون رجلا آخر ، والله أعلم . وقد سماه الزهري : ذا الشمالين ، قال : رجل من بني زهرة ، وقد خطأه أهل السير في ذلك ، وقالوا : إن ذا الشمالين الزهري قتل يوم بدر . قلت : ويحتمل أن يكون [ ص: 189 ] الخرباق في حديث عمران بن حصين غير ذي اليدين في حديث أبي هريرة ، والله أعلم .

                                                                                              وقوله : ما يقول ذو اليدين ؟ يحتج به من يقول : لا بد من اشتراط العدد في المخبر عن السهو ، ولا حجة فيه ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما استكشف لما وقع له من التوقف في خبره ; حيث انفرد بالخبر عن ذلك ، مع أن الجمع كثير ، ودواعيهم متوفرة ، وحاجتهم داعية إلى الاستكشاف عما وقع ، فوقعت الريبة في خبر المخبر لهذا ، وجوز عليه أن يكون الغلط والسهو منه ، لا أنها شهادة ، والله أعلم .

                                                                                              وهذا كما وقع في قبول أخبار الآحاد في غير موضع .

                                                                                              وقوله : فقالوا : صدق ; حصل من مجموع هذا الحديث أن الكل تكلموا في الصلاة بما يصلحها ، ثم من بعد كلامهم كمل الصلاة ، وسجد ، ولغا كلامهم ، ولم يضر ، فصار هذا حجة لمالك على أن من تكلم في الصلاة لإصلاحها لم تبطل صلاته ، وخالفه بعض أصحابه وأكثر الناس . قال الحارث بن مسكين : أصحاب مالك كلهم على خلاف ما قال ابن القاسم عن مالك ، وقالوا : كان هذا أول الإسلام ، وأما الآن فمن تكلم فيها أعادها ، ومنع ما أجازه مالك من الكلام : أبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وأهل الظاهر ، وجعلوه مفسدا للصلاة ، إلا أن أحمد أباح ذلك للإمام وحده ، واستثنى سحنون - من أصحاب مالك - أن من سلم من اثنتين من الرباعية ، فوقع الكلام هناك لم تبطل الصلاة ، وإن وقع في غير ذلك بطلت الصلاة . والصحيح ما ذهب إليه مالك تمسكا بالحديث ، وحملا له على الأصل الكلي ; من تعدي الأحكام ، وعموم الشريعة ، ودفعا لما يتوهم من الخصوصية ; إذ لا دليل عليها ، ولو كان شيء مما ادعي ; لكان فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ولا يجوز إجماعا ، ولكان بينه ; كما فعل في حديث أبي بردة بن [ ص: 190 ] نيار ; حيث قال : ضح بها ، ولن تجزئ عن أحد بعدك ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              وقوله : فصلى ركعتين وسلم ، ثم كبر ، ثم سجد ، ثم كبر وسجد ، ثم كبر ورفع ، هذا حجة لمالك رحمه الله على أن السجود للزيادة بعد السلام ، وحجة على الشافعي ; حيث قال : السجود كله قبل السلام . وتأويل من تأوله على أن المراد به : سلام التشهد ليس بصحيح بما تقدم ، ولم تدع إليه حاجة ، وقد بنى النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما تقدم له من صلاته ، مع ما وقع في أثنائها ، ومن استدباره القبلة ، واستناده إلى الخشبة والمحاورة في ذلك . وقد حمل ذلك أصحابنا على أن ذلك عمل قليل ، وبحضرة ذلك ، ولذلك ألغاه . فأما لو كثر ذلك وطال جدا لبطلت الصلاة . وقيل : لا تبطل وإن طال . وسبب الخلاف : هل ما وقع في قصة ذي اليدين كثير أو قليل ؟ ثم اختلف في الطول ما هو ؟ فقيل : يرجع في ذلك إلى العرف ، وقيل : ما لم ينتقض وضوؤه ، وروي هذا الأخير عن ربيعة ومالك ، ولم يبين في هذا الحديث هل رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة بتكبير أو بغيره ، أم هل رجع إلى حال الجلوس أو لا ؟ وقد اختلف أصحابنا في ذلك ، فهاتان مسألتان :

                                                                                              المسألة الأولى : المشهور أنه يرجع بتكبير . وهل ذلك التكبير للإحرام ، أو لا ؟ المشهور أنه للإحرام ، فإن كان لا للإحرام ، فهل هو للإشعار برجوعه ، أو هو تكبير القيام في الثالثة بعد الجلوس ؟ قولان . وسبب هذا الخلاف : هل إيقاع السلام ساهيا على التكميل مخرج عن الصلاة ، أم لا يكون مخرجا ; كالكلام ساهيا ؟ فيه ثلاثة أقوال : يفرق في الثالث بين أن يكون سهوه عن العدد ، فيسلم قصدا ، ثم يذكر ، فهذا يحتاج إلى إحرام ، أو سهوه عن السلام ، فلا يحتاج إليه ، فإن هذا السلام كالكلام المسهو عنه .

                                                                                              [ ص: 191 ] المسألة الثانية : إذا قلنا : إنه يكبر للإحرام ، فهل يكبر قائما كالإحرام الأول ، أو جالسا ; لأنها الحالة التي فارق الصلاة عليها ؟ قولان . ثم إذا قلنا : يحرم قائما ، فهل يجلس بعد ذلك القيام ليأتي بالنهضة في صلاته ؟ - قاله ابن القاسم - أو لا يجلس ; لأن النهضة غير مقصودة لنفسها ، وقد فات محلها فلا يعود إليها ، رواه ابن نافع وقال به .

                                                                                              وقوله - صلى الله عليه وسلم - : كل ذلك لم يكن ، هذا مشكل بما ثبت من حاله - صلى الله عليه وسلم - ; فإنه يستحيل عليه الخلف والكذب ، والاعتذار عنه من وجهين :

                                                                                              أحدهما : أنه إنما نفى الكلية ، وهو صادق فيها ; إذ لم يجتمع وقوع الأمرين ، وإنما وقع أحدهما ، ولا يلزم من نفي الكلية نفي كل جزء من أجزائها ، فإذا قال : لم ألق كل العلماء ، لا يفهم أنه لم يلق واحدا منهم ، ولا يلزم ذلك منه ، إلا أن هذا [ ص: 192 ] الاعتذار يبطله قوله [ في الرواية الأخرى ] : لم أنس ولم تقصر ، بدل قوله : كل ذلك لم يكن ، فقد نفى الأمرين نصا .

                                                                                              والثاني : أنه إنما أخبر عن الذي كان في اعتقاده وظنه ، وهو أنه لم يفعل شيئا من ذلك ، فأخبر بحق ; إذ خبره موافق لما في نفسه ، فليس فيه خلف ولا كذب ، وعن هذا ما قد صار إليه أكثر الفقهاء : إلى أن الحالف بالله على شيء يعتقده ، فيظهر أنه بخلاف ما حلف عليه ، أن تلك اليمين لاغية ، لا حنث فيها ، وهي التي لم يضفها الله تعالى إلى كسب القلب ، حيث قال : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم [ البقرة :225 ] وقد روى أبو داود حديث أبي هريرة هذا ، وقال مكان : كل ذلك لم يكن : " لم أنس ، ولم تقصر " . ومحمله على ما ذكرناه من إخباره عن اعتقاده . وللأصحاب فيه تأويلات أخر :

                                                                                              منها : أن قوله : لم أنس راجع إلى السلام ; أي : لم أنس السلام ، وإنما سلمت قصدا ، وهذا فاسد ; لأنه حينئذ لا يكون جوابا عما سئل عنه .

                                                                                              ومنها : الفرق بين النسيان والسهو ، فقالوا : كان يسهو ولا ينسى ; لأن النسيان غفلة ، وهذا أيضا ليس بشيء ; إذ لا نسلم الفرق ، ولو سلم فقد أضاف - صلى الله عليه وسلم - النسيان إلى نفسه في غير ما موضع ، فقال : إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني ، وقوله : إني لأنسى - أو أنسى - لأسن ، وغير ذلك .

                                                                                              [ ص: 193 ] ومنها : ما اختاره القاضي عياض : أنه إنما أنكر - صلى الله عليه وسلم - نسبة النسيان إليه ; إذ ليس من فعله ; كما قال في الحديث الآخر : بئس ما لأحدكم أن يقول نسيت آية كيت وكيت ، بل هو نسي ; أي : خلق فيه النسيان ، وهذا يبطله قوله أيضا : أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني ، وأيضا فلم يصدر ذلك عنه على جهة الزجر والإنكار ، بل على جهة النفي لما قاله السائل عنه . وأيضا فلا يكون جوابا لما سئل عنه .

                                                                                              والصواب حمله على ما ذكرناه ، والله تعالى أعلم . ولا يلزم عليه شيء من الاستبعادات .

                                                                                              وفي الأم : توشوش القوم رواه أبو بحر معجمة ، وغيره مهملة ، وكلاهما بمعنى الحركة . قال ابن دريد : وسوسة الشيء - مهملا - : حركته ، وتوشوش القوم : تحركوا وهمسوا .




                                                                                              الخدمات العلمية