الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
صفة طول يوم القيامة .

يوم تقف فيه الخلائق شاخصة أبصارهم منفطرة قلوبهم لا يكلمون ولا ينظر في أمورهم يقفون ثلاثمائة عام لا يأكلون فيه أكلة ولا يشربون فيه شربة ولا يجدون فيه روح نسيم قال كعب وقتادة يوم يقوم الناس لرب العالمين قال يقومون مقدار ثلاثمائة عام بل قال عبد الله بن عمر تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ثم قال : كيف بكم إذا جمعكم الله كما تجمع النبل في الكنانة خمسين ألف سنة ولا ينظر إليكم ؟ وقال الحسن ما ظنك بيوم قاموا فيه على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة لا يأكلون فيها أكلة ولا يشربون فيها شربة حتى إذا انقطعت أعناقهم عطشا واحترقت أجوافهم جوعا انصرف بهم إلى النار فسقوا من عين آنية قد آن حرها واشتد لفحها ، فلما بلغ المجهود منهم ما لا طاقة لهم به طلب بعضهم بعضا في طلب من يكرم على مولاه ليشفع في حقهم فلم يتعلقوا بنبي إلا دفعهم وقال دعوني ، نفسي نفسي ، شغلني أمري عن أمر غيري ، واعتذر كل واحد بشدة غضب الله تعالى وقال : قد غضب اليوم ربنا غضبا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله ، حتى يشفع نبينا صلى الله عليه وسلم لمن يؤذن له فيه لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا فتأمل في طول هذا اليوم وشدة الانتظار فيه حتى يخف عليك انتظار الصبر عن المعاصي في عمرك المختصر .

واعلم أن من طال انتظاره في الدنيا للموت لشدة مقاساته للصبر عن الشهوات فإنه يقصر انتظاره في ذلك اليوم خاصة . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن طول ذلك اليوم فقال : والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من الصلاة المكتوبة يصليها في الدنيا فاجتهد أن تكون من أولئك المؤمنين فما دام يبقى لك نفس من عمرك فالأمر إليك والاستعداد بيديك فاعمل في : أيام قصار لأيام طوال تربح ربحا لا منتهى لسروره ، واستحقر عمرك بل عمر الدنيا وهو سبعة آلاف سنة فإنك لو صبرت سبعة آلاف سنة مثلا لتخلص من يوم مقداره خمسون ألفا لكان ربحك كثيرا وتعبك يسيرا .

التالي السابق


(صفة طول يوم القيامة) *

(يوم يقف فيه الخلائق) بأجمعهم: جنهم وإنسهم وملكهم ودوابهم ووحوشهم (شاخصة أبصارهم) إلى السماء (منفطرة قلوبهم) من الخوف والرعب (لا يكلمون) ولا يخاطبون (ولا ينظر في أمورهم يقفون) في ذلك الصعيد الواسع (ثلاثمائة عام) كما في الخبر الآتي (لا يأكلون فيه أكلة ولا يشربون فيه شربة) وهم في شغل عن ذلك كما مر ذلك في حديث ابن عمر (ولا يجدون فيه روح نسيم) ولا ولي حميم .

(قال كعب) الأحبار (وقتادة) ابن دعامة البصري -رحمهما الله تعالى- في قوله تعالى: ( يوم يقوم الناس لرب العالمين قال) كل منهما (يقومون مقدار ثلاثمائة عام) .

أما قول كعب فرواه ابن المنذر بزيادة: لا يؤذن لهم بالقعود، أما قول قتادة فرواه عبد بن حميد بلفظ: سنة بدل عام، وقد روي نحو هذا عن حذيفة قال: يقوم الناس على أقدامهم يوم القيامة مقدار ثلاثمائة سنة، رواه ابن مردويه . وروى ابن مردويه من حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لبشير الغفاري : كيف أنت صانع في يوم يقوم الناس لرب العالمين مقدار ثلاثمائة سنة من أيام الدنيا لا يأتيهم خبر من السماء ولا يؤمر فيهم بأمر؟ قال بشير: المستعان بالله يا رسول الله .. الحديث. ورواه ابن النجار في تاريخه بلفظ آخر يأتي ذكره قريبا .

(حتى قال عبد الله بن عمر) هكذا في النسخ، وفي بعضها: عبد الله بن عمرو (تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية) يعني قوله تعالى: يوم يقوم الناس لرب العالمين (ثم قال: كيف بكم إذا جمعكم الله كما تجمع النبل في الكنانة خمسين ألف سنة لا ينظر إليكم؟) .

قال العراقي : إنما هو عبد الله بن عمر، ورواه الطبراني في الكبير وفيه عبد الرحمن بن ميسرة، ولم يذكر له ابن أبي حاتم راويا غير ابن وهب، ولهم عبد الرحمن بن ميسرة الحضرمي، أربعة هذا أحدهم مصري والثلاثة الآخرون شاميون. اهـ .

قلت: وكذلك رواه أبو الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في البعث وعن عبد الرحمن بن ميسرة المصري يكنى أبا ميسرة مقبول، مات سنة ثمانين وله سبعون سنة، ولم يخرج له في السنة شيء، وعبد الرحمن بن ميسرة الحضرمي أبو سلمة الحمصي مقبول أيضا، روى له أبو داود وابن ماجه، وعبد الرحمن بن ميسرة الحضرمي أبو شريح مجهول، روي عنه شيء من كلامه في التفسير، وعبد الرحمن بن ميسرة الكلبي أو الحضرمي أبو سليمان الدمشقي مقبول، وهذان لم يرو لهما شيء في السنة .

وروى ابن النجار في تاريخه من حديث أبي هريرة : أن رجلا كان له من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقعد يقال له بشير ففقده، فذكر الحديث، وفيه: فكيف بيوم مقداره خمسون ألف سنة يوم يقوم الناس لرب العالمين؟!

وروى أحمد في الزهد عن القاسم بن أبي بزة، قال: حدثني من سمع عمر قرأ ويل للمطففين حتى بلغ يوم يقوم الناس لرب العالمين قال: بمقدار نصف يوم من خمسين ألف سنة.

وروى الطبراني عن ابن عمر وأنه قال: يا رسول الله، كم تقام الناس بين يدي رب العالمين يوم القيامة؟ قال: ألف سنة لا يؤذن لهم، وروى ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن عبد الله بن العيزار قال: إن الأقدام في يوم القيامة كمثل النبل في القرن، والسعيد من وجد لقدمه موضعا . وروى النقاش من رواية ابن مسعود عن علي بن أبي طالب : أن في القيامة لخمسين موقفا، كل موقف منها ألف سنة. الحديث بطوله، وفيه عجائب وإسناده مظلم .

(وقال الحسن) البصري رحمه الله تعالى يصف أهوال ذلك اليوم (ما ظنك في يوم قاموا فيه على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة لا يأكلون فيها أكلة ولا يشربون فيها شربة حتى إذا انقطعت أعناقهم عطشا واحترقت أجوافهم جوعا انصرف بهم إلى النار فسقوا من عين آنية قد آن حرها واشتد لفحمها، فلما بلغ المجهود [ ص: 460 ] منهم ما لا طاقة لهم به طلب بعضهم بعضا في طلب من يكرم على مولاه ليشفع في حقهم فلم يتعلقوا بنبي إلا دفعهم، وقال: دعوني، نفسي نفسي، شغلني أمري عن أمر غيري، واعتذر كل واحد بشدة غضب الله تعالى وقال: قد غضب اليوم ربنا غضبا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله، حتى يشفع نبينا -صلى الله عليه وسلم- لمن يؤذن لهم فيه لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا ) رواه أبو نعيم في الحلية وسيأتي بعضه مرفوعا في حديث الشفاعة .

(فتأمل) يا مسكين (في طول هذا اليوم وشدة الانتظار فيه حتى يخف عليك انتظار الصبر عن المعاصي) والمخالفان (في عمرك) القصير (المختصر، واعلم أن من طال انتظاره في الدنيا للموت لشدة مقاساته للصبر عن الشهوات فإنه يقصر انتظاره في ذلك اليوم خاصة. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما سئل عن طول ذلك اليوم فقال: والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من الصلاة المكتوبة يصليها في الدنيا) .

قال العراقي : رواه أبو يعلى والبيهقي في الشعب والبعث من حديث أبي سعيد الخدري وفيه ابن لهيعة، ورواه ابن وهب عن عمرو بن الحارث بدل ابن لهيعة، وهو حسن، ولأبي يعلى من حديث أبي هريرة بإسناد جيد: يهون ذلك على المؤمن كتدلي الشمس للغروب إلى أن تغرب. ورواه البيهقي في الشعب إلا أنه قال: أظنه رفعه، بلفظ: إن الله ليخفف على من يشاء من عباده طول ذلك اليوم كوقت صلاة مفروضة. اهـ .

قلت: حديث أبي سعيد رواه أيضا أحمد وابن جرير وابن حبان والضياء في المختارة بلفظ: من صلاة مكتوبة، وروى أحمد في الزهد، عن القاسم بن أبي بزة، عمن سمع عمر يقول: يهون ذلك اليوم على المؤمن كتدلي الشمس من الغروب حتى تغرب. وروى ابن المنذر عن كعب: فأما المؤمن فيهون عليه كالصلاة، وروى عبد بن حميد عن قتادة : يخفف الله ذلك اليوم ويقصره على المؤمن كمقدار نصف يوم أو كصلاة مكتوبة، وروى ابن مردويه عن حذيفة قال: يهون ذلك اليوم على المؤمن كقدر الصلاة المكتوبة.

(فاجتهد أن تكون من أولئك المؤمنين فما دام يبقى لك نفس من عمرك فالأمر إليك والاستعداد بيديك: واعمل في أيام قصار لأيام طوال تربح ربحا لا منتهى لسروره، واستحقر عمرك بل عمر الدنيا وهو سبعة آلاف سنة) بالهلالي يزيد منها نحو مائتين سنة (فإنك لو صبرت سبعة آلاف سنة مثلا لتخلص من يوم مقداره خمسون ألفا لكان ربحك كثيرا وتعبك يسيرا) .




الخدمات العلمية