الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 411 ] باب جامع الأيمان الثاني

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله : " وإذا حلف لا يأكل الرؤوس فأكل رؤوس الحيتان أو رؤوس الطير أو رؤوس شيء يخالف رؤوس الغنم والإبل والبقر ، لم يحنث من قبل أن الذي يعرف الناس إذا خوطبوا بأكل الرؤوس إنما هي ما وصفنا إلا أن يكون بلاد لها صيد يكثر كما يكثر لحم الأنعام في السوق وتميز رؤوسها ، فيحنث في رؤوسها " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اعلم أنه لا يخلو حال إذا حلف : لا يأكل الرؤوس ، من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يريد عموم الرؤوس كلها مما انطلق اسم الرأس عليه ، فيحنث بأكل كل ما سمي رأسا مما يفصل من أبدانها ، كرؤوس الغنم أو لا يفصل كرؤوس الطير ، والحيتان ، اعتبارا بمراده فيما انطلق عليه حقيقة الاسم .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يريد تخصيص نوع من الرؤوس بعينها دون ما عداها ، فيحنث بأكلها وحدها ، سواء انفصل في العرف أو لم ينفصل ، ولا يحنث بأكل ما عداها ، اعتبارا بمراده في التخصيص .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن يطلق اسم الرؤوس ، ولا تكون له إرادة في عموم ، ولا تخصيص ، فلا خلاف بين الفقهاء أنه لا يحمل على العموم في ما انطلق اسم الرأس عليه ، فلا يحنث بأكل رؤوس الطير والحيتان والجراد ، وإن اتفق عليها حقيقة اسم الرؤوس بخروجه عن العرف ، فصارت الحقيقة مخصوصة بالعرف ، كما خصت الأرض فيمن حلف لا يقعد على بساط بالعرف ، وكما خصت الشمس فيمن حلف لا يقعد في سراج بالعرف . وإذا كان الحنث معتبرا فيها بالعرف دون الحقيقة ، فقد اختلف الفقهاء فيما يحنث به من أكل الرؤوس عند إطلاقها .

                                                                                                                                            فذهب الشافعي - رضي الله عنه - إلى أنه يحنث بأكل رؤوس النعم من الإبل والبقر والغنم ، ولا يحنث بغيرها من رؤوس الطير والحيتان ، وهو عرف الحجاز ، لأنهم يفصلون رؤوس هذه الثلاثة من أجسادها ، ويفردون بيعها في أسواقها .

                                                                                                                                            [ ص: 412 ] وقال أبو حنيفة : يحنث بأكل رؤوس البقر والغنم ، ولا يحنث بأكل رؤوس الإبل ، وهو عرف أهل الكوفة ، لاختصاصهم بإفراد رؤوس هذين النوعين بالبيع بعد انفصالها دون رؤوس الإبل ، وتعليلا بأن رؤوس الغنم تشوى وتكبس ، ورؤوس البقر تكبس ولا تشوى ، ورؤوس الإبل لا تشوى ولا تكبس .

                                                                                                                                            وقال أبو يوسف ومحمد : لا يحنث إلا بأكل رؤوس الغنم وحدها ، اعتبارا بعرف بغداد ، وتعليلا بأنها تشوى وتكبس ، ولا يجمع الأمران في غيرها ، وكلا التعليلين دعوى مدفوعة ، لوجود الأمرين في الثلاثة كلها .

                                                                                                                                            واختلف أصحابنا في تعليل ما ذهب إليه الشافعي - رضي الله عنه - من حنثه برؤوس الثلاثة كلها على وجهين يحتملهما كلام الشافعي :

                                                                                                                                            أحدهما : لاختصاصها بقطع رؤوسها عن أجسادها ، وإفراد بيعها في أسواقها ، فعلى هذا إن كان في بلاد الفلوات يكثر فيها الصيد وتقطع رؤوسه من أجساده ، ويفرد بيعه في أسواقه أو كان في بلاد البحار بلد يكثر فيه الحيتان وتقطع رؤوسها عن أجسادها ، ويفرد بيعها في أسواقها حنث أهلها بأكل رؤوسها ، كما يحنث أهل أمصار الريف بأكل رؤوس الغنم ، فعلى هذا هل يكون عرف هذه البلاد المختلفة مقصورا على أهلها أو عاما فيهم ، وفي الطارئ إليها ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه خاص في أهلها دون الطارئ إليها ، تغليبا لعرف الحالف ، فإن دخل أهل الريف إلى بلاد الفلوات والبحار لم يحنثوا إلا برؤوس الغنم ، وإن دخل أهل الفلوات إلى أمصار الريف لم يحنثوا إلا برؤوس الصيد ، وإن دخل أهل البحار إلى أمصار الريف لم يحنثوا إلا بأكل رؤوس الحيتان .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه عام في أهلها ، وفي الطارئ إليها ؛ تغليبا لعرف المكان ، فإن دخل أهل الريف إلى بلاد الفلوات ، حنثوا برؤوس الصيد ، وإن دخلوا إلى بلاد البحار حنثوا برؤوس الحيتان .

                                                                                                                                            وإن دخل أهل الفلوات والبحار إلى بلاد الريف حنثوا برؤوس النعم .

                                                                                                                                            وفي بقاء حنثهم بعرف بلادهم وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه باق عليهم لاستقراره عندهم ، فعلى هذا يحنث أهل الريف في بلاد الفلوات بأكل رؤوس الصيد ، وبأكل رؤوس النعم ، ويحنثون في بلاد البحار بأكل [ ص: 413 ] رؤوس الحيتان مع رؤوس النعم ، ويحنث أهل الفلوات ، في بلاد الريف بأكل رؤوس النعم ، وأكل رؤوس الصيد ، ويحنث أهل البحار فيها بأكل رؤوس الحيتان ، وبأكل رؤوس النعم .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه يزول عنهم في بلادهم بانتقالهم عنها ، فلا يحنث أهل الفلوات والبحار في بلاد الريف إلا برؤوس النعم .

                                                                                                                                            ولا يحنث أهل الريف في بلاد الفلوات إلا برؤوس الصيد ، وفي بلاد البحار إلا برؤوس الحيتان .

                                                                                                                                            فهذا حكم التعليل في هذا الوجه الأول .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : في تعليل حنثه برؤوس النعم أن عرف كلامهم يتوجه إليها ، وإفراد أكلها مختص بها ، فإنه لا يعرف ممن قال : أكلت الرؤوس إلا رؤوس النعم ، وغيرها يؤكل مع أجسادها .

                                                                                                                                            وفي التعليل تميز من وجه ، وامتزاج من وجه ، فعلى هذا هل يكون عرف البلد خاصا فيه أو عاما في جميع البلاد ، على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو الظاهر من مذهب الشافعي - رضي الله عنه - أنه يصير عاما في البلاد كلها ، فيحنث جميعهم برؤوس النعم الثلاثة .

                                                                                                                                            وإن عرفنا أن لبعض البلاد عرفا في البلاد كلها ، فيحنث جميعهم برؤوس النعم الثلاثة ورؤوس الصيد والحيتان ، حنث جميع الناس ، وإن لم يعلمه لم يحنثوا .

                                                                                                                                            والشافعي - رضي الله عنه - إنما خص الحنث برؤوس النعم الثلاثة ، لأنه لم يعلم عرف بلد في غيرها ، ولو علم لحنث بها جميع الناس كما حنث برؤوس النعم ، ولذلك حنث القروي إذا حلف لا يسكن بيتا ، فسكن بيتا من بيوت البادية ، لأن عرف البادية جار به ، كما أن الخليفة لو حلف لا يأكل الخبز وعادته خبز البر ، فأكل خبز الشعير ، حنث به ، لأن عرف أهل الفاقة جار به .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو قول أبي العباس بن سريج ، أن عرف كل بلد مخصوص في أهله مقصور عليهم دون غيرهم .

                                                                                                                                            فعلى هذا يحنث أهل الحجاز برؤوس النعم الثلاثة من الإبل والبقر والغنم ، كما قال الشافعي رضي الله عنه اعتبارا بعرفهم ويحنث أهل الكوفة برؤوس البقر والغنم ، ولا يحنث برؤوس الإبل اعتبارا بعرف أهلها . قال أبو حنيفة : ويحنث أهل بغداد والبصرة برؤوس الغنم ، ولا يحنثون برؤوس البقر والإبل ، كما قال أبو يوسف ومحمد [ ص: 414 ] اعتبارا بعرفهم . وهذا قول من لم يحنث القروي بسكنى بيت الشعر .

                                                                                                                                            فإن انتقل أهل بلد لهم فيه عرف إلى بلد يخالفونهم في العرف ، ففيما يحنثون به ثلاثة أوجه هي مجموع ما شرحناه :

                                                                                                                                            أحدها : يحنثون بعرف بلدهم الذي انتقلوا عنه .

                                                                                                                                            والثاني : يحنثون بعرف البلد الذي انتقلوا إليه .

                                                                                                                                            والثالث : يحنثون بعرف البلدين معا . والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية