الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 334 ] 25 - قالوا : حديث يكذبه النظر

        إذا وقع الذباب في الإناء

        قالوا : رويتم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه ، فإن في أحد جناحيه سما وفي الآخر شفاء ، وإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء قالوا : كيف يكون في شيء واحد سم وشفاء ؟ وكيف يعلم الذباب بموضع السم فيقدمه وبموضع الشفاء فيؤخره ؟

        قال أبو محمد : ونحن نقول : إن هذا الحديث صحيح ، وقد روي أيضا بغير هذه الألفاظ .

        حدثنا أبو الخطاب قال : نا أبو عتاب قال : حدثنا عبد الله بن المثنى قال : حدثني ثمامة قال : وقع ذباب في إناء ، فقال أنس بأصبعه فغمزه في الماء ، وقال : بسم الله ، فعل ذلك ثلاثا ، وقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يفعلوا ذلك ، وقال : في أحد جناحيه سم وفي الآخر شفاء .

        قال أبو محمد : ونقول : إن من حمل أمر الدين على ما شاهد فجعل البهيمة لا تقول ، والطائر لا يسبح ، والبقعة من بقاع الأرض لا تشكو إلى أختها ، والذباب لا يعلم موضع السم وموضع الشفاء ، واعترض على ما جاء في الحديث مما لا يفهمه ، فقال : كيف يكون قيراط مثل أحد ؟

        [ ص: 335 ] وكيف يتكلم بيت المقدس ؟ وكيف يأكل الشيطان بشماله ويشرب بشماله ؟ وأي شمال له ؟ وكيف لقي آدم موسى - صلى الله تعالى عليهما وسلم - حتى تنازعا في القدر وبينهما أحقاب ؟ وأين تنازعا ؟ فإنه منسلخ من الإسلام معطل ، غير أنه يستعد بمثل هذا وشبهه من القول واللغو والجدال ودفع الأخبار والآثار - مخالف لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولما درج عليه الخيار من صحابته والتابعون .

        ومن كذب ببعض ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان كمن كذب به كله ، ولو أراد أن ينتقل عن الإسلام إلى دين لا يؤمن فيه بهذا وأشباهه لم يجد منتقلا ؛ لأن اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والوثنية يؤمنون بمثل ذلك ويجدونه مكتوبا عندهم ، وما علمت أحدا ينكر هذا إلا قوما من الدهرية ، وقد اتبعهم على ذلك قوم من أهل الكلام والجهمية ، وبعد فما ينكر من أن يكون في الذباب سم وشفاء إذا نحن تركنا طريق الديانة ورجعنا إلى الفلسفة ، وهل الذباب في ذلك إلا بمنزلة الحية ؟ فإن الأطباء يذكرون أن لحمها شفاء من سمها إذا عمل منه الترياق الأكبر ، ونافع من لدغ العقارب وعض الكلاب الكلبة ، والحمى الربع ، والفالج ، واللقوة ، والارتعاش ، والصرع .

        وكذلك قالوا في العقرب إنها إذا شق بطنها ثم شدت على موضع اللسعة نفعت ، [ ص: 336 ] وإذا أحرقت فصارت رمادا ، ثم سقي منها من به الحصاة نفعته ، وربما لسعت المفلوج فأفاق وتلقى في الدهن حينا فيكون ذلك الدهن مفرقا للأورام الغليظة .

        والأطباء القدماء يزعمون أن الذباب إذا ألقي في الإثمد وسحق معه ، ثم اكتحل به زاد ذلك في نور البصر وشد مراكز الشعر من الأجفان في حافات الجفون .

        وحكوا عن صاحب المنطق أن قوما من الأمم كانوا يأكلون الذباب فلا يرمدون ، وقالوا في الذباب : إذا شدخ ووضع على موضع لسعة العقرب سكن الوجع ، وقالوا : من عضه الكلب احتاج إلى أن يستر وجهه من سقوط الذباب عليه لئلا يقتله ، وهذا يدل على طبيعة فيه شفاء أو سم .

        قال أبو محمد : وكيف تكون البهائم والحشرات لا تفهم إذا نحن تركنا طريق الديانة وقلنا بالفلسفة وبما يلحقه العيان ، ونحن نرى الذرة تدخر في الصيف للشتاء ، فإذا خافت العفن على ما ادخرت من الحب أخرجته إلى ظاهر الأرض فنشرته ليلا في القمر ، وإذا خافت نبات الحب نقرت وسط الحبة لئلا تنبت .

        وقال ابن عيينة : ليس شيء يدخر إلا الإنسان والنملة والفأرة ، [ ص: 337 ] وهذه الغربان لا تقرب نخلة موقرة ، فإذا صرمت النخلة سقطت عليها فلقطت ما في القلبة ، يعني الكرب ، وقالت الفلاسفة : إذا نهشت الإبل حية أكلت السراطين ، وقال ابن ماسويه : فلذلك نظن السراطين صالحة للمنهوشين .

        قالوا : والسلحفاة إذا أكلت أفعى أكلت سعترا جبليا .

        [ ص: 338 ] وابن عرس إذا قاتل الحية أكل السذاب ، والكلاب إذا كان في أجوافها دود أكلت سنبل القمح .

        قال أبو محمد : فأرى هذه على مذاهب الفلاسفة تفهم وتحسن الطب أيضا ، وهذا أعجب من معرفة الذباب بالسم والشفاء في جناحيه ، وكيف لا يعجبون من حجر يجذب الحديد من بعد ويطيعه حتى يذهب به يمينا وشمالا بذهابه ، وهذا حجر المغناطيس ، وكيف صدقوا بقول أرسطاطاليس في حجر السنفيل أنه إذا ربط على بطن صاحب الاستسقاء نشف منه الماء ، وأن الدليل على ذلك أنه يوزن بعد أن يشد على بطنه فيوجد قد زاد في وزنه .

        وذاكرت أيوب المتطبب بهذا أو حنينا فعرفه وقال : هذا الحجر مذكور في التوراة أو قال في غيرها من كتب الله عز وجل .

        وبقوله في حجر يسبح في الخل كأنه سمكة - وخرزة تصير في حقو المرأة فلا تحبل - وحجر يوضع على حرف التنور فيتساقط خبز التنور كله ، وحجر يقبض عليه القابض بكفيه فيلقي كل شيء في جوفه ، وبالصعيد من أرض مصر شجرة تعرف بالسنطة ، يشهر عليها السيف وتتوعد بالقطع فتذبل .

        وحدثني شيخ لنا عن علي بن عاصم ، عن خالد الحذاء ، عن محمد بن سيرين قال : اختصم رجلان إلى شريح ، فقال أحدهما : إني استودعت هذا وديعة فأبى أن يردها علي ، فقال له شريح : رد على الرجل وديعته ، [ ص: 339 ] فقال : يا أبا أمية إنه حجر إذا رأته الحبلى ألقت ولدها ، وإذا وقع في الخل غلي ، وإذا وضع في التنور برد . فسكت شريح ولم يقل شيئا حتى قاما ، وهذه الأشياء - رحمك الله - لا يضبطها وهم ، ولا يعرف أكثرها بقياس ، ولو تتبعنا مثل هذا من عجائب الخلق لكثر وطال .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية