الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
897 [ ص: 297 ] حديث حاد وستون لنافع ، عن ابن عمر

مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن حفصة أنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شأن الناس حلوا وأنت لم تحلل ؟ فقال : إني لبدت رأسي وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر .

التالي السابق


كهذا قال يحيى في هذا الحديث ما شأن الناس حلوا وأنت لم تحل من عمرتك ؟ وتابعه جماعة من الرواة منهم عتيق الزبيري ، وعبد الله بن يوسف التنيسي ، والقعنبي ، وابن بكير ، وأبو مصعب .

وقال ابن القاسم ، وابن وهب ، عن مالك في هذا الحديث : ما شأن الناس حلوا بعمرة ، ولم تحل أنت من عمرتك ، والمعنى واحد عند أهل العلم ، ولم يختلف الرواة عن مالك في قوله : [ ص: 298 ] ولم تحل أنت من عمرتك ، وزعم بعض الناس أنه لم يقل أحد في هذا الحديث : " عن نافع ، ولم تحل أنت من عمرتك " إلا مالك وحده ، وجعل هذا القول جوابا لسائله عن معنى هذا الحديث .

قال أبو عمر : فلا أدري ممن أتعجب من المسئول الذي استحيا أن يقول لا أدري ، أو من السائل الذي قنع بمثل هذا الجواب - والله المستعان - وهذه اللفظة قد قالها عن نافع جماعة منهم : مالك ، وعبيد الله بن عمر ، وأيوب السختياني ، وهؤلاء حفاظ أصحاب نافع ، والحجة فيه على من خالفهم ، ورواه ابن جريج ، عن نافع ، فلم يقل من عمرتك .

أخبرنا عبد الرحمن بن مروان ، حدثنا الحسن بن يحيى القلزمي ، حدثنا أحمد بن زيد بن مروان ، حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر قال : حدثنا هشام بن سليمان ، وعبد المجيد ، عن ابن جريج ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : حدثتني حفصة أن النبي - عليه السلام - أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع قالت حفصة ، فقلت : ما يمنعك أن تحل ، قال : إني قلدت هديي ، ولبدت رأسي ، فلا أحل حتى أنحر هديي .

قال أبو عمر : قد علم كل ذي علم بالحديث أن مالكا في نافع ، وغيره زيادته مقبولة لموضعه من الحفظ والإتقان [ ص: 299 ] ، والتثبت ، ولو زاد هذه اللفظة مالك وحده لكانت زيادته مقبولة لفقهه ، وفهمه ، وحفظه وإتقانه ، وكذلك كل عدل حافظ فكيف وقد تابعه من ذكرنا ، ولكن المسئول لما رأى حديث حفصة هذا يوجب أن النبي - عليه السلام - كان متمتعا في حجته ، أو قارنا ، ولابد من إحدى هاتين الحالتين على حديث حفصة هذا وعرف أن مالكا كان يذهب إلى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مفردا في حجته تلك لحديثه عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة ولحديثه عن أبي الأسود ، وابن شهاب جميعا ، عن عروة ، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفرد الحج . دفع حديث حفصة بما لا وجه له وزعم أن مالكا انفرد بقوله : ولم تحل أنت من عمرتك .

قال أبو عمر : فلم ينفرد بها مالك ، ولو انفرد بها ما نسب أحد إليه الوهم فيها ، لأنها لفظة لا يدفعها أصل ، ولا نظر من أصل ، ولو جوز له أن يدفع حديث حفصة هذا بمثل ذلك من خطل القول كيف كان يصنع في أحاديث التمتع كلها التي روي فيها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في حجته متمتعا ، وفي أحاديث القران التي صرحت ، أو دلت على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يومئذ قارنا [ ص: 300 ] وهي كلها آثار صحاح ثابتة ، قد أخرجها البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وغيرهم .

قال أبو عمر : الذي عليه أهل العلم فيما اختلف من الآثار المصير إلى أقوى ما رووه ، وكان أثبت عندهم من جهة النقل والمعنى ، وأشبه بالأصول المجتمع عليها ، هذا إذا تعارضت الآثار في محظور ، ومباح ، ولم يقم دليل على نسخ شيء منها ، ولم يمكن ترتيب بعضها على بعض ، فكيف والأحاديث في القران ، والإفراد ، والتمتع ، لم يختلف إلا في وجوه مباحة كلها ، لا يختلف العلماء في ذلك ، ولا أحد من الأمة بأن الإفراد ، والتمتع والقران كل ذلك مباح بالسنة الثابتة المتواترة النقل ، وبإجماع العلماء ، وإنما اختلفت الآثار ، واختلف العلماء فيما كان به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرما في خاصة نفسه ، وهذا لا يضر جهله لما وصفنا ، ولما لم يكن لأحد من العلماء سبيل إلى الأخذ بكل ما تعارض وتدافع من الآثار في هذا الباب ، ولم يكن بد من المصير إلى وجه واحد منها صار كل واحد منهم إلى الأصح عنده بمبلغ اجتهاده ، فصار مالك إلى تفضيل الإفراد على التمتع ، وعلى القران لوجوه ، منها أنه روي ذلك أيضا عن عائشة من وجوه ، فكانت تلك الوجوه أولى [ ص: 301 ] عنده من حديث حفصة هذا ، ومنها أنه الثابت في حديث جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومنها أنه اختيار أبي بكر ، وعمر وعثمان ، ومنها أن ذلك أتم ، ولذلك لم يحتج فيه إلى جبر شيء بدم ، ومنها من جهة النظر حجج لمخالفة معارضها بمثلها من جهة النظر أيضا ، ليس بنا حاجة هاهنا إلى ذكر شيء منها ، وذهب غيره إلى أن التمتع أفضل ، لآثار رووها ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تمتع ، وكان ابن عمر يذهب إلى التمتع ويزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تمتع في حجته ، وكان ابن عمر من أعلم الصحابة بالحج ، وذهب آخرون إلى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرن بين الحج والعمرة في حجته لآثار رووها صحاح عندهم أيضا بذلك ، والآثار في التمتع والقران كثيرة جدا ، وقد ذكرنا منها في باب ابن شهاب ، عن عروة من كتابنا هذا ما فيه كفاية ، وفي باب نافع أيضا ما فيه شفاء ، وما أعلم أحدا في قديم الدهر ولا حديثه رد حديث حفصة هذا بأن قال : إن مالكا انفرد منه بقوله : ولم تحل أنت من عمرتك إلا هذا الرجل ، والله يغفر لنا ، وله برحمته .



أخبرنا عبد الله بن محمد بن يحيى ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، وحدثنا عبد الله بن محمد [ ص: 302 ] بن أسد ، قال : حدثنا أحمد بن محمد المكي ، قال : حدثنا علي بن عبد العزيز قالا حدثنا القعنبي ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما شأن الناس حلوا ، ولم تحل أنت من عمرتك ؟ قال : إني لبدت رأسي ، وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر .

وحدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى ، يعني ابن سعيد القطان ، عن عبيد الله ، قال : حدثني نافع ، عن ابن عمر ، عن حفصة قالت : قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ما شأن الناس حلوا ، ولم تحل من عمرتك ؟ قال : إني قلدت هديي ، ولبدت رأسي ، فلا أحل من الحج . فهذا عبيد الله بن عمر ، وهو من أثبت الناس في نافع قد قال كما قال مالك سواء ، وهو أمر مجتمع عليه في القارن أنه لا يحل حتى يحل منهما جميعا بآخر عمل الحج ، وزعم بعض أصحابنا أن حديث حفصة هذا ليس فيه ما يدل على أن رسول [ ص: 303 ] الله - صلى الله عليه وسلم - كان يومئذ متمتعا ، ولا قارنا ، وقال : في جوابه لها ما يدل على أنه كان مفردا لقوله : لبدت رأسي ، وقلدت هديي ، ولم يعرف أن هدي المفرد تطوع لا يمنع من إحلال لمن أمر بفسخ حجه في عمرة ، كما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ أصحابه ، وسنبين هذا المعنى فيما بعد من هذا الباب - إن شاء الله ، وإنما حمله على ذلك - والله أعلم - تقصير البخاري عنه في رواية عبيد الله .

حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، وأخبرنا أحمد بن محمد ، وأحمد بن سعيد ، وأحمد بن قاسم ، قالوا : حدثنا وهب بن مسرة ، قالا جميعا : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : قلت يا رسول الله ، ما شأن الناس حلوا ، ولم تحل أنت من عمرتك ؟ قال : إني لبدت رأسي وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أحل من الحج .

حدثنا عبد الله بن محمد ، وعبد الرحمن بن عبد الله ، قالا : حدثنا أحمد بن جعفر بن مالك ، قال : حدثنا عبد الله بن [ ص: 304 ] أحمد بن حنبل ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله ، قال : حدثني نافع ، عن ابن عمر ، عن حفصة ، قالت : قلت : يا رسول الله ، ما شأن الناس حلوا ، ولم تحل من عمرتك ؟ فذكره حرفا بحرف إلى آخره .

قال أبو عمر : معلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه في حجته أنه من لم يكن منهم معه هدي أن يفسخ حجه في عمرة ، وهذا ما لم يختلف في نقله ، وإنما اختلف في خصوصه ، وعلته ، وعلى هذا خرج سؤال حفصة ، وقولها : ما شأن الناس حلوا ، ولم تحل أنت من عمرتك ؟ فجاوبها بما جرى ذكره ، ولم يختلف عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه لما قدم مكة أمر أصحابه أن يحلوا إلا من كان قد ساق هديا ، وثبت هو على إحرامه ، فلم يحل منه إلا وقت ما يحل الحاج من حجه ، قال : ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ، ولجعلتها عمرة ، فمن كان ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة ، وهذا - عندنا - خصوص - والله أعلم - لأنه - صلى الله عليه وسلم - علم أنه لا يحج بعدها ، وكان قد عرف من أمر جاهليتهم أنهم لا يرون العمرة في أشهر الحج إلا فجورا ونسخ الله ذلك من أمرهم ، فأراد [ ص: 305 ] - صلى الله عليه وسلم - أن يريهم أن العمرة في أشهر الحج ليس بها بأس ، فأمر أصحابه أن يحلوا بعمرة يتمتعون بها ، ومما استدل بها من فضل القران ، والتمتع على الإفراد ، أن قال : إن حديث حفصة هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله : إني قلدت هديي ولبدت رأسي ، فلا أحل حتى أنحر الهدي . يدل أنه كان قارنا - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " حتى أحل من الحج " ، كذلك رواه الحفاظ ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن حفصة .

وقال أحمد بن حنبل : عبيد الله بن عمر أقعد بنافع من أيوب ، ومالك ، وكلهم ثبت ، لأنه لو كان مفردا لحجه ، لكان هديه تطوعا ، والهدي التطوع لا يمنع من الإحلال الذي يحله الرجل إذا لم يكن معه هدي ، ولو كان هديه تطوعا ، لكان حكمه كحكم من لم يسق هديا ، ولجعلها عمرة على حرصه على ذلك بدليل قوله : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي . والهدي الذي يمنع من ذلك هدي قران ، أو هدي متعة ، هذا ما لا شك فيه عند أهل العلم ألا ترى لو أن رجلا خرج يريد التمتع ، وأحرم بعمرة أنه إذا طاف لها وسعى ، وحلق حل منها بإجماع إلا أن يكون معه هدي لمتعته ، فإن كان [ ص: 306 ] ساق هديا لمتعته لم يحل حتى يوم النحر ، ولو ساق هديا تطوعا حل قبل يوم النحر بعد فراغه من العمرة قالوا : فثبت بذلك أن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان قد منعه من الإحلال ، وأوجب ثبوته على الإحرام إلى يوم النحر لم يكن هدي تطوع ، وإنما كان هديا لسبب عمرة يراد بها قران أو تمتع ، هذا كله قول من نفى أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ مفردا ، وعول على حديث حفصة ، وما كان في معناه . قالوا : ونظرنا في حديث حفصة هذا فإذا حديثها قد دلنا على أن ذلك القول من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان منه بعدما حل الناس ، ألا ترى إلى قول حفصة : ما شأن الناس حلوا ، ولم تحل أنت من عمرتك ؟ ولا يخلو النبي - عليه السلام - حين قال لحفصة مجاوبا لها عن قولها : إني قلدت هديي ، ولبدت رأسي ، فلا أحل حتى أنحر الهدي من أن يكون قال ذلك قبل أن يطوف ، أو بعد الطواف ، فإن كان قد طاف قبل ذلك ، ثم أحرم بالحج من بعد ، فإما كان متمتعا ، ولم يكن قارنا ، إذ أحرم بالحج بعد فراغه من الطواف للعمرة ، وإن كان قد أحرم بالحج قبل طوافه للعمرة ، فإنما كان قارنا ، وهذا أشبه - إن شاء الله - .

[ ص: 307 ] وعلى أي الوجهين كان فإن حديث حفصة هذا ينفي أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مفردا لحجة لم تتقدمها عمرة ، ولم يكن معها عمرة ، وإذا كان ذلك كذلك ، فحكم حديث حفصة هذا كحكم سائر الأحاديث المأثورة عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قرن ، أو كحكم الأحاديث عنه أنه تمتع ، ومالك - رحمه الله - لا ينكرها ولكنه قال : إن المصير إلى رواية من روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفرد الحج أولى ، لأنه قد صح عنه ذلك من طريق النقل كما صحت تلك الوجوه ورجحنا اختيارنا الإفراد بأنه عمل أبي بكر ، وعمر وعثمان ، وحسبك بقول عمر : افصلوا بين حجكم وعمرتكم ، وكان لا يزيد على الإفراد ، ومحال أن يجهل هؤلاء الخلفاء الأفضل ، والأصح مما روي في ذلك ، مع موضعهم من العلم ، والجلالة ، والفهم ، وقد صح عن عائشة ، عن وجوه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفرد الحج ، وصح مثل ذلك عن جابر ، وجابر ساق الحديث في الحج سياقة من حفظه من أول الإهلال به إلى آخره عنه - صلى الله عليه وسلم - .

روى الأوزاعي ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : حدثني جابر بن عبد الله ، قال : أهللنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج خالصا لا يخالطه شيء .

[ ص: 308 ] وحدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا قتيبة ، قال : حدثنا الليث ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : أقبلنا مهلين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج مفردا ، وأقبلت عائشة مهلة بعمرة ، وذكر الحديث ، والآثار في الإفراد كثيرة أيضا ، وكل ذلك مجتمع على جوازه وبالله العون ، والتوفيق ، والتسديد لا شريك له .




الخدمات العلمية