الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فصل ( مناظرة علي رضي الله عنه للخوارج )

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قد تقدم أن عليا ، رضي الله عنه ، لما رجع من الشام بعد وقعة صفين ، ذهب إلى الكوفة فلما دخلها اعتزله طائفة من جيشه ، قيل : ستة عشر ألفا . وقيل : اثنا عشر ألفا . وقيل : أقل من ذلك . فباينوه ، وخرجوا عليه ، وأنكروا عليه أشياء ، فبعث إليهم عبد الله بن عباس ، فناظرهم فيها ورد عليهم ما توهموه من الشبهة ، ولم يكن له حقيقة في نفس الأمر ، فرجع بعضهم ، واستمر بعضهم على ضلاله حتى كان منهم ما سنورده قريبا إن شاء الله . ويقال : إن عليا ، رضي الله عنه ، ذهب إليهم فناظرهم فيما نقموا عليه حتى استرجعهم عما كانوا عليه ، ودخلوا معه الكوفة ، ثم إنهم عادوا فنكثوا ما عاهدوا عليه ، وتعاقدوا وتعاهدوا فيما بينهم على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والقيام على الناس في ذلك ثم تحيزوا ناحية إلى موضع يقال له : النهروان . وفيه قاتلهم علي كما سيأتي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 565 ] قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى الطباع ، حدثني يحيى بن سليم ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن عبيد الله بن عياض بن عمرو القاري ، قال : جاء عبد الله بن شداد ، فدخل على عائشة - ونحن عندها مرجعه من العراق ليالي قتل علي - فقالت له : يا عبد الله بن شداد ، هل أنت صادقي عما أسألك عنه ؟ تحدثني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي . قال : وما لي لا أصدقك . قالت : فحدثني عن قصتهم . قال : فإن عليا لما كاتب معاوية وحكم الحكمان ، خرج عليه ثمانية آلاف من قراء الناس فنزلوا بأرض يقال لها : حروراء . من جانب الكوفة ، وأنهم عتبوا عليه ، فقالوا : انسلخت من قميص ألبسكه الله ، واسم سماك به الله ، ثم انطلقت فحكمت في دين الله ولا حكم إلا لله . فلما أن بلغ عليا ما عتبوا عليه وفارقوه عليه ، فأمر فأذن مؤذن : أن لا يدخل على أمير المؤمنين إلا رجل قد حمل القرآن . فلما أن امتلأت الدار من قراء الناس ، دعا بمصحف إمام عظيم ، فوضعه بين يديه فجعل [ ص: 566 ] يصكه بيده ، ويقول : أيها المصحف ، حدث الناس ! فناداه الناس فقالوا : يا أمير المؤمنين ما تسأل عنه ! إنما هو مداد في ورق ، ونحن نتكلم بما روينا منه ، فماذا تريد ؟ قال : أصحابكم هؤلاء الذين خرجوا ، بيني وبينهم كتاب الله ، يقول الله تعالى في كتابه في امرأة ورجل : وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما [ النساء : 35 ] . فأمة محمد ، صلى الله عليه وسلم ، أعظم دما وحرمة من امرأة ورجل ، ونقموا علي أن كاتبت معاوية : كتب علي بن أبي طالب ، وقد جاءنا سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، بالحديبية حين صالح قومه قريشا ، فكتب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم . فقال سهيل : لا أكتب بسم الله الرحمن الرحيم . فقال : " كيف نكتب ؟ " . فقال : اكتب باسمك اللهم . فقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " فكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله قريشا . يقول الله تعالى في كتابه : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر [ الأحزاب : 21 ] فبعث إليهم عبد الله بن عباس فخرجت معه ، حتى إذا توسطت عسكرهم قام ابن الكواء يخطب الناس فقال : يا حملة القرآن ، هذا عبد الله بن عباس فمن لم يكن يعرفه فأنا أعرفه ، هذا ممن يخاصم في كتاب الله بما لا يعرفه ، هذا ممن نزل فيه وفي قومه بل هم قوم خصمون [ ص: 567 ] [ الزخرف : 58 ] . فردوه إلى صاحبه ولا تواضعوه كتاب الله . فقال بعضهم : والله لنواضعنه ، فإن جاء بحق نعرفه لنتبعنه ، وإن جاء بباطل لنبكتنه بباطله . فواضعوا عبد الله الكتاب ثلاثة أيام ، فرجع منهم أربعة آلاف كلهم تائب ، فيهم ابن الكواء ، حتى أدخلهم على علي الكوفة ، فبعث علي إلى بقيتهم فقال : قد كان من أمرنا وأمر الناس ما قد رأيتم ، فقفوا حيث شئتم حتى تجتمع أمة محمد ، صلى الله عليه وسلم ، بيننا وبينكم أن لا تسفكوا دما حراما ، أو تقطعوا سبيلا ، أو تظلموا ذمة ، فإنكم إن فعلتم فقد نبذنا إليكم الحرب على سواء : إن الله لا يحب الخائنين [ الأنفال : 58 ] . فقالت له عائشة : يا ابن شداد فقتلهم ؟ فقال : والله ما بعث إليهم حتى قطعوا السبيل ، وسفكوا الدماء ، واستحلوا أهل الذمة . فقالت : آلله ؟ قال : آلله الذي لا إله إلا هو لقد كان ذلك . قالت : فما شيء بلغني عن أهل العراق يقولون : ذو الثدي وذو الثدية ؟ قال : قد رأيته ، وقمت مع علي عليه في القتلى ، فدعا الناس فقال : أتعرفون هذا ، [ ص: 568 ] فما أكثر من جاء يقول : قد رأيته في مسجد بني فلان يصلي ويقرأ ، ورأيته في مسجد بني فلان يصلي . ولم يأتوا فيه بثبت يعرف إلا ذلك . قالت : فما قول علي حين قام عليه كما يزعم أهل العراق ؟ قال : سمعته يقول : صدق الله ورسوله . قالت : هل سمعت منه أنه قال غير ذلك ؟ قال : اللهم لا . قالت : أجل ، صدق الله ورسوله ، يرحم الله عليا ، إنه كان لا يرى شيئا يعجبه إلا قال : صدق الله ورسوله . فيذهب أهل العراق يكذبون عليه ويزيدون عليه في الحديث . تفرد به أحمد ، وإسناده صحيح ، واختاره الضياء . ففي هذا السياق ما يقتضي أن عدتهم كانت ثمانية آلاف ، لكن من القراء ، وقد يكون واطأهم على مذهبهم آخرون من غيرهم حتى بلغوا اثني عشر ألفا ، أو ستة عشر ألفا ، ولما ناظرهمابن عباس رجع منهم أربعة آلاف ، وبقي بقيتهم على ما هم عليه . وقد رواه يعقوب بن سفيان ، عن موسى بن مسعود ، عن عكرمة بن عمار ، عن سماك أبي زميل ، عن ابن عباس ، فذكر القصة وأنهم عتبوا عليه في كونه حكم الرجال ، وأنه محا اسمه من الإمرة ، وأنه غزا يوم الجمل فقتل الأنفس الحرام ولم يقسم الأموال والسبي ، فأجاب عن الأولتين بما تقدم ، وعن الثالثة بأن قال : قد كان في السبي أم المؤمنين عائشة ، فإن قلتم : ليست لكم بأم . فقد كفرتم ، وإن استحللتم سبي أمكم فقد كفرتم . قال : فرجع منهم [ ص: 569 ] ألفان وخرج سائرهم فتقاتلوا . وذكر غيره أن ابن عباس لبس حلة لما خرج إليهم ، فناظروه في لبسه إياها ، فاحتج عليهم بقوله تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق الآية [ الأعراف : 32 ] .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر ابن جرير أن عليا خرج بنفسه إلى بقيتهم ، فلم يزل يناظرهم حتى رجعوا معه إلى الكوفة ، وذلك يوم عيد الفطر أو الأضحى - شك الراوي في ذلك - ثم جعلوا بعد ذلك يعرضون له في الكلام ، ويسمعونه شتما ويتأولون تآويل في أقواله . قال الشافعي ، رحمه الله : قال رجل من الخوارج لعلي وهو في الصلاة لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين [ الزمر : 65 ] . فقرأ علي : فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون [ الروم : 60 ] . وذكر ابن جرير أن هذا الكلام إنما قاله وعلي يخطب ، لا في الصلاة . وذكر ابن جرير أيضا أن عليا بينما هو يخطب يوما إذ قام إليه رجل من الخوارج فقال : يا علي أشركت في دين الله الرجال ولا [ ص: 570 ] حكم إلا لله . فتنادوا من كل جانب : لا حكم إلا لله ، لا حكم إلا لله . فجعل علي يقول : هذه كلمة حق أريد بها باطل . ثم قال : إن لكم علينا أن لا نمنعكم فيئا ما دامت أيديكم معنا ، وأن لا نمنعكم مساجد الله ، وأن لا نبدأكم بالقتال حتى تبدأونا به . ثم إنهم خرجوا بالكلية عن الكوفة وتحيزوا إلى النهروان ، على ما سنذكره بعد حكم الحكمين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية