الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال - رحمه الله - : وإذا دفع إلى رجل أرضا يزرعها سنته هذه ببذره وعمله على أنه إن زرعها في أول يوم من جمادى الأولى فالخارج بينهما نصفان ، وإن زرعها في أول يوم من جمادى الآخرة فالثلثان من الخارج لرب الأرض ، والثلث للمزارع فالشرط الأول جائز ، والثاني [ ص: 63 ] فاسد في قياس قول أبي حنيفة - رحمه الله - على قول من أجاز المزارعة ، وفي قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - الشرطان جائزان ، وهذه المسألة تنبني على ما بينا في الإجارات إذا دفع ثوبا إلى خياط ، فقال : إن خطته اليوم فلك درهم ، وإن خطته غدا فلك نصف درهم ، ووجه البناء عليه أن صاحب الأرض مؤاجر أرضه من صاحب البذر ، وإن كان البذر من قبل صاحب الأرض فهو مستأجر للعامل ، وقد شرط عليه إقامة العمل في أحد الوقتين وسمى بمقابلة العمل في كل وقت بدلا مخالفا للبدل الآخر ، فيكون بمنزلة الخياطة في اليوم ، وفي الغد عند أبي حنيفة - رحمه الله - الشرط الأول صحيح ، والثاني فاسد إما ; لأنه علقه بالأول ، أو لأنه اجتمع سببان في الوقت الثاني ، فإن زرعها في جمادى الأولى فالخارج بينهما نصفان ، وإن زرعها في جمادى الآخرة فالخارج كله لصاحب البذر ، وعليه أجر مثل الأرض إن كان البذر من قبل العامل ، وأجر مثل العامل إن كان البذر من قبل صاحب الأرض ، وعندهما الشرطان جميعا جائزان ، فإن زرعها في جمادى الآخرة فالخارج بينهما أثلاثا ، ولو قال على أن ما زرع من هذه الأرض في يوم كذا فالخارج منه بينهما نصفان ، وما زرع منها في يوم كذا فللمزارع ثلث الخارج ، ولرب الأرض ثلثاه ، فهذا فاسد كله ; لأنه أجرها على شيء غير معروف ; فإن مقدار ما يزرع منها في الوقت الأول على شرط النصف غير معلوم ، وكذلك مقدار ما يزرع في الوقت الثاني على شرط الثلث غير معلوم ، فيفسد العقد كله للجهالة ، كما لو دفع ثوبه إلى خياط على أن ما خاط منه اليوم فبحساب درهم ، وما خاط منه غدا فبحساب نصف درهم كان فاسدا كله ، ولو كان في المسألة الأولى زرع نصفها في أول يوم من جمادى الأولى ، ونصفها في أول يوم من جمادى الآخرة ، فما زرع في الوقت الأول فهو بينهما على ما اشترطا ، وما زرع في الوقت فهو لصاحب البذر في القول الأول ، وفي القول الثاني كل واحد منهما على ما اشترطا ; لأن الشرط الأول في المسألة الأولى كان صحيحا في القول الأول ، وفي القول الثاني الشرطان صحيحان فزراعة البعض معتبرة بزراعة الكل ، إذ ليس في هذا التبعيض إضرار بأحد ، وهو نظير مسألة الخياطة إذا خاط نصف الثوب اليوم ، ونصفه غدا فله - فيما خاطه اليوم - نصف درهم اعتبارا للبعض بالكل ، وفيما خاطه غدا - ربع درهم في قول أبي يوسف ومحمد وفي قول أبي حنيفة : أجر مثله لا ينقص عن ربع درهم ، ولا يزاد على نصف درهم اعتبارا للبعض بالكل بخلاف قوله على أن ما زرع منها ; لأن هناك صرح بالتبعيض ، والبعض الذي تناوله كل شرط مجهول في نفسه ، فكان العقد [ ص: 64 ] فاسدا وهنا أضاف كل شرط إلى جملة وهي معلومة ، والتبعيض عند إقامة العمل ، ولا جهالة في ذلك أيضا ، ولو قال على أنه إن زرعها بدالية أو سانية فالثلثان للمزارع ، والثلث لرب الأرض ، وإن زرعها بماء سيح أو سقت السماء فالخارج بينهما نصفان ، فهو جائز على ما اشترطا ، وهذا بناء على قول أبي حنيفة الآخر ، فأما على قياس قوله الأول ، وقول زفر - رحمه الله - فيفسد الشرطان جميعا ; لأنه ذكر نوعين من العمل ، وجعل بمقابلة كل واحد منهما جزءا من الخارج معلوما ، فهو بمنزلة ما لو دفع ثوبا إلى خياط على أنه إن خاطه خياطة رومية فأجره درهم ، وإن خاطه خياطة فارسية فأجره نصف درهم ، وقد بينا هذا في الإجارات ، ولو قال : على أن ما زرع منها بدلو فللعامل ثلثاه ، ولرب الأرض ثلثه ، وإن زرع منها بماء سيح فللعامل نصفه ، فهذه مزارعة فاسدة ; لجهالة كل واحد من العملين ، فإنه صرح بالتبعيض ، وشرط أن يزرع بعضها بدلو على أن له ثلثي الخارج ، وذلك البعض مجهول ، وكذلك فيما شرط الزراعة بماء السيح ، وهو بمنزلة رجل دفع إلى الخياط خمسة أثواب يقطعها قمصا على أن ما خاط منها روميا فله درهم في كل ثوب ، وما خاط منها فارسيا فله نصف درهم في كل ثوب ، وهناك يفسد العقد كله للجهالة ، فهذا قياسه

التالي السابق


الخدمات العلمية