الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الباب الخامس .

: في كلام المحتضرين من الخلفاء والأمراء والصالحين .

لما حضرت معاوية بن أبي سفيان الوفاة قال : أقعدوني ، فأقعد فجعل يسبح الله تعالى ويذكره ، ثم بكى ، وقال : تذكر ربك يا معاوية بعد الهرم والانحطاط إلا ، كان هذا وغصن الشباب نضر ريان ، وبكى حتى علا بكاؤه ، وقال : يا رب ارحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي ، اللهم أقل العثرة واغفر الزلة وعد بحلمك على من لا يرجو غيرك ، ولم يثق بأحد سواك .

وروي عن شيخ من قريش أنه دخل مع جماعة عليه في مرضه فرأوا في جلده غضونا فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، فهل الدنيا أجمع إلا ما جربنا ورأينا أما والله لقد استقبلنا زهرتها بجدتنا وباستلذاذنا بعيشنا فما لبثت الدنيا أن نقضت ذلك منا حالا بعد حال ، وعروة بعد عروة ، فأصبحت الدنيا وقد وترتنا وأخلفتنا واستلأمت إلينا أف ، للدنيا من دار ، ثم أف لها من دار .

ويروى أن آخر خطبة خطبها معاوية أن قال : أيها الناس إني من زرع قد استحصد وإني قد وليتكم ولن يليكم أحد من بعدي إلا وهو شر مني كما كان من قبلي خيرا مني ويا يزيد إذا وفي أجلي فول غسلي رجلا لبيبا ، فإن اللبيب من الله بمكان ، فلينعم الغسل وليجهر بالتكبير ، ثم اعمد إلى منديل في الخزانة فيه ثوب من ثياب النبي صلى الله عليه وسلم وقراضة من شعره وأظفاره فاستودع القراضة أنفي وفمي وأذني وعيني واجعل الثوب على جلدي دون أكفاني ، ويا يزيد ، احفظ وصية الله في الوالدين ، فإذا أدرجتموني في جديدي ووضعتموني في حفرتي فخلوا معاوية وأرحم الراحمين وقال محمد بن عتبة لما نزل بمعاوية الموت قال : يا ليتني كنت رجلا من قريش بذي طوى وإني لم أل من هذا الأمر شيئا .

ولما حضرت عبد الملك بن مروان الوفاة نظر إلى غسال بجانب دمشق يلوي ثوبا بيده ثم يضرب به المغسلة ، فقال عبد الملك : ليتني كنت غسالا آكل من كسب يدي يوما بيوم ، ولم أل من أمر الدنيا شيئا ، فبلغ ذلك أبا حازم فقال : الحمد لله الذي جعلهم إذا حضرهم الموت يتمنون ما نحن فيه ، وإذا حضرنا الموت لم نتمن ما هم فيه .

وقيل لعبد الملك بن مروان في مرضه الذي مات فيه كيف تجدك يا أمير المؤمنين ؟ قال : أجدني كما قال الله تعالى : ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم الآية ومات .

وقالت فاطمة بنت عبد الملك بن مروان امرأة عمر بن عبد العزيز كنت أسمع عمر في مرضه الذي مات فيه يقول : اللهم أخف عليهم موتي ولو ساعة من نهار ، فلما كان اليوم الذي قبض فيه خرجت من عنده فجلست في بيت آخر بيني وبينه باب وهو في قبة له ، فسمعته يقول : تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ثم هدأ فجعلت لا أسمع له حركة ولا كلاما فقلت : لوصيف له انظر أنائم هو ؟ فلما دخل صاح ، فوثبت فإذا هو ميت .

وقيل له لما حضره الموت: اعهد يا أمير المؤمنين ، قال أحذركم : مثل مصرعي هذا فإنه لا بد لكم منه .

التالي السابق


* (الباب الخامس: في كلام المحتضرين من الخلفاء والأمراء والصالحين) *

(لما حضرت معاوية بن أبي سفيان الوفاة قال: أقعدوني، فأقعد فجعل يسبح الله تعالى ويذكره، ثم بكى، وقال: تذكر ربك يا معاوية بعد الهرم والانحطاط، ألا كان هذا وغصن الشباب نضر ريان، وبكى حتى علاه بكاؤه، وقال: يا رب ارحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي، اللهم أقل العثرة واغفر الزلة وعد بحلمك على من لم يرج غيرك، ولم يثق بأحد سواك) .

قال محمود بن محمد بن الفضل في كتاب المتفجعين: حدثنا أحمد بن الأسود الحنفي، حدثنا العتبي، عن عقبة بن هارون، عن مسلمة بن محارب، عن داود بن أبي هند، قال: تمثل معاوية عند موته:

هو الموت لا منجا من الموت والذي نحاذر بعد الموت أدهى وأفظع



اللهم فأقل العثرة واعف عن الزلة، وعد بحلمك على من لم يرج غيرك، ولم يثق إلا بك، فإنك واسع المغفرة، يا رب، أين لذي خطيئة مهرب إلا إليك، قال داود: فبلغني أن ابن المسيب قال حين بلغه ذلك: لقد رغب إلى من لا مرغوب إليه مثله كرما، وإني لأرجو له.

وقال: حدثنا عبد الله بن الهيثم، حدثنا الوليد بن هشام بن قحذم قال: لما احتضر معاوية جعل بناته يقلبنه وهو يقول: إنكن لتقلبن حوليا قلبيا، إن نجا من عذاب الله غدا، ثم تمثل:

لا يبعدن ربيعة بن مكدم وسقى الغوادي قبره بذنوب



وقال: حدثنا مسلمة بن عبد الملك بن يزيد، حدثني عمى الوليد بن يزيد قال: لما احتضر معاوية تمثل:

بكى حارث الجولان من فقد أهله فحوران منه موحش متضايق



(وروي عن شيخ من قريش أنه دخل مع جماعة عليه في مرضه) الذي توفي فيه (فرأوا في جلده غضونا) أي: تكسرا (فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فهل الدنيا أجمع إلا ما جربنا ورأينا أما والله لقد استقبلنا زهرتها بجدتنا) أي: بنشاطنا (وباستلذاذنا بعيشنا فما لبثت الدنيا أن نقضت ذلك منا حالا بعد حال، وعروة بعد عروة، فأصبحت الدنيا وقد وترتنا وأخلقتنا واستلأمت إلينا، فأف للدنيا من دار، ثم أف لها من دار) رواه ابن أبي الدنيا في المحتضرين .

(ويروى أن آخر خطبة خطبها معاوية إذ قال: أيها الناس إني من زرع قد استحصد وإني قد وليتكم ولن يليكم أحد من بعدي إلا وهو شر مني كما كان من قبلي خيرا مني ويا يزيد) يعني ولده (إذا وفي أجلي فول غسلي رجلا لبيبا، فإن اللبيب من الله بمكان، فلينعم الغسل وليجهر بالتكبير، ثم اعمد) أي: اقصد (إلى منديل في الخزانة فيه ثوب من ثياب النبي -صلى الله عليه وسلم- وقراضة من شعره وأظفاره فاستودع القراضة أنفي وفمي وأذني وعيني واجعل الثوب على جلدي دون أكفاني، ويا يزيد، احفظ وصية الله في الوالدين، فإذا أدرجتموني في جديدي ووضعتموني في حفرتي فخلوا معاوية وأرحم الراحمين) .

قال ابن أبي الدنيا، حدثني هارون بن سفيان، عن عبد الله السهمي، حدثنا ثمامة بن كلثوم أن معاوية قال: يا يزيد إذا وفي أجلي فول غسلي رجلا لبيبا، فذكره. إلخ. وفيه فخلوا [ ص: 322 ] بين معاوية وأرحم الراحمين .

وقال صاحب كتاب المتفجعين: حدثنا محمد بن علي بن ميمون العطار، حدثنا أبو طاهر موسى بن محمد بن عطاء المقدسي، حدثنا خالد بن يزيد بن صالح المري، عن يونس بن حليس، عن الضحاك بن قيس، قال: شهدت معاوية وهو يموت، فقال: لقد أردفني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم التفت إلي فقال: ألا أكسوك قميصا؟ قلت: نعم، فخلع قميصه وكساني فلبسته، ثم نزعته فدفعته إلى رملة بنت معاوية، وشهدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد قص من شعره وأظفاره فأخذه ودفعه إلي فجعلته في صرة وختمت عليه ودفعته إلى رملة، ثم قال: إذا مت فاجعلوا قميصي الذي كسانيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما يلي جلدي، وخذوا أظفاره وشعره فاحشوا بها أنفي وفمي وعيني، ثم بكى وبكينا، فلما مات معاوية فعلنا ذلك.

(وقال محمد بن عتبة) القاضي الشامي روى له ابن ماجه (لما نزل بمعاوية الموت قال: يا ليتني كنت رجلا من قريش بذي طوى) موضع بمكة (وإني لم أل من هذا الأمر شيئا) رواه ابن أبي الدنيا وقال محمود بن محمد بن الفضل، حدثنا علي بن عثمان النفيلي، حدثنا أبو مسهر، حدثنا خالد بن يزيد بن صالح بن صبيح المري حدثني أبي حدثني سعيد بن حريث، قال: لما كانت الغداة التي مات معاوية في ليلتها فزع الناس إلى المسجد ولم يكن خليفة بالشام قبله مات، فكنت فيمن أتى المسجد، فلما ارتفع النهار وهم يبكون في الخضراء وابنه يزيد غائب في البرية، وهو ولي عهده وخليفته يومئذ على دمشق الضحاك بن قيس الفهري، إذ قعقع باب النحاس الذي يخرج منه إلى المسجد من الخضراء، فزلف الناس إلى المقصورة ودنوت فيمن دنا منهم إليها، فبينا نحن كذلك خرج علينا رجل على يده اليسرى ثياب ملفوفة، فإذا هو الضحاك بن قيس الفهري فدنا من المنبر فاتكأ عليه بيده اليسرى، ودنا الناس منه فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أيها الناس إني قائل لكم قولا، فرحم الله امرأ وعى ما سمع مني ولم يزد فيه ولم ينقص، تعلمون أن معاوية كان أحد العرب مكن الله له في البر والبحر، وأذاقكم معه الخفض والطمأنينة ولذاذة العيش وأهوى بيده إلى فيه، وإنه قد هلك، رحمة الله عليه، وهذه أكفانه على يدي ونحن مدرجوه فيها ودافنوه وإياها، ومخلون بينه وبين ربه، ثم هي والله البلايا بعده، والملاحم والفتن وما توعدون إلى يوم القيامة، ثم دخل الخضراء، ثم خرج لصلاة الظهر فصلى بنا الظهر، ثم خرجوا بجنازة معاوية ودفنوه، ولما يلحق به ولده يزيد وحفيده معاوية بن يزيد.

قال محمود بن محمد بن الفضل، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الكزبراني، حدثنا الحسن بن محمد بن أعين، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن مروان، عن أبيه قال: قال عامر بن مسعود الجمحي: كنا جلوسا في مجلس عند الكعبة إذ مر يزيد ينعي معاوية، فقلت: لأصحابي قوموا بنا إلى ابن عباس، وهو يومئذ بمكة، وقد كف بصره فنكون أول من نخبره، ونسمع ما يقول، فأتيناه فاستأذنا عليه فدخلنا، فإذا بين يديه خوان عليه الكفرى، ولم يوضع الخبز، فسلمنا وقلنا: هل أتاك الخبر يا ابن عباس؟ قال: وما هو؟ قلنا: يزيد ينعي معاوية، فقال: ارفع خوانك يا غلام، ثم ظل واجما كئيبا مطأطئا رأسه لا يتكلم طويلا، ثم رفع رأسه وقال:

جبل تزعزع ثم صال بركنه في البحر لا ارتفعت عليه الأبحر

، ثم قال: اللهم فإنك أوسع لمعاوية، أما والله ما كان مثل من كان قبله، ولا يكون بعده مثله، وإن ابنه هذا من صالحي أهل بيته لقومه وما نحن وبنو عمنا هؤلاء إلا كعضوي لقمان قتل صاحبنا غيرهم وقتل صاحبهم غيرنا، فأغروا بنا وأغرينا بهم، أما والله ما أغراهم بنا ألا أنهم لم يجدوا مثلنا وما أغرانا بهم إلا أنا لم نجد مثلهم، وقد قال الأول ألطمك لأني لم أجد مثلك، فاتقوا الله يا معشر فتيان قريش، ولا تقولوا ذهب جد بني أمية، ذهب لعمر الله جدهم وبقيت بقية هي أكثر مما مضى، الزموا منازلكم وأدوا بيعتكم، قرب خوانك يا غلام، فإنا لنتغدى إذ جاء رسول أمير مكة يقول: يدعوك الأمير للبيعة، قال: وما تصنعون برجل قد ذهب منه ما تخافون، قل له: افرغ مما عندك فإذا سهل الممشى أتيتك فصنعت ما تريد، فلما خرج الرسول قلنا: أتبايع يزيد وهو يشرب الخمر، فقال: إني قلت لكم آنفا تسمعون ولا تعون، كم من شارب للخمر وشر منه من لا يشرب الخمر، ستبايعونه على ما أراد حتى يصلب مصلوب قريش، فرجع الرسول فقال: إنه لا بد أن تأتيه، قال: يا نوار هات ثيابي إن كان لا بد، وما تصنعون برجل ذهب منه ما تخافون، امتنعوا مما قد أظلكم صبحكم أو مساكم بذلكم، ثم قام وقمنا معه فأتينا الأمير فبايعه وبايعناه.

وقال هشام ابن الكلبي، عن عوانة: لما احتضر يزيد بن معاوية قال: [ ص: 323 ]

لعمري لقد عمرت في الملك برهة ودانت لي الدنيا بوقع البواتر
فأضحى الذي قد كان قبل يسرني كحلم مضى في المزمنات الغوابر
فيا ليتني لم أغن في الناس ساعة ولم أغن في لذات عيش مفاخر
وكنت كذي طمرين عاش ببلغة من العيش حتى صار رهن المقابر



وقال الزبير بن بكار، حدثني محمد بن الضحاك بن عثمان، عن أبيه قال: حضرت معاوية بن يزيد الوفاة، قيل له: اعهد قال: لا أتزود مرارتها وأترك لبني أمية حلاوتها، وكان ناسكا وقال: ليتني كنت حيضة، ولم أعلم أن الله -عز وجل- خلق نارا يعذب بها من عصاه .

(ولما حضر عبد الملك بن مروان) بن الحكم بن أبي العاص الأموي (الوفاة نظر إلى غسال بجانب دمشق يلوي ثوبا بيده ويضرب به المغسلة، فقال عبد الملك: ليتني كنت غسالا آكل كسب يدي يوما بيوم، ولم أل من أمر الدنيا شيئا، فبلغ ذلك أبا حازم) سلمة بن دينار الأعرج المدني التابعي (فقال: الحمد لله الذي جعلهم إذا حضرهم الموت يتمنون ما نحن فيه، وإذا حضرنا الموت لم نتمن ما هم فيه) .

رواه أبو الحسن المدائني، عن سعيد بن بشير، عن أبيه أن عبد الملك بن مروان لما حضرته الوفاة قال: أشرفوا بي على الغوطة، ففعلوا، فرأى غسالا يلوي ثوبا فقال: يا ليت أني كنت غسالا لا أعيش إلا بما كسبت يوما يوما، فبلغت كلمته أبا حازم فقال، فساقه .

(وقيل لعبد الملك بن مروان في مرضه) الذي مات فيه (كيف تجدك يا أمير المؤمنين؟ قال: أجدني كما قال الله تعالى: ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم الآية) رواه ابن أبي الدنيا، قال صاحب كتاب صفوة التاريخ يقال: هو آخر كلام سمع منه .

وقال محمود بن محمد بن الفضل، حدثنا علي بن عثمان النفيلي، حدثنا أبو مسهر، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، قال: دعا عبد الملك بن مروان بطعامه فوضع بين يديه، ثم قال: ائذنوا لابن هاشم خالد بن يزيد بن معاوية قالوا: أولم يمت؟ قال: ائذنوا لأبي عثمان أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، قالوا: أولم يمت؟ قال: ائذنوا لأبي زرعة روح بن زنباع، قالوا: أولم يمت؟ وقد علم بموتهم، ولكن أراد أن يتعظ، فقال: ارفعوا الطعام، ثم انتحب مليا وقال:


ذهبت لداتي وانقضت آثارهم وغبرت بعدهم ولست بغابر
وغبرت بعدهم فاسكن مرة بطن العقيق ومرة بالظاهر

فلم يحل عليه الحول .

وقال أيضا: حدثنا محمد بن علي بن بكر النحوي، حدثنا عمر بن خالد العثماني، حدثنا شيبة بن الوليد، عن عمه قال: حضرت موت عبد الملك، فلما دفناه قام عبد الرحمن بن خالد بن يزيد على قبره فبكى، ثم قال: أنت عبد الملك الذي كنت تعدني فأرجوك، وتوعدني فأخافك، أمسيت وما لك من الأرض العريضة التي ملكتها بالسيف إلا قيس مضجعك، ولا من أموالك التي تمتلكها بالغلبة إلا ثوباك، إن الذي يغتر بالدنيا بعدك لمغرور، وكان الشعبي حاضر فأعجبه .

وقال أيضا: حدثنا عبد الله بن الهيثم، حدثنا الأصمعي، قال: أثيرت صخرة أيام عبد الملك فوجدوا عليها مكتوبا:


ومن يحمد الدنيا لأمر يسره فسوف لعمري عن قليل يلومها
إذا أدبرت كانت عناء وحسرة وإن أقبلت كانت كثيرا همومها

فأخبر بذلك عبد الملك فجعل يبكي .

وقال أيضا: حدثنا عبيد الله بن محمد بن سليمان بن أبي شيخ، حدثنا محمد بن الحكم الشيباني، عن عوانة، قال: لما قتل عبد الملك مصعب بن الزبير تلقاه أهل الكوفة بالنخيلة، فأقبل على الهيثم بن الأسود وعمر وابن حريث يحدثهما فجعل عمرو يقول: هذا منزل بناه زياد، وهذه مقصورة بناها زياد، وهذا بناه المختار، فتمثل عبد الملك:


وكل جديد يا أميم إلى البلى وكل امرئ يوما يصير إلى كان

وقال له الهيثم: يا أمير المؤمنين رأيت ابن زياد في هذا المجلس ورأس الحسين بين يديه، ثم رأيت المختار جالسا ورأس ابن زياد بين يديه، ثم رأيت مصعبا جالسا فيه ورأس المختار بين يديه، وهذا رأس مصعب بين يديك، فوجم لها عبد الملك.

وقال أبو الحسن المدائني، عن أبي زكريا العجلاني: كان عبد الملك يقول: أخاف الموت في شهر رمضان فيه ولدت وفيه فطمت وفيه ختمت القرآن، وفيه بويع لي بالخلافة، فأنا أخاف الموت فيه، فمات في شوال حين أمن الموت في نفسه، ووثق بالحياة، وكان يقول: لله در ابن قمئة حيث يقول: [ ص: 324 ]

كأني وقد خلفت سبعين حجة خلعت بها عن منكبي ردائيا



ويتمثل:

رمتني سهام الدهر من حيث لا أرى فكيف بمن يرمى وليس برام
فلو أنها نبل إذا لاتقيتها ولكنما أرمى بغير سهام
فأفنى وما أفنى من الدهر ليلة ولم يغن ما أفنيت سلك نظام



قال له الشعبي: أفلا كما قال لبيد:


باتت تشتكي إلى الموت مجهشة وقد حملتك سبعا بعد سبعينا
فإن تزيدي ثلاثا تبلغي أملا وفي الثلاث وفاء للثمانينا

، ولما بلغ التسعين قال:


كأني وقد خلفت تسعين حجة خلعت بها عن منكبي ردائيا

فقال عبد الملك: فأين قول الذي يقول:


تطارحني يوما جديدا وليلة هما أبليا عظمي وكل امرئ بالي
وما لليالي لا يغيرن صورتي وأبلين أعمامي وأبلين أخوالي
إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله كفى قاتلا سلخ الشهور وإهلالي



وقال محمود بن محمد: حدثني أحمد بن أبي طاهر، حدثنا الزبير بن بكار، حدثني عمي مصعب بن الضحاك، عن أبيه، قال: دخل أرطاة بن سهية المري على عبد الملك فقال له: أنشدني من شعرك فأنشده:


رأيت المرء تأكله الليالي كأكل الأرض ساقطة الحديد
وما تجد المنية حين تأتي على نفس ابن آدم من مزيد
واعلم أنها ستكر حتى توفي نذرها بأبي الوليد



فوجم لها عبد الملك، وقال له: وما أنت وذكري في شعرك؟ قال: ما أردت والله إلا نفسي يا أمير المؤمنين أنا أبو الوليد، فقال عبد الملك: إني والله أبو الوليد، وجمع أصابعه في صدره، قال الزبير: سرق أرطاة هذا المعنى من زيان بن منظور الفزاري، قال زيان:


لئن فجعت بالقرناء يوما لقد متعت بالأمل البعيد
وما عند المنية فوق نفسي ولا نفس الأحبة من مزيد
خلقنا أنفسا وبني نفوس ولسنا بالجبال ولا الحديد



وقال محمود، حدثنا ابن الهيثم، قال: قال العتبي: لما احتضر عبد الملك بن مروان تبطح على فراشه، ثم قال: يا دنيا ما أطيب روحك ونسيمك، يا أهل العافية لا تستقلوا شيئا، منها حتى سمع كلامه من كان خارج القصر، ثم أنشد:


ومن يبق مالا عدة وصيانة فلا الشح يبقيه ولا الدهر وافره
ومن يك ذا عود صليب يعده ليكسر عود الدهر فالدهر كاسره



ومما يلحق به سليمان بن عبد الملك بن مروان

قال الواقدي: حدثنا داود بن خالد، عن سهيل بن أبي سهيل وكان خيارا غزاء، عن رجاء بن حيوة، قال: دخلت على سليمان بن عبد الملك وقد احتضر فوجدته قد ثقل وأخذته غشية فحرفته إلى القبلة فأفاق، فقال: يا رجاء لم يأن لذلك بعد، ثم كانت ثانية فذهبت لأحرفه فقال: يا رجاء لم يأن لذلك بعد، ثم أغمي عليه ثالثة فقال: يا رجاء إن كنت تريد أن تحرفني إلى القبلة فمن الآن، اللهم تجاوز عن ذنوبي فإني أشهد أن لا إله إلا أنت، ثم مات .

وقال أبو الحسن المدائني، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال: لما احتضر سليمان بن عبد الملك قال: إن بني صبية صغار أفلح من كان له كبار، فقال له عمر بن عبد العزيز: أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى، فقال سليمان: إن بني صبية صيفيون أفلح من كان له ربيعيون، إن بني صبية أطفال، أفلح من كان له رجال، فقال عمر: أفلح المؤمنون وتلا الآيات، فقال سليمان: اللهم أسألك منقلبا كريما، ثم قضى .

وقال محمود بن محمد، حدثنا محمد بن جبلة، حدثنا عبد الله بن هانئ، حدثنا ضمرة، عن ابن شوذب، قال: خطب سليمان بن عبد الملك بدابق، فقال في خطبته: لست بضرع صغير ولا هم كبير قد سسنا وساسنا السائسون، ثم نزل فما أتت عليه جمعة حتى مات .

(وقالت فاطمة بنت عبد الملك بن مروان امرأة عمر بن عبد العزيز) وابنة عمه (كنت أسمع عمر) -رحمه الله تعالى- (في مرضه الذي مات فيه يقول: اللهم اخف عليهم موتي ولو ساعة من نهار، فلما كان اليوم الذي قبض فيه خرجت من عنده [ ص: 325 ] فجلست في بيت آخر بيني وبينه باب وهو في قبة له، فسمعته يقول: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ثم هدأ) أي: سكن صوته (فجعلت لا أسمع له حركة ولا كلاما فقلت: لوصيف له انظر أنائم هو؟ فلما دخل صاح، فوثبت فإذا هو ميت) .

رواه أبو نعيم في الحلية قال: حدثنا أبو حامد بن جبلة، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا أبو كريب، حدثنا ابن المبارك، عن جرير بن حازم، عن المغيرة بن حكيم قال: حدثتني فاطمة امرأة عمر قالت: كنت أسمع عمر كثيرا يقول: اللهم أخف عنهم موتي ولو ساعة، فقلت له يوما: لو خرجت عنك فقد سهرت يا أمير المؤمنين لعلك تغفي، فخرجت إلى جانب البيت الذي كان فيه فسمعته يقول: تلك الدار الآخرة الآية، فجعل يرددها، ثم أطرق فلبث ساعة، ثم قلت لوصيف له كان يخدمه: ادخل فانظر، قال: فدخل فصاح، فدخلت فإذا هو قد أقبل بوجهه إلى القبلة وغمض عينيه بإحدى يديه وضم فاه بالأخرى .

(وقيل له لما حضره الموت: اعهد يا أمير المؤمنين، قال: أحذركم مثل مصرعي هذا فإنه لا بد لكم منه) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب المحتضرين .




الخدمات العلمية