الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 400 ] باب من يعتق من مماليكه إذا حنث أو حلف بعتق عبد فباعه ثم اشتراه وغير ذلك

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله : " من حلف بعتق ما يملك وله أمهات أولاد ومدبرون وأشقاص من عبيد عتقوا عليه إلا المكاتب إلا أن ينويه : لأن الظاهر أن المكاتب خارج من ملكه بمعنى وداخل فيه بمعنى ، وهو محول بينه وبين أخذ ماله واستخدامه وأرش الجناية عليه ولا زكاة عليه في ماله ولا زكاة الفطر في رقيقه ، وليس كذا أم ولده ولا مدبره " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : إذا حلف بعتق ما يملك ، فحنث أو قال : مماليكي أحرار ، فالحكم في عتق الحنث والمباشرة سواء ، فيعتق عليه كل من يملك رقه من عبد أو أمة ، صغير أو كبير ، وغير ذلك ؛ لأن جميعهم مماليك له ، ويعتق عليه أمهات أولاده ؛ لأنهن في ملكه ، ويجري عليهن أحكام رقه ، في استباحة الاستمتاع بهن ، واستخدامهن ، وملك أكسابهن ، والتزام نفقتهن ، وزكاة فطرهن ، وجواز تزويجهن ، وإجارتهن كالإماء . وإنما حرم بيعهن ، لما ثبت من حرمة الولادة ، ولا يمنع من بقاء رقهن ؛ لأنه يملك أرش الجناية عليهن ، فلذلك دخلن في جملة مماليكه ، فيعتقهن .

                                                                                                                                            ويعتق عليه مدبروه لبقاء رقهم وجواز بيعهم ، وملك إكسابهم ، والتزام نفقتهم وتعجيل عتقهم ، وكذلك يعتق عليه المخارجون من عبيده ، والمعتقون بصفة لم تأت ؛ لأن جميعهم مماليك تجري عليهم أحكام رقه فيما لهم وعليهم .

                                                                                                                                            وإذا كان له أشخاص من عبيد وإماء عتقوا عليه فيما ملكه منهم ، وعتق عليه باقيهم إن أيسر بقيمتهم ، ورق الباقي إن أعسر بهم .

                                                                                                                                            وأما المكاتبون ، فإن كانت كتابتهم فاسدة عتقوا عليه ، وإن كانت صحيحة لم يعتقوا عليه إذا لم ينو عتقهم .

                                                                                                                                            هذا هو المشهور من مذهبه ، وما نقله عنه المزني ، وروى الربيع مثله . ثم قال الربيع بعد أن روى عنه : إنهم لا يعتقون ، وحفظي عن الشافعي أن المكاتب يعتق إذا حلف بعتق رقيقه .

                                                                                                                                            [ ص: 401 ] فاختلف أصحابنا فيما حكاه من هذا ، فامتنع أبو علي بن أبي هريرة مع طائفة تقدمته من تخريجه ، لأنه يخالف منصوص الشافعي في جميع كتبه ، وأثبته أبو إسحاق المروزي مع طائفة تقدمته ، وخرجوا عتق المكاتب على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو ما اختص الربيع بنقله أنه يعتق عليه لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : جريان أحكام الرق عليه بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : المكاتب عبد ما بقي عليه درهم .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لما نفذ فيه عتق الخصوص إذا عينه نفذ فيه عتق العموم إذا أطلقه .

                                                                                                                                            والقول الثاني : وهو المشهور الذي اتفق أصحابه على نقله ، ونص عليه في كتبه :

                                                                                                                                            أن المكاتب لا يعتق عليه في العموم إذا لم ينوه ، لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الكتابة كالبيع ، لأنها إزالة ملك بعوض ، فانتقل بها الملك في الظاهر ، وإن جاز عوده إلى ملكه بالعجز في الباطن ، فصار كالمبيع على مفلس قد انتقل الملك ، وإن جاز استرجاعه بالفلس ، وما زال به الملك لم يدخل في عموم الملك .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لما زال عن السيد ملك منافعه وكسبه ، وأروش جناياته ، وسقطت عنه نفقته وفطرته زال عنه ملك رقبته ، فلم يدخل في عموم ملكه .

                                                                                                                                            فإن قيل : الاستدلال بهذين معلول ، لأنه لو أعتقه عتق ، ولا ينفذ عتقه إلا في ملك .

                                                                                                                                            قيل : إنما عتق ، لأن عتقه إبراء ، وهو يعتق بالإبراء ، كما يعتق بالأداء ، فهذا تمام لذلك العتق الأول ، وليس بابتداء عتق في الرق .

                                                                                                                                            فإن قيل : فإذا جعلتم عتقه إبراء يعتق به في الخصوص : لزمكم أن تجعلوه إبراء يعتق به في العموم .

                                                                                                                                            قلنا : لا يلزم لوقوع الفرق بين من عتقه في الخصوص حيث جعلناه إبراء عتقه في العموم ، وهو أنه لما لم ينفذ صريح عتقه في الخصوص في غيره ، يعني به في غير المكاتب ، صار صريحا في إبرائه ، فعتق به .

                                                                                                                                            ولما نفذ صريح العتق في العموم في غيره ، صار كتابة في إبرائه ، فلم يبرأ إلا أن [ ص: 402 ] يقترن بالكتابة نية ، وجعلناه صريحا في الخصوص لا يعتبر فيه النية ، وكتابة في العموم تعتبر فيه النية ، فوقع الفرق بين الخصوص والعموم .

                                                                                                                                            ولذلك قال الشافعي - رضي الله عنه - إلا أن ينويه ، فيصير بالنية حرا ، لأنه قد صار بالنية مبرأ فإن قيل : فقد دخلتم في فرقكم بين الخصوص والعموم في نفوذ العتق فيما أنكرتموه على أبي حنيفة - رضي الله عنه - في فرقه بين الخصوص والعموم في طلاق المختلعة حيث أوقع الطلاق عليها في الخصوص إذا قال لها : أنت طالق ، ولم يوقعه عليها في العموم إذا قال : كل نسائي طوالق ، فارتكبتم ما أنكرتموه على غيركم .

                                                                                                                                            قيل : لا يدخل هذا الإلزام علينا ، لأن للطلاق وجها واحدا أوجب أن يستوي فيه حكم الخصوص والعموم ، ولعتق المكاتب وجهان فجاز أن يفترق فيها حكم العموم والخصوص .

                                                                                                                                            فأما قول الشافعي : لأن الظاهر أن المكاتب خارج من ملكه بمعنى وداخل فيه بمعنى ، ففيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : خارج من ملكه بعقد الكتابة ، وداخل فيه بالعجز .

                                                                                                                                            والثاني : خارج من ملكه ، لعدم تصرفه ، وداخل في ملكه لثبوت عجزه . والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية