الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واعلم أن المؤمن ينكشف له عقيب الموت من سعة جلال الله ما تكون الدنيا بالإضافة إليه كالسجن والمضيق .

ويكون مثاله كالمحبوس في بيت مظلم فتح له باب إلى بستان واسع الأكناف لا يبلغ طرفه أقصاه فيه أنواع الأشجار والأزهار والثمار والطيور فلا يشتهي العود إلى السجن المظلم وقد ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا فقال لرجل مات : أصبح هذا مرتحلا عن الدنيا وتركها لأهلها فإن كان قد رضي فلا يسره أن يرجع إلى الدنيا كما لا يسر أحدكم أن يرجع إلى بطن أمه فعرفك بهذا أن نسبة سعة الآخرة إلى الدنيا كنسبة سعة الدنيا إلى ظلمة الرحم وقال صلى الله عليه وسلم: إن مثل المؤمن في الدنيا كمثل الجنين في بطن أمه إذا خرج من بطنها بكى على مخرجه ، حتى إذا رأى الضوء ورضع لم يحب أن يرجع إلى مكانه ، وكذلك المؤمن يجزع من الموت فإذا أفضى إلى ربه لم يحب أن يرجع إلى الدنيا كما لا يحب الجنين أن يرجع إلى بطن أمه وقيل لرسول ، الله صلى الله عليه وسلم : إن فلانا قد مات فقال : مستريح أو مستراح منه أشار بالمستريح إلى المؤمن وبالمستراح منه إلى الفاجر إذ يستريح أهل الدنيا منه وقال أبو عمر : صاحب السقيا مر بنا ابن عمر ونحن صبيان فنظر إلى قبر فإذا جمجمة بادية فأمر رجلا فواراها ، ثم قال : إن هذه الأبدان ليس يضرها هذا الثرى شيئا ، وإنما الأرواح التي تعاقب وتثاب إلى يوم القيامة وعن عمرو بن دينار قال : ما من ميت يموت إلا وهو يعلم ما يكون في أهله بعده وإنهم ليغسلونه ويكفنونه وإنه لينظر إليهم وقال مالك بن أنس بلغني أن أرواح المؤمنين مرسلة تذهب حيث شاءت وقال النعمان بن بشير سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول : ألا إنه لم يبق من الدنيا إلا مثل الذباب يمور في جوها فالله الله في إخوانكم من أهل القبور فإن أعمالكم تعرض عليهم وقال أبو هريرة قال النبي ، صلى الله عليه وسلم : لا تفضحوا موتاكم بسيئات أعمالكم ، فإنها تعرض على أوليائكم من أهل القبور ولذلك قال أبو الدرداء اللهم إني أعوذ بك أن أعمل عملا أخزى به، عن عبد الله بن رواحة وكان قد مات وهو خاله وسئل عبد الله بن عمرو بن العاص عن أرواح المؤمنين إذا ماتوا أين هي ؟ قال : في حواصل طير بيض في ظل العرش وأرواح الكافرين في الأرض السابعة .

التالي السابق


(واعلم أن المؤمن ينكشف له عقيب الموت من سعة جلال الله وعظمته ما تكون الدنيا بالإضافة إليه كالسجن والمضيق ويكون مثاله كالمحبوس في بيت مظلم فتح له باب إلى بستان واسع الأكناف) بعيد الأقطار (لا يبلغ طرفه أقصاه فيه أنواع الأشجار والأزهار والطيور والثمار فلا يشتهي العود إلى السجن الضيق المظلم) وقد نقل ابن القيم في كتاب الروح أن للنفس أربع دور كل دار أعظم من التي قبلها، الأولى: بطن الأم [ ص: 384 ] وذلك محل الحصر والضيق والظلمات الثلاث، الثانية: هذه الدار التي نشأت فيها وألفتها واكتسبت فيها الخير والشر، الثالثة: دار البرزخ وهي أوسع من هذه الدار وأعظم ونسبة هذه الدار إليها كنسبة الدار الأولى إلى هذه، الرابعة: التي لا دار بعدها دار القرار الجنة أو النار ولها في كل دار من هذه الدور حكم وشأن غير شأن الأخرى. اهـ .

(وقد ضرب له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثلا فقال لرجل مات: أصبح هذا مرتحلا عن الدنيا وتركها لأهلها فإن كان قد رضي فلا يسره أن يرجع إلى الدنيا كما لا يسر أحدكم أن يرجع إلى بطن أمه) .

قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا من حديث عمرو بن دينار مرسلا ورجاله ثقات. اهـ .

قلت: وكذلك عزاه السيوطي في شرح الصدور لابن أبي الدنيا ولفظه: قال عمرو بن دينار أن رجلا مات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصبح هذا مرتحلا فذكره (فعرفك بهذا أن نسبة سعة الآخرة إلى الدنيا كنسبة سعة الدنيا إلى ظلمة الرحم) وعالم البرزخ داخل في الآخرة (وقال صلى الله عليه وسلم: إن مثل المؤمن في الدنيا كمثل الجنين في بطن أمه إذا خرج من بطنها بكى على مخرجه، حتى إذا رأى الضوء ورضع لم يحب أن يرجع إلى مكانه، وكذلك المؤمن يجذع من الموت فإذا أفضى إلى ربه لم يحب أن يرجع إلى الدنيا كما لا يحب الجنين أن يرجع إلى بطن أمه) ، قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا في الموت من رواية بقية عن جابر بن غانم السلفي عن سليم بن عامر الخبائري مرسلا هكذا. اهـ .

قلت: بقية بن الوليد الكلاعي من رجال مسلم صدوق كثير التدليس عن الضعفاء، وجابر بن غانم السلفي بضم السين المهملة وفتح اللام نسبة إلى السلف بطن من الكلاع، وروى عن سليم بن عامر وأسد بن وداعة، وعنه يحيى بن صالح الوحاظي وبقية، وكان ينزل حماة، وسليم بن عامر الكلاعي ويقال له: الخبائري بخاء معجمة موحدة أبو يحيى الحمصي ثقة تابعي روى له مسلم والأربعة، قال أبو حاتم: في المراسيل روى عن عوف بن مالك مرسلا، ولم يدرك المقداد بن الأسود ولا عمرو بن عبسة وأرخوا وفاته سنة ثلاثين ومائة، ومما يقوي هذا المرسل ما رواه الحكيم في نوادره من حديث أنس: ما شبهت خروج المؤمن من الدنيا إلا مثل خروج الصبي من بطن أمه من ذلك الغم والظلمة إلى روح الدنيا (وقيل لرسول، الله صلى الله عليه وسلم: إن فلانا قد مات فقال: مستريح أو مستراح منه) .

قال العراقي: متفق عليه من حديث أبي قتادة بلفظ: مر عليه بجنازة فقال ذلك، وهو عند ابن أبي الدنيا في الموت باللفظ الذي أورده المصنف اهـ .

قلت: ورواه كذلك مالك وأحمد وعبد بن حميد والترمذي بلفظ: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ مرت جنازة فقال: مستريح أو مستراح معه الحديث (أشار بالمستريح إلى المؤمن وبالمستراح منه إلى الفاجر إذ يستريح أهل الدنيا منه) قلت: هو في حديث أبي قتادة عند الشيخين قالوا: يا رسول الله، ما المستريح والمستراح منه؟ فقال: العبد المؤمن يستريح من تعب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله تعالى، والفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب، وعند النسائي من حديث أبي قتادة: المؤمن يموت فيستريح من أوصاب الدنيا ونصبها وأذاها، والفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب، وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن يزيد بن أبي زيادة قال: مر بجنازة على أبي جحيفة فقال: استراح واستريح منه (وقال أبو عمر: صاحب السقيا مر بنا) عبد الله (بن عمر) -رضي الله عنه- (ونحن صبيان فنظر إلى قبر فإذا جمجمة بادية فأمر رجلا فواراها، ثم قال: إن هذه الأبدان ليس يضرها هذا الثرى شيئا، وإنما الأرواح التي تعاقب وتثاب إلى يوم القيامة) .

رواه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور أنه نزل ابن عمر إلى جانب قبور قد درست فإذا جمجمة، إلخ، ونحو ذلك ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف وابن أبي الدنيا في كتاب العزاء عن صفية بنت شيبة قالت: كنت عند أسماء بنت أبي بكر حين صلب الحجاج ابنها عبد الله بن الزبير فأتاها ابن عمر يعزيها، فقال: يا هذه اتقي الله واصبري فإن هذه الجثث ليست بشيء وإنما الأرواح عند الله، قالت وما يمنعني من الصبر، وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا -عليهما السلام- إلى بغي من بغايا بني إسرائيل، وروى سعيد بن منصور في سننه أن ابن عمر عزاها فقال: لا تحزني فإن الأرواح عند الله تعالى في السماء، وإنما هذه جثة، وروى ابن سعد في الطبقات عن خالد بن معدان قال: لما انهزمت الروم يوم أجنادين انتهوا إلى موضع لا يعبره إلا إنسان إنسان فجعلت الروم تقاتل عليه فتقدم هشام بن العاص فقاتلهم حتى قتل، ووقع على تلك الثلمة [ ص: 385 ] فسدها فلما انتهى المسلمون إليها هابوا أن يوطئوه الخيل، فقال عمرو بن العاص: إن الله قد استشهده ورفع روحه وإنما هو جثة فأوطئوه الخيل، ثم أوطأه هو وتبعه الناس حتى قطعوه،ورواه الواقدي كذلك وزاد: ثم جمعه عمرو بعد ذلك وحمله في نطع فواراه، قال السيوطي في شرح الصدور: قال ابن رجب: هذه الآثار لا تدل على الأرواح لا تتصل بالأبدان بعد الموت، إنما تدل على أن الأجساد لا تتضرر بما ينالها من عذاب الناس لها ومن أكل التراب لها فإن عذاب القبر ليس من جنس عذاب الدنيا، وإنما هو نوع آخر سيصل إلى الميت بمشيئة الله تعالى (وعن عمرو بن دينار) المكي أبو محمد الأثرم الجمحي مولاهم ثقة ثبت مات سنة ست وعشرين ومائة، روى له الجماعة (قال: ما من ميت يموت إلا وهو يعلم ما يكون في أهله بعده وأنهم ليغسلونه ويكفنونه وإنه لينظر إليهم) .

رواه أبو نعيم في الحلية، وسيذكر قريبا نحوه من حديث أبي سعيد الخدري وغيره، وقد ورد ما يدل أن ذلك للشهيد خاصة، وأخرج ابن منده من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن حيان بن جبلة قال: بلغني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إن الشهيد إذا استشهد أنزل الله جسدا كأحسن جسد كان، ثم يقال لروحه: ادخلي فيه فينظر إلى جسده الأول ما يفعل به ويتكلم فيظن أنهم يسمعون كلامه وينظر إليهم فيظن أنهم يرونه حتى تأتيه أزواجه يعني من الحور العين فيذهبن به (وقال مالك بن أنس) رحمه الله تعالى (بلغني أن أرواح المؤمنين مرسلة تذهب حيث شاءت) .

رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت عن خالد بن خداش سمعت مالك بن أنس يقول ذلك، ورواه ابن منده من طريقه، فقال: أخبرنا الحسين بن محمد، أخبرنا محمد بن أحمد بن عمر أخبرنا ابن أبي الدنيا فذكره، ومسألة مستقر أرواح المؤمنين بعد مفارقتها الأجساد مشهورة مختلف فيها، وهذا أحد الأقوال، وروي نحو هذا القول عن سلمان -رضي الله عنه- قال: أما المؤمنون فإن أرواحهم في الجنة وهي تذهب حيث شاءت .

رواه البيهقي في البعث وفي لفظ: إن أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت، رواه ابن المبارك في الزهد، وفي لفظ: إن أرواح المؤمنين تذهب في برزخ من الأرض حيث شاءت بين السماء والأرض حيث يردها الله إلى جسدها (وقال النعمان بن بشير) الأنصاري -رضي الله عنهما- (سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر يقول: ألا إنه لم يبق من الدنيا إلا مثل الذباب تمور) أي: تضطرب في جوها وهو ما بين السماء والأرض (فالله الله في إخوانكم من أهل القبور فإن أعمالكم تعرض عليهم) .

قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا وأبو بكر بن لال من رواية مالك بن أدي عن النعمان من قوله: الله الله، ورواه بكماله الأزدي في الضعفاء وقال: لا يصح إسناده، وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل بكماله في ترجمة أبي إسماعيل السكوني عن مالك بن أدي، ونقل عن أبيه أن كلا منهما مجهول، وقد ذكر ابن حبان في الثقات مالك بن أدي اهـ .

قلت: ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب المقامات، وكذا الحكيم في النوادر والبيهقي في الشعب كلهم عن النعمان، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: الله الله في إخوانكم من أهل القبور فإن أعمالكم تعرض عليهم، ورواه بكماله أيضا الحكيم وابن لال ووقع في نسخة الكمال الدميري: إلا مثل الذباب يمر في قي، وعلى الهامش القي الأرض القفر الخالية (وقال أبو هريرة) رضي الله عنه: (قال النبي، صلى الله عليه وسلم: لا تفضحوا موتاكم بسيئات أعمالكم، فإنها تعرض على أوليائكم من أهل القبور) .

قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا والمحاملي بإسناد ضعيف ولأحمد من رواية من سمع أنسا عن أنس أن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات، الحديث. اهـ .

قلت: حديث أبي هريرة رواه أيضا الديلمي في مسند الفردوس والأصبهاني في الترغيب .

وأما حديث أنس فرواه أيضا الحكيم في النوادر وابن منده في كتاب الأحوال وتمامه، فإن كان خيرا استبشر به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا ونحو ذلك ما رواه الطيالسي في مسنده من حديث جابر بن عبد الله، إن أعمالكم تعرض على عشائركم وأقاربكم في قبورهم، فإن كان خيرا استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم ألهمهم أن يعملوا بطاعتك، وروى ابن المبارك وابن أبي الدنيا عن أبي أيوب قال: تعرض أعمالكم على الموتى فإن رأوا حسنا فرحوا واستبشروا، وإن رأوا سوءا قالوا: اللهم راجع به، وروى الحكيم في النوادر من حديث عبد الغفور بن عبد العزيز عن أبيه عن جده رفعه [ ص: 386 ] تعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس على الله تعالى وتعرض على الأنبياء وعلى الآباء والأمهات يوم الجمعة فيفرحون بحسناتهم وتزداد وجوههم بياضا وإشراقا فاتقوا الله ولا تؤذوا موتاكم، وروى ابن أبي الدنيا وابن منده وابن عساكر عن أحمد بن عبد الله بن أبي الحواري قال: حدثني أخي محمد بن عبد الله قال: دخل عباد الخواص على إبراهيم بن صالح الهاشمي وهو أمير فلسطين فقال له إبراهيم: عظني فقال: قد بلغني أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم من الموتى فانظر ما يعرض على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عملك .

(ولذلك قال أبو الدرداء) رضي الله عنه: (اللهم إني أعوذ بك أن أعمل عملا أخزى به عن عبد الله بن رواحة) بن ثعلبة بن امرئ القيس الخزرجي الأنصاري أحد السابقين -رضي الله عنه- (وكان قد مات) شهيدا بمؤتة، وكان ثالث الأمراء بها في جمادى الأولى سنة ثمان، وتأخر أبو الدرداء إلى خلافة عثمان (وهو خاله) أخو أمه، وأبو الدرداء اسمه عويمر وهو ابن عامر بن قيس بن أمية بن عامر بن عدي بن كعب بن الخزرج الأنصاري الخزرجي، وقال خليفة بن خياط أم أبي الدرداء صحبة بنت واقد بن عمرو بن الإطنابة بن عامر بن زيد مناة بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج، وهذا القول قد رواه ابن المبارك في الزهد والأصبهاني في الترغيب عن أبي الدرداء أنه كان يقول: اللهم إني أعوذ بك أن أعمل عملا يخزى به عبد الله بن رواحة، وكان يقول: إن أعمالكم تعرض على موتاكم فيسرون ويساءون، وروى ابن أبي الدنيا في كتاب الموت عنه أنه كان يقول: اللهم إني أعوذ بك أن يمقتني خالي عبد الله بن رواحة إذا لقيته، وفي الباب ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف والحكيم في النوادر، وابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن ميسرة قال: غزا أبو أيوب القسطنطينية فمر بقاص وهو يقول: إذا عمل العبد العمل في صدر النهار عرض على معارفه إذا أمسى من أهل الآخرة، وإذا عمل العبد العمل في آخر النهار عرض على معارفه إذا أصبح من أهل الآخرة، فقال أبو أيوب: اللهم إني أعوذ بك أن تفضحني عند عبادة بن الصامت وسعد بن عبادة بما عملت بعدهم فقال القاص: والله لا يكتب الله ولايته لعبد إلا ستر عوراته وأثنى عليه بأحسن عمله، وروى ابن المبارك في الزهد عن عثمان بن عبد الله بن أوس أن سعيد بن جبير قال له: استأذن على ابنة أخي وهي زوجة عثمان وهي ابنة عمرو بن أوس فاستأذن له عليها فدخل فقال: كيف يفعل بك زوجك؟ قالت: إنه إلي لمحسن ما استطاع فقال: يا عثمان أحسن إليها فإنك لا تصنع بها شيئا إلا جاء عمرو بن أوس فقلت: وهل يأتي الأموات أخبار الأحياء؟ قال: نعم ما من أحد له حميم إلا ويأتيه أخبار أقاربه فإن كان خيرا سر به وفرح وهنئ به، وإن كان شرا ابتأس وحزن (وسئل عبد الله بن عمرو بن العاص) رضي الله عنهم (عن أرواح المؤمنين إذا ماتوا أين) تكون (هي؟ قال: في صور طير بيض في ظل العرش وأرواح الكافرين في الأرض السابعة) .

رواه ابن أبي الدنيا في الموت وابن المبارك في الزهد إلا أن الأخير قال في صور طير، وزاد ابن أبي الدنيا بعد قوله السابعة: فإذا مات المؤمن مر به على المؤمنين وهم أندية فيسألونه عن بعض أصحابهم، فإن قال: مات قالوا سفل به، وإذا كان كافرا هوي به إلى الأرض السافلة فيسألونه عن الأرض فإن قال: مات، قالوا: علي به .



اعلم أن الأخبار الواردة في مقر الأرواح بعد الموت كثيرة، وفيها اختلاف فمنها في أرواح المؤمنين عامة، ومنها في الشهداء منهم خاصة، ومنها في ولدان المؤمنين وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحنث، ومنها في أرواح الكفار فالوارد في أرواح المؤمنين عامة هذا القول عن عبد الله بن عمر، وأنها في صور طير بيض في ظل العرش، وقول مالك السابق: إنها مرسلة تذهب حيث شاءت، ونحو قول ابن عمر وما رواه ابن منده والطبراني وأبو الشيخ عن ضمرة بن حبيب مرسلا قال: سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أرواح المؤمنين، فقال: في طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، قالوا: يا رسول الله وأرواح الكفار؟ قال: في سجين، وروى البيهقي في البعث والطبراني وأبو نعيم عن عبد الله بن عمر، وقال: الجنة ملوية في قرون الشمس تنشر في كل عام مرتين وأرواح المؤمنين في طير كالزرازير تأكل من ثمر الجنة، وأخرجه ابن منده عنه مرفوعا، وأخرجه الخلال عنه موقوفا بلفظ: أرواح المؤمنين في أجواف طير خضر كالزرازير يتعارفون فيها ويرزقون من ثمارها، وروى ابن منده عن أم كبشة بنت المعرور، قالت: دخل علينا النبي -صلى الله عليه وسلم- فسألناه عن هذه الروح فوصفها صفة لكنه أبكى أهل البيت [ ص: 387 ] فقال: إن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر ترعى في الجنة وتأكل من ثمارها وتشرب من مياهها وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش يقولون: ربنا ألحق بنا إخواننا وآتنا ما وعدتنا وإن أرواح الكفار في حواصل طير سود تأكل من النار وتشرب من النار وتأوي إلى جحر في النار، ويقولون: ربنا لا تلحق بنا إخواننا ولا تؤتنا ما وعدتنا، ويقرب من ذلك ما رواه مالك في الموطأ وأحمد والنسائي بسند صحيح عن كعب بن مالك، رفعه: إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعث، وروى أحمد والطبراني بسند حسن عن أم هانئ أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتزاور إذا متنا ويرى بعضنا بعضا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: تكون النسم طيرا تعلق بالشجر حتى إذا كان يوم القيامة دخلت كل نفس في جسدها، وروى ابن سعد من طريق محمود بن لبيد عن أم بشر بنت البراء أنها قالت: يا رسول الله هل يتعارف الموتى؟ قال: تربت يداك، النفس الطيبة طير خضر في الجنة، فإن كان الطير يتعارفون في رءوس الشجر فإنهم يتعارفون، وروى ابن عساكر من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود عن أم فروة بنت معاذ السلمية عن أم بشر امرأة أبي معروف قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتزاور يا رسول الله إذا متنا يزور بعضنا بعضا؟ فقال: تكون النسم طيرا تعلق شجرة حتى إذا كان يوم القيامة دخلت في جثتها، وروى ابن ماجه والطبراني والبيهقي في البعث بسند حسن عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: لما حضرت كعبا الوفاة أتته أم بشر بنت البراء فقالت: يا أبا عبد الرحمن إن لقيت فلانا فأقرئه مني السلام فقال: يغفر الله لك يا أم بشر نحن أشغل من ذلك، فقالت: أما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: نسمة المؤمن تسرح في الجنة حيث شاءت، ونسمة الكافر في سجين؟ قال: بلي قال: فذاك، ومنها ما رواه البيهقي في الدلائل وابن أبي حاتم وابن مردويه في تفسيريهما من حديث أبي سعيد الخدري: أتيت بالمعراج التي تعرج عليه أرواح بني آدم فلم ير الخلائق أحسن من المعراج، أما رأيت الميت يشق بصره طائحا إلى السماء، فإن ذلك عجبه فصعدت أنا وجبريل فاستفتح باب السماء فإذا أنا بآدم تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول: روح طيبة ونفس طيبة اجعلوها في عليين، ثم تعرض عليه أرواح ذريته الفجار فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة اجعلوها في سجين، وروى أبو نعيم بسند ضعيف من حديث أبي هريرة أن أرواح المؤمنين في السماء السابعة ينظرون إلى منازلهم في الجنة، وروى أبو نعيم أيضا عن وهب بن منبه قال: إن لله في السماء السابعة دارا يقال لها: البيضاء تجتمع فيها أرواح المؤمنين، فإذا مات الميت من أهل الدنيا تلقته الأرواح يسألونه عن أخبار الدنيا، كما يسأل الغائب أهله إذا قدم عليهم، ومن ذلك ما تقدم من قول ابن عمر لأسماء حين عزاها في ابنها عبد الله بن الزبير: لا تحزني فإن الأرواح عند الله في السماء، رواه سعيد بن منصور في سننه وقيل: إنها بين السماء والأرض روى سعيد بن منصور في سننه وابن جرير في كتاب الأدب عن المغيرة بن عبد الرحمن قال: لقي سلمان الفارسي عبد الله بن سلام، فقال له: إن مت قبلي فأخبرني بما تلقى، وإن مت قبلك أخبرتك، قال: وكيف وقد مت؟ قال: إن الروح إذا خرج من الجسد كانت بين السماء والأرض حتى يرجع إلى جسده، فقضي أن سلمان مات فرآه في المنام فقال: أخبرني أي شيء وجدته أفضل؟ قال: رأيت التوكل شيئا عجيبا، وروى ابن المبارك في الزهد والحكيم في النوادر وابن أبي الدنيا وابن منده عن سعيد بن المسيب عن سلمان قال: إن أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت، ونفس الكافر في سجين، قال ابن القيم: البرزخ هو الحاجز بين الشيئين فكأنه أراد في الأرض بين الدنيا والآخرة، وروى الحكيم عن سلمان قال: أرواح المؤمنين تذهب في برزخ من الأرض حيث شاءت بين السماء والأرض حتى يردها الله إلى جسدها، ومنها ما رواه المروزي في كتاب الجنائز عن العباس بن عبد المطلب، قال: ترفع أرواح المؤمنين إلى جبريل، فيقال: أنت ولي هذه إلى يوم القيامة، وروى ابن أبي الدنيا عن وهب بن منبه قال: أرواح المؤمنين إذا قبضت ترفع إلى ملك يقال له: رماييل وهو خازن أرواح المؤمنين، وروي عن أبان بن تغلب عن رجل من أهل الكتاب قال: الملك الذي على أرواح الكفار يقال له: دومة، وروى ابن منده من طريق سفيان عن أبان بن تغلب عن رجل، قال: بت ليلة بوادي برهوت فكأنما حشرت فيه أصوات الناس وهم يقولون: يا دومة يا دومة، وحدثنا رجال من أهل الكتاب أن دومة [ ص: 388 ] هو الملك الموكل بأرواح الكفار ومنها ما رواه المروزي في كتاب الجنائز وابن منده وابن عساكر عن عبد الله بن عمر، وقال: أرواح الكفار تجمع ببرهوت سبخة بحضرموت، وأرواح المؤمنين تجمع بالجابية برهوت باليمن والجابية بالشام، وروى ابن عساكر عن عروة بن رويم، قال: الجابية تجبى إليها كل روح طيبة، وروى أبو بكر بن النجار في جزئه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: خير وادي الناس وادي مكة، وشر وادي الناس وادي الأحقاف واد بحضرموت وفيه أرواح الكفار، وروى ابن منده وابن أبي الدنيا عن علي قال: أبغض بقعة في الأرض إلى الله واد بحضرموت يقال له: برهوت فيه أرواح الكفار، وروى ابن أبي الدنيا عن علي قال: أرواح المؤمنين في بئر زمزم، وروى الحاكم في المستدرك عن الأخنس بن خليفة الضبي أن كعب الأحبار أرسل إلى عبد الله بن عمرو يسأله عن أرواح المسلمين أين تجتمع وأرواح أهل الشرك أين تجتمع، فقال عبد الله: أما أرواح المسلمين فتجتمع بأريحاء، وأما أرواح أهل الشرك فتجتمع بصنعاء، فرجع رسول كعب إليه فأخبره بالذي قال فقال: صدق.



(فصل)

وأما أرواح الشهداء فروى مسلم من حديث ابن مسعود: أرواح الشهداء عند الله في حواصل طير خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش، وروى أحمد وأبو داود والحاكم والبيهقي عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لما أصيب أصحابكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، وروى سعيد بن منصور عن ابن عباس قال: أرواح الشهداء تجول في أجواف طير خضر تعلق في ثمر الجنة، روي عن أبي سعيد الخدري رفعه: الشهداء يغدون ويروحون، ثم يكون مأواهم إلى قناديل معلقة بالعرش فيقول الرب تعالى: هل تعلمون كرامة أفضل من كرامة أكرمتكموها؟ فيقولون: لا، غير أنا وددنا أنك أعدت أرواحنا إلى أجسادنا حتى نقاتل مرة أخرى فنقتل في سبيلك، وروى هناد في الزهد وابن منده من حديث أبي سعيد أن أرواح الشهداء في طير خضر ترعى في رياض الجنة، ثم يكون مأواها إلى قناديل معلقة بالعرش، فيقول الرب: وذكر نحوه، وروى أبو الشيخ من حديث أنس: يبعث الله الشهداء من حواصل طير بيض كانوا في قناديل معلقة بالعرش، وروى ابن منده عن سعيد بن سويد أنه سأل ابن شهاب عن أرواح المؤمنين قال: بلغني أن أرواح الشهداء كطير خضر معلقة بالعرش تغدو، ثم تروح إلى رياض الجنة تأتي ربها سبحانه وتعالى تسلم عليه، وروى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر في قناديل تحت العرش تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم ترجع إلى قناديلها، وروي عن أبي الدرداء أنه سئل عن أرواح الشهداء فقال: هي طائر خضر في قناديل معلقة تحت العرش تسرح في رياض الجنة حيث شاءت، وروى أحمد وعبد بن حميد وابن أبي شيبة والطبراني والبيهقي بسند حسن من حديث ابن عباس: الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج إليهم رزقهم من الجنة غدوة وعشية، وروى هناد في الزهد وابن أبي شيبة عن أبي بن كعب قال: الشهداء في قباب في رياض بفناء الجنة يبعث إليهم ثور وحوت فيعتركان فيلهون بهما فإذا احتاجوا إلى شيء عقر أحدهما صاحبه فيأكلون منه فيجدون فيه كل طعم كل شيء في الجنة، وروى البخاري عن أنس قال: لما قتل حارثة قالت أمه: يا رسول الله قد علمت منزلة حارثة مني فإن يكن في الجنة فأصبر، وإن يكن غير ذلك ترى ما أصنع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها جنان كثيرة وإنه في الفردوس الأعلى، وروى ابن أبي شيبة والبيهقي عن ابن عباس عن كعب قال: جنة المأوى فيها طير خضر ترتقي فيها أرواح الشهداء تسرح في الجنة وأرواح آل فرعون في طير سود تغدو على الناس وتروح، وروى هناد في الزهد عن هزيل قال: إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر وأرواح آل فرعون في أجواف طير سود تروح وتغدو على النار فذلك عرضها، وروى الترمذي من حديث كعب بن مالك أن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة أو شجر الجنة، قوله: تعلق بضم اللام أي تأكل العلقة وهي ما يتبلغ به من العيش، وروى ابن أبي شيبة عن عكرمة قال: أرواح الشهداء طير بيض فقاقيع في الجنة، وروى عبد الرزاق عن قتادة قال: بلغنا أن أرواح الشهداء في صور طير بيض تأوي إلى مناديل معلقة تحت العرش.



[ ص: 389 ] (فصل)

وأما أرواح أطفال المسلمين فروى ابن أبي حاتم في التفسير عن أبي الدرداء قال: إن أرواح ولدان المؤمنين في أجواف عصافير تسرح في الجنة حيث شاءت، وروى أحمد والحاكم وصححه والبيهقي وابن أبي الدنيا في البعث وابن أبي الدنيا أيضا في كتاب العزاء بطرق من حديث أبي هريرة أولاد المؤمنين في جبل في الجنة يكفلهم إبراهيم وسارة حتى يردوهم إلى آبائهم يوم القيامة، وروى ابن أبي الدنيا في كتاب العزاء من حديث ابن عمر: كل مولود يولد في الإسلام فهو في الجنة شبعان ريان يقول: يا رب أورد علي أبوي وأخرج فيه أيضا عن خالد بن معدان قال: إن في الجنة لشجرة يقال لها: طوبى، كلها ضروع فمن مات من الصبيان الذين يرضعون يرضع من طوبى وحاضنهم إبراهيم عليه السلام .

وروى أيضا عن عبيد بن عمير، قال: إن في الجنة لشجرة لها ضروع كضروع البقر يغذى بها ولدان أهل الجنة، وروى سعيد بن منصور من مرسل مكحول أن ذراري المسلمين أرواحهم في عصافير خضر في شجر في الجنة يكفلهم أبوهم إبراهيم، عليه السلام، وروى ابن أبي حاتم عن خالد بن معدان أن في الجنة شجرة يقال لها: طوبى كلها ضروع ترضع صبيان أهل الجنة وإن سقط المرء يكون في نهر من أنهار الجنة يتقلب فيه حتى تقوم القيامة فيبعث ابن أربعين سنة، وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس عن كعب قال: إن أطفال المسلمين في عصافير الجنة، وروى هناد في الزهد عن هزيل قال: أولاد المسلمين الذين لم يبلغوا الحنث عصافير من عصافير الجنة ترعى وتسرح .



(فصل)

قال ابن القيم في كتاب الروح: مسألة الأرواح بعد الموت عظيمة لا تتلقى إلا من السمع فقيل: إن أرواح المؤمنين كلهم في الجنة الشهداء وغيرهم إذا لم تحبسهم كبيرة لظاهر حديث كعب وأم هانئ وأم بشر وأبي سعيد وضمرة ونحوها، ولقوله تعالى: فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنت نعيم قسم الأرواح عقب خروجها من البدن إلى ثلاثة: مقربين وأخبر أنها في جنة نعيم. وأصحاب يمين وحكم بالسلام وهو يتضمن سلامتها من العذاب، ومكذبة ضالة وأخبر أن لها نزلا من حميم وتصلية جحيم، وقال تعالى: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك الآية، وقال جماعة من الصحابة والتابعين: إنه يقال لها ذلك عند خروجها من الدنيا على لسان الملك بشارة ويؤيده قوله تعالى في مؤمن آل يس: قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين وقيل: الأحاديث مخصوصة بالشهداء كما صرح به في رواية أخرى، ولقوله في غيرهم: إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، الحديث، ولحديث أبي هريرة السابق أنهم في السماء السابعة ينظرون إلى منازلهم في الجنة، وقال ابن حزم في طائفة مستقرها حيث كانت قبل أجسادها أي عن يمين آدم وشماله، وقال: هذا ما دل عليه الكتاب والسنة قال الله تعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم الآية، وقال تعالى: ولقد خلقناكم ثم صورناكم الآية، فصح أن الله تعالى خلق الأرواح جملة، وكذلك أخبر -صلى الله عليه وسلم- أن الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف، وأخذ الله عهدها وميثاقها وشهادتها بالربوبية، وهي مخلوقة مصورة عاقلة قبل أن تؤمر الملائكة بالسجود لآدم وقبل أن يدخلها في الأجساد والأجساد يومئذ تراب وماء، ثم أقرها حيث شاء وهو البرزخ الذي ترجع إليه عند الموت، ثم لا يزال يبعث منها الجملة بعد الجملة فينفخها في الأجساد المتولدة من المني، قال: فصح أن الأرواح أجسام حاملة لأعراضها من التعارف والتناكر وأنها عارفة مميزة فيبوؤهم الله في الدنيا كما يشاء، ثم يتوفاها فترجع إلى البرزخ الذي رآها فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة أسري به إلى سماء الدنيا أرواح أهل السعادة عن يمين آدم وأرواح أهل الشقاوة عن يساره عند منقطع العناصر الماء والهواء والتراب والنار تحت السماء، ولا يدل ذلك على تعادلهم بل هؤلاء عن يمينه في العلو والسعة وهؤلاء عن يساره في السفل والسجن وتعجل أرواح الأنبياء والشهداء إلى الجنة، قال: وقد ذكر محمد بن نصر المروزي عن إسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا الذي قلنا بعينه، وقال: على هذا أجمع أهل العلم، وقال ابن حزم وهو قول جميع أهل الإسلام، وهو قول الله تعالى: فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم وقوله: فأما إن كان من المقربين فروح وريحان الآية فلا تزال الأرواح هناك حتى يتم عددها بنفخها في الأجسام، ثم برجوعها إلى البرزخ فتقوم الساعة فيعيدها [ ص: 390 ] -عز وجل- إلى الأجساد وهي الحياة الثانية وهذا كله كلام ابن حزم، وقيل: هي على أفنية قبورها قال ابن عبد البر، وهذا أصح ما قيل، قال وأحاديث السؤال وعرض المقعد وعذاب القبر ونعيمه وزيارة القبور والسلام عليها ومخاطبتهم مخاطبة الحاضر العاقل دالة على ذلك، قال ابن القيم هذا القول إن أريد به أنها ملازمة للقبور لا تفارقها فهو خطأ يرده الكتاب والسنة .



(تنبيه)

عرض المقعد لا يدل على أن الأرواح في القبر ولا على فنائه، بل على أن لها اتصالا به يصح أن يعرض عليها مقعدها فإن للروح شأنا آخر فتكون في الرفيق الأعلى وهي متصلة بالبدن بحيث إذا سلم المسلم على صاحبها رد عليه السلام وهي في مكانها هناك وإنما يأتي الغلط هنا من قياس الغائب على الشاهد فيعتقد أن الروح من جنس ما يعهد من الأجسام التي إذا أشغلت مكانا لم يمكن أن يكون في غيره وهذا غلط محض، وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء موسى عليه السلام قائما يصلي في قبره، ورآه في السماء السادسة فالروح كانت هناك في مثل البدن ولها اتصال في البدن بحيث يصلي في قبره ويرد على من يسلم عليه وهو في الرفيق الأعلى ولا تنافي بين الأمرين فإن شأن الأرواح غير شأن الأبدان، وقد مثل ذلك بعضهم بالشمس في السماء وشعاعها في الأرض، وإن كان غير تام المطابقة من حيث إن الشعاع إنما هو عرض للشمس، وأما الروح فهي نفسها تنزل وكذلك رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- الأنبياء -عليهم السلام- ليلة الإسراء في السماوات الصحيح أنه رأى فيها الأرواح في مثال الأجساد مع ورود أنهم أحياء في قبورهم يصلون فلا منافاة بين كون الروح في عليين أو الجنة أو السماء، وأن لها بالبدن اتصالا بحيث تدرك وتسمع وتصلي وتقرأ وإنما يستغرب هذا لكون الشاهد الدنيوي لأنه ليس فيه ما يشابه هذا وأمور البرزخ والآخرة على نمط غير المألوف في الدنيا هذا كله كلام ابن القيم، وحكى في موضع آخر للروح من سرعة الحركة والانتقال الذي كلمح البصر ما يقتضي عروجها من القبر إلى السماء في أدنى لحظة وشاهد ذلك روح النائم فقد ثبت أن روح النائم تصعد حتى تخرق السبع الطباق وتسجد لله بين يدي العرش، ثم ترد إلى جسده في أيسر زمان، ثم قال ابن القيم بعد أن أورد بقية الأقوال في مستقر الأرواح: ولا نحكم على قول من هذه الأقوال بعينه بالصحة ولا غيره بالبطلان بل الصحيح أن الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت ولا تعارض بين الأدلة فإن كلا منها وارد على فريق من الناس بحسب درجاتهم في السعادة والشقاوة فمنها أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى وهم الأنبياء وهم متفاوتون في منازلهم كما رآهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء ومنها أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت وهي أرواح بعض الشهداء لا جميعهم فإن منهم من يحبس عن دخول الجنة لدين أو غيره، كما في حديث محمد بن عبد الله بن جحش عند أحمد، ومنهم من يكون على باب الجنة كما في حديث ابن عباس ومنهم من يكون محبوسا في قبره كحديث صاحب الشملة أنها لتشتعل عليها نارا في قبره ومنهم من يكون محبوسا في الأرض لم تصل روحه إلى الملأ الأعلى لأنها كانت روحا سفلية أرضية فإن الأنفس الأرضية لا تجامع الأنفس السمائية كما أنها لا تجامعها في الدنيا فإن الروح بعد المفارقة تلحق بأشكالها وأصحاب عملها، فالمرء مع من أحب ومنها أرواح تكون في تنور الزانيات وأرواح في نهر الدم إلى غير ذلك فليس للأرواح سعيدها وشقيها مستقر واحد وكلها على اختلاف محالها وتباين مقارها لها اتصال بأجسادها في قبورها ليحصل له من النعيم أو العذاب ما كتب له انتهى كلام ابن القيم .

وقال القرطبي: الأحاديث دالة على أن أرواح الشهداء خاصة في الجنة دون غيرهم وحديث كعب نحوه محمول على الشهداء وأما غيرهم فتارة يكون في السماء لا في الجنة وتارة يكون على أفنية القبور وقد قيل: إنها تزور قبورها كل جمعة على الدوام، وقال ابن العربي بحديث الجريدة يستدل على أن الأرواح في القبور تنعم أو تعذب، ثم قال القرطبي: وبعض الشهداء أرواحهم خارج الجنة أيضا كما في حديث ابن عباس على بارق نهر بباب الجنة، وذلك إذا حبسهم عنها دين أو شيء من حقوق الآدميين قال: وذهب بعض العلماء إلى أن أرواح المؤمنين كلهم في جنة المأوى; ولذلك سميت جنة المأوى لأنها تأوي إليها الأرواح تحت العرش فيتنعمون بنعيمها ويتنسمون بطيب نسيمها قال: والأول أصح، وقال الحافظ ابن حجر في فتاويه: أرواح المؤمنين في عليين وأرواح الكفار في سجين [ ص: 391 ] ولكل روح بجسده اتصال معنوي لا يشبه الاتصال في الحياه الدنيا بل أشبه شيء به حال النائم وإن كان هو أشد من حال النائم اتصالا، قال: وبهذا يجمع بين ما ورد أن مقرها في عليين أو في سجين وبين ما نقله ابن عبد البر عن الجمهور أنها عند أفنية قبورها قال: ومع ذلك فهي مأذون لها في التصرف وتأوي إلى محلها من عليين أو سجين قال: وإذا نقل الميت من قبر إلى قبر فالاتصال المذكور مستمر، وكذا لو تفرقت الأجزاء، وقال القرطبي في حديث كعب: نسمة المؤمن طائر وهو يدل على أن نفسها تكون طائرا أي: على صورته لا أنها تكون فيها ويكون الطائر ظرفا لها، وكذا في رواية ابن مسعود عند ابن ماجه: أرواح الشهداء عند الله كطير خضر، وقال في لفظ عن ابن عباس: تجول في طير خضر، ولفظ ابن عمرو في صورة طير بيض، وفي لفظ عن كعب: الشهداء طير خضر، قال: وهذا كله أصح من رواية: في جوف طير، وقال القابسي: أنكر العلماء رواية: في حواصل طير خضر لأنها حينئذ تكون محصورة مضيقا عليها ورد بأن الرواية ثابتة والتأويل محتمل بأن يجعل في بمعنى على وجائز أن يسمى الطير جوفا إذ هو محيط به ويشتمل عليه قاله عبد الحق، وقال غيره: لا مانع من أن تكون في الأجواف حقيقة ويوسعها الله تعالى لها حتى تكون أوسع من الفضاء، وقال العز بن عبد السلام في أماليه في قوله تعالى: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء فإن قيل: الأموات كلهم كذلك فكيف خصص هؤلاء؟ فالجواب أن الكل ليس كذلك فالمجاهد تنقل روحه إلى طير أخضر فقد انتقل من جسد إلى آخر بخلاف غيره فإنها تنفى من الأجساد، قال: وأما حديث كعب: نسمة المؤمن، إلخ، فهذا العموم محمول على المجاهدين، فقد ورد أن الروح في القبر يعرض عليها مقعدها من الجنة والنار ولا نأمر بالسلام على القبور ولولا أن الأرواح تدرك لما كان فيه فائدة. انتهى .

قال السيوطي: فاختار في أرواح الشهداء أنها كائنة في طير لا أنها نفسها طير، ويؤيده ما روي عن ابن عمر وأنها تركب في جسد آخر وهو وإن كان موقوفا فله حكم المرفوع؛ لأن مثله لا يقال من قبل الرأي، وقال صاحب الإفصاح: التنعم على جهات مختلفة منها ما هو طائر في شجر الجنة، ومنها ما هو في حواصل طير خضر ومنها من يأوي في قناديل تحت العرش ومنها من هو في حواصل طير بيض، ومنها ما هو في حواصل طير كالزرازير ومنها ما هو في أشخاص من صور الجنة ومنها ما هو في صورة تخلق لهم من ثواب أعمالهم، ومنها ما تسرح وتترد إلى جنتها تزورها وممن سوى ذلك ما هو في كفالة آدم ومنها ما هو في كفالة إبراهيم .

قال القرطبي: وهذا قول حسن يجمع الأخبار حتى لا تتدافع، وقال الحكيم في النوادر: الأرواح تجول في البرزخ فتبصر أحوال الدنيا والملائكة تتحدث في السماء عن أحوال الآدميين .

وأرواح تحت العرش وأرواح طيارة إلى الجنان إلى حيث شاءت على أقدارهم من السعي إلى الله أيام حياتهم، وقال ابن القيم: لا منافاة بين حديث أنه طائر يعلق في شجر الجنة وبين حديث عرض المقعد بل ترد روحه أنهار الجنة وتأكل من ثمارها ويعرض عليه مقعده لأنه لا يدخله إلا يوم الجزاء، فدخول الجنة التام إنما يكون للإنسان التام روحا وبدنا ودخول الروح فقط أمر دون ذلك .

وفي بحر الكلام: الأرواح على أربعة أوجه: أرواح الأنبياء تخرج من جسدها وتصير مثل صورتها مثل المسك والكافور، وتكون في الجنة تأكل وتشرب وتتنعم وتأوي بالليل إلى قناديل معلقة تحت العرش، وأرواح الشهداء تخرج من جسدها وتكون في أجواف طير خضر في الجنة تأكل وتتنعم وتأوي بالليل إلى قناديل معلقة، وأرواح المطيعين من المؤمنين بربض الجنة لا تأكل ولا تتمتع ولكن تنظر في الجنة، وأرواح العصاة من المؤمنين تكون بين السماء والأرض في الهواء، وأما أرواح الكفار فهي في سجين في جوف طير سود تحت الأرض السابعة وهي متصلة بأجسادها فتتعذب الأرواح وتتألم الأجساد منهم كالشمس في السماء ونورها في الأرض، انتهى .

وقال الحافظ ابن رجب في كتاب أهوال القبور: الباب التاسع في ذكر أرواح الموتى في البرزخ، أما الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلا شك أن أرواحهم عند الله في أعلى عليين وأما الشهداء فأكثر العلماء على أنهم في الجنة، وروي عن مجاهد أنه قال: ليس الشهداء في الجنة، ولكن يرزقون منها، وروى آدم ابن أبي إياس عنه قال: يرزقون من ثمر الجنة ويجدون ريحها وليسوا فيها وأما حديث ابن عباس الشهداء على بارق نهر بباب الجنة فلعله في عموم الشهداء والذين في القناديل [ ص: 392 ] حول العرش خواصهم أو المراد بالشهداء هنا غير قتيل المعركة كالمطعون والمبطون والغريق وغيرهم ممن ورد بالنص أنه شهيد أو سائر المؤمنين فقد يطلق الشهيد على من حقق الإيمان كما دل عليه قوله تعالى: والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم وحكم بقية المؤمنين سوى الشهداء فأهل تكليف وغيرهم، فأطفال المؤمنين الجمهور على أنهم في الجنة، وأما المكلفون من المؤمنين سوى الشهداء فاختلف العلماء فيهم قديما وحديثا فنص الإمام أحمد على أن أرواح المؤمنين في الجنة وأرواح الكفار في النار، واستدل بحديث كعب بن مالك وأم هانئ وأبي هريرة وأم بشر وعبد الله بن عمرو ونحوها، وروي عن هلال بن يساف أن ابن عباس سأل كعبا عن عليين وسجين، فقال كعب: أما عليون فالسماء السابعة ففيها أرواح المؤمنين، وأما سجين فالأرض السابعة السفلى فيها أرواح الكفار تحت خد إبليس .

وقد ثبت بالأدلة أن الجنة فوق السماء السابعة وأن النار تحت الأرض السابعة، وقالت طائفة: الأرواح في الأرض، ثم اختلفوا فقالت فرقة: الأرواح تستقر على أفنية القبور، قاله ابن وضاح وحكاه ابن حزم عن عامة أصحاب الحديث، ورجح ابن عبد البر أن أرواح الشهداء في الجنة وأرواح غيرهم على أفنية القبور فتسرح حيث شاءت، واستدلوا بحديث السلام عليهم وعرض المقعد، ولا دليل في ذلك على أن الأرواح ليست في الجنة فإن العرض على الجثة للروح بهما اتصال والروح وحدها في الجنة، وكذا السلام على أهل القبور لا يدل على استقرار أرواحهم على أفنية قبورهم فإنه يسلم على قبور الأنبياء، والشهداء أرواحهم في أعلى عليين، ولكن لها مع ذلك اتصال سريع بالجسد لا يعلم كنه ذلك وكيفيته على الحقيقة إلا الله تعالى، ويشهد لذلك الأحاديث المروية في أن النائم يعرج بروحه إلى العرش هذا مع تعلقها ببدنه وسرعة عودها إليه عند استيقاظه فأرواح الموتى المجردة عن أبدانهم أولى بعروجها إلى السماء وعودها إلى القبر في مثل تلك السرعة وقالت فرقة: تجمع الأرواح بموضع من الأرض فأرواح المؤمنين تجمع بالجابية وقيل: ببئر زمزم، وأرواح الكفار تجمع ببئر برهوت، ورجحه القاضي أبو علي من الحنابلة في كتاب المعتمد وهو مخالف لنص أحمد أن أرواح الكفار في النار ولعل لبئر برهوت اتصال بجهنم في قعرها كما روي في البحر أن تحته جهنم، وروى صفوان بن عمر، وقال: سألت عامر بن عبد الله أبا اليمان: هل لأنفس المؤمنين مجتمع؟ فقال: يقال: إن الأرض التي يقول الله: إن الأرض يرثها عبادي الصالحون هي الأرض التي تجتمع فيها أرواح المؤمنين حتى يكون البعث أخرجه ابن منده، وهذا غريب جدا وتفسير الآية به أغرب، وروى ابن منده عن شهر بن حوشب قال: كتب عبد الله بن عمرو إلى أبي بن كعب يسأله: أين تلتقي أرواح أهل الجنة وأرواح أهل النار؟ فقال: أما أرواح أهل الجنة فبالجابية، وأما أرواح الكفار فبحضرموت، وقالت طائفة من الصحابة: الأرواح عند الله صح ذلك عن ابن عمر، وروى ابن منده من طريق الشعبي عن حذيفة، قال: إن الأرواح موقوفة عند الرحمن تنتظر موعدها حتى ينفخ فيها، وهذا لا ينافي ما وردت به الأخبار من محمل الأرواح على ما سبق، وقالت طائفة: أرواح بني آدم عند أبيهم آدم عن يمينه وشماله لما ثبت في قصة الإسراء في الصحيحين، فلما فتح علونا السماء فإذا رجل قاعد عن يمينه أسودة وعلى يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل يساره بكى، فقلت لجبريل: من هذا فقال آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه فأهل اليمين منهم أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار، الحديث، فظاهر هذا اللفظ يقتضي أن أرواح الكفار في السماء وهو مخالف للقرآن والحديث أن السماء لا تفتح لروح الكافر، وقد ورد في بعض طرق الحديث ما يزيل الإشكال ولفظه: وإذا هو يعرض عليه أرواح ذريته، فإذا كان روح المؤمن قال: روح طيبة اجعلوها في عليين، وإذا كان روح الكافر قال: روح خبيثة اجعلوها في سجين، الحديث، ففي هذا أنه تعرض عليه أرواح ذريته من السماء الدنيا، وزعم ابن حزم أن الله تعالى خلق الأرواح جملة قبل الأجساد وأنه جعلها في برزخ وذلك البرزخ عند منقطع العناصر حيث لا ماء ولا هواء ولا تراب ولا نار إلى آخر ما قال حسبما أسلفناه، وهذا قول لم يقله أحد من المسلمين ولا هو من جنس كلامهم، وإنما هو من جنس كلام [ ص: 393 ] المتفلسفة قال: والفرق بين حياة الشهداء وغيرهم من المؤمنين الذين أرواحهم في الجنة من وجهين: أحدهما: أن أرواح الشهداء تخلق لها أجساد وهي الطير التي تكون في حواصلها ليكمل بذلك نعيمها ويكون أكمل من نعيم الأرواح المجردة عن الأجساد فإن الشهداء بذلوا أجسادهم للقتل في سبيل الله فعوضوا عنها بهذه الأجساد في البرزخ، والثاني أنهم يرزقون من الجنة وغيرهم ولم يثبت في حقه مثل ذلك وإن جاء أنهم يعلقون في شجر الجنة فقيل معناه التعلق وقيل: الأكل من الشجر فلا يلزم مساواتهم للشهداء في كمال تنعيمهم في الأكل، والله أعلم انتهى كلام الحافظ ابن رجب، رحمه الله تعالى، وهو غاية في بابه لا مزيد عليه .




الخدمات العلمية