الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 32 ] 4 - باب: قول الله تعالى: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين إلى قوله: بصير وقال: وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [الأحقاف: 15]، وقال تعالى: وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى الآية [الطلاق: 6]، وقال يونس، عن الزهري: نهى الله أن تضار والدة بولدها، وذلك أن تقول الوالدة: لست مرضعته. وهي أمثل له غذاء، وأشفق عليه، وأرفق به من غيرها، فليس لها أن تأبى بعد أن يعطيها من نفسه ما جعل الله عليه، وليس للمولود له أن يضار بولده والدته، فيمنعها أن ترضعه ضرارا لها إلى غيرها فلا جناح عليهما أن يسترضعا عن طيب نفس الوالد والوالدة، فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما، بعد أن يكون ذلك عن تراض منهما وتشاور، وفصاله [الأحقاف: 15]: فطامه.

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              الآية الأولى لفظها خبر ومعناه الأمر; لما فيه من الإلزام. أي: لترضع الوالدات أولادهن، يعني: اللواتي بن من أزواجهن، وهن أحق، وليس ذلك بإيجاب إذا كان المولود له حيا موسرا; بقوله في سورة النساء القصرىفإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى [الطلاق: 6] أي: إن تعاسرا في الأجرة فأخرى ترضعه.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر الحولين; لأنه غاية الرضاع عند الشارع.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 33 ] وأكثر المفسرين على أن المراد بالوالدات هنا المبتوتات فقط.

                                                                                                                                                                                                                              وقام الإجماع على أن أجر الرضاع على الزوج إذا خرجت المطلقة من العدة، قال مالك: الرضاع على المرأة إن طلقها طلاقا رجعيا، ما لم تنقض العدة، فإن انقضت فعلى الأب أجرة الرضاع، وكذلك إذا كان الطلاق بائنا فعليه أجرة الرضاع، وإن لم تنقض العدة، والأم أولى بذلك، إلا أن يجد الأب بدون ما سألت، فذلك له إلا أن لا يقبل الولد غيرها، ويخاف على الولد الموت، فلها رضاعه بأجر مثلها، وتجبر على ذلك ، وهذا في غير اللبأ ، أما اللبأ وهو ما لا يعيش الولد إلا به غالبا فتجبر عليه.

                                                                                                                                                                                                                              واختلفوا في ذات الزوج، هل تجبر على رضاع ولدها؟

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن أبي ليلى: نعم، ما كانت امرأته. وهو قول مالك وأبي ثور، وقال الثوري والكوفيون والشافعي: لا يلزمها رضاعه، وهو على الزوج على كل حال وقال ابن القاسم: وتجبر على رضاعه إلا أن يكون مثلها لا ترضع، فذلك على الزوج .

                                                                                                                                                                                                                              حجة من جعل الإرضاع على الأم الآية الأولى إلى قوله: وعلى المولود له رزقهن فأمر الوالدات الزوجات بإرضاع أولادهن، فأوجب لهن على الأزواج النفقة والكسوة، والزوجية قائمة، فلم يجمع لها النفقة والأجرة، فلو كان الرضاع على الأب لذكره مع ما ذكر من [ ص: 34 ] رزقهن وكسوتهن، ولم يوجب ذلك على الوالدات، ولا يراد بالآية الوالدات اللاتي بن من أزواجهن.

                                                                                                                                                                                                                              وحجة من قال إنه على الأب أنه لا يخلو أن تجبر على رضاعة بحرمة الولد أو بحرمة الزوج، والأول باطل; لأنها لا تجب إذا كانت مطلقة ثلاثا بالإجماع، وحرمة الولد موجودة، وكذا الثاني; لأنه لو أراد أن يستخدمها في حق نفسه لم يكن له ذلك، ولأن لا يكون له ذلك في حق غيره أولى، مع أنها لا تجبر عليه أصلا، ومن رد الأمر في ذلك إلى العادة والعرف; فلأن ذلك أصل محكوم به في نفقته عليها وخدمتها له، فكذلك الرضاع إذا كانت ممن ترضع أو لا ترضع.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              روي عن بعجة الجهني قال: تزوج رجل ما امرأة فولدت لستة أشهر، فأتى عثمان، فأمر برجمها، فأتاه علي فقال: إن الله تعالى يقول: وحمله وفصاله ثلاثون شهرا وقال: وفصاله في عامين وقال ابن عباس: إذا ذهبت رضاعه فإنما الحمل ستة أشهر .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              الفائدة في كاملين أي: لرضاعه كقوله تعالى: عشرة كاملة وقوله: وعلى الوارث مثل ذلك أي أن لا يضار. قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                              وروي عن عمر والحسن بن صالح وابن شبرمة مثل ذلك أي: الكسوة والرضاع.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 35 ] وقال أبو حنيفة وأصحابه: أي: الرضاع والكسوة والرزق، إذا كان ذا رحم محرم، وقال: الوارث : المولود .

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى: مثل ذلك : أي: مثل الذي كان على والده من رزق والدته (وكسوتها) بالمعروف إن كانت من أهل الحاجة وهي ذات زمانة، ولا احتراف لها ولا زوج، وإن (كان) من أهل الغنى والصحة فمثل الذي كان على والده لها من الرضاعة، وهذا اختيار ابن جرير، وقال: إنه الظاهر ولا يكون غيره إلا بحجة .

                                                                                                                                                                                                                              وقول أبي حنيفة في تفسيره ليس في القرآن، ولا قاله أحد من المتقدمين.

                                                                                                                                                                                                                              ونقل ابن عبد الملك عن مالك أن هذه الآية منسوخة ، وفسرها الشافعي بالكسوة والنفقة على الزوج، وتشتغل بولدها لئلا يظن الظان أنها تشتغل به عن الزوج.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الداودي: في قوله تعالى: وإن تعاسرتم أي: أن يعطيها أجرة مثلها وأبت على أن تأخذ أجرة مثلها، ودعا كل واحد إلى أكثر [ ص: 36 ] من ذلك استرضع غيرها، وإن دعي أحدهما إلى القصد وأباه الآخر، حمل عليه الذي أباه، وما ذكره ليس مذهب مالك، إذا أبت المرأة منه فإنها لا تجبر كما مر.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: وفصاله : فطامه، كما قال، وأصل الفصل في اللغة: التفريق، معنى الآية السالفة: عن تراض من الأبوين ومشاورة; ليكون ذلك من غير إضرار منهما بالولد.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية