الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
صفة المساءلة .

ثم تفكر يا مسكين بعد هذه الأحوال فيما يتوجه عليك من السؤال شفاها من غير ترجمان فتسئل عن القليل والكثير والنقير والقطمير فبينا أنت في كرب القيامة وعرقها وشدة عظائمها إذ نزلت ملائكة من أرجاء السماء بأجسام عظام وأشخاص ضخام غلاظ شداد أمروا أن يأخذوا بنواصي المجرمين إلى موقف العرض على الجبار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لله عز وجل ملكا ما بين شفري عينيه مسيرة مائة عام فما ظنك بنفسك إذا شاهدت مثل هؤلاء الملائكة أرسلوا إليك ليأخذوك إلى مقام العرض وتراهم على عظم أشخاصهم منكسرين لشدة اليوم مستشعرين مما بدا من غضب الجبار على عباده وعند نزولهم لا يبقى نبي ولا صديق ولا صالح إلا ويخرون لأذقانهم خوفا من أن يكونوا هم المأخوذين فهذا حال المقربين ؛ فما ظنك بالعصاة المجرمين ؟! وعند ذلك يبادر أقوام من شدة الفزع فيقولون للملائكة : أفيكم ربنا ؟ وذلك لعظم موكبهم وشدة هيبتهم ، فتفزع الملائكة من سؤالهم إجلالا لخالقهم عن أن يكون فيهم ، فنادوا بأصواتهم منزهين لمليكهم عما توهمه أهل الأرض ، وقالوا : سبحان ربنا ما هو فينا ولكنه آت من بعد ، وعند ذلك تقوم الملائكة صفا محدقين بالخلائق من الجوانب وعلى جميعهم شعار الذل والخضوع وهيئة الخوف والمهابة لشدة اليوم .

وعند ذلك يصدق الله تعالى قوله : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين وقوله : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون فيبدأ سبحانه بالأنبياء يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب فيا لشدة يوم تذهل فيه عقول الأنبياء وتنمحي علومهم من شدة الهيبة ؛ إذ يقال لهم : ماذا أجبتم وقد أرسلتم إلى الخلائق ؟ وكانوا قد علموا فتدهش عقولهم فلا يدرون بماذا يجيبون ، فيقولون من شدة الهيبة : لا علم لنا ، إنك أنت علام الغيوب .

وهم في ذلك الوقت صادقون إذ طارت منهم العقول وانمحت العلوم إلى أن يقويهم الله تعالى فيدعى نوح عليه السلام فيقال له : هل بلغت ؟ فيقول : نعم فيقال لأمته : هل بلغكم ؟ فيقولون : ما أتانا من نذير .

ويؤتى بعيسى عليه السلام فيقول الله تعالى له : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله فيبقى متشحطا تحت هيبة هذا السؤال سنين فيا لعظم يوم تقام فيه السياسة على الأنبياء بمثل هذا السؤال ، ثم تقبل الملائكة فينادون واحدا واحدا : يا فلان بن فلانة هلم إلى موقف العرض ، وعند ذلك ترتعد الفرائص وتضطرب الجوارح وتبهت العقول ويتمنى أقوام أن يذهب بهم إلى النار ولا تعرض قبائح أعمالهم على الجبار ولا يكشف سترهم على ملأ الخلائق .

وقبل الابتداء بالسؤال يظهر نور العرش وأشرقت الأرض بنور ربها وأيقن كل عبد بإقبال الجبار لمساءلة العباد وظن كل واحد أنه ما يراه أحد سواه وأنه المقصود بالأخذ والسؤال دون من عداه ، فيقول الجبار سبحانه وتعالى عند ذلك : يا جبريل ائت ، بالنار فيجيء لها ؛ جبريل ويقول : يا جهنم أجيبي خالقك ومليكك فيصادفها جبريل على غيظها وغضبها ، فلم يلبث بعد ندائه أن ثارت وفارت وزفرت إلى الخلائق وشهقت وسمع الخلائق تغيظها وزفيرها وانتهضت خزنتها متوثبة إلى الخلائق غضبا على من عصى الله تعالى وخالف أمره فأخطر ببالك وأحضر في قلبك حالة قلوب العباد وقد امتلأت فزعا ورعبا فتساقطوا جثيا على الركب وولوا مدبرين ، يوم ترى كل أمة جاثية ، وسقط بعضهم على الوجوه منكبين وينادي العصاة والظالمون بالويل والثبور وينادي الصديقون نفسي نفسي : فبينما هم كذلك إذ زفرت النار زفرتها الثانية فتضاعف خوفهم وتخاذلت قواهم وظنوا أنهم مأخوذون ثم زفرت الثالثة فتساقط الخلائق على وجوههم وشخصوا بأبصارهم ينظرون من طرف خفي خاشع وانهضمت عند ذلك قلوب الظالمين فبلغت الحناجر كاظمين وذهلت العقول من السعداء والأشقياء أجمعين .

وبعد ذلك أقبل الله تعالى على الرسل ، وقال : ماذا أجبتم ؟ فإذا رأوا ما قد أقيم من السياسة على الأنبياء اشتد الفزع على العصاة ففر الوالد من ولده والأخ من أخيه والزوج من زوجته وبقي كل واحد منتظر الأمر ، ثم يؤخذ واحد واحد فيسأله الله تعالى شفاها عن قليل عمله وكثيره ، وعن سره وعلانيته وعن جميع جوارحه وأعضائه . قال أبو هريرة قالوا : يا رسول الله ، هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال : هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب قالوا : لا ، قال : فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ؟ قالوا : لا ، قال فوالذي : نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم . فيلقى العبد فيقول له : ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع فيقول العبد : بلى . فيقول : أظننت أنك ملاقي فيقول : لا ، فيقول فأنا : أنساك كما نسيتني .

التالي السابق


*صفة المساءلة*

(ثم تفكر يا مسكين بعد هذه الأحوال) وما ذكر من الأهوال (فيما يتوجه إليك من السؤال شفاها) أي: مشافهة (من غير ترجمان) أي: واسطة يترجم لك وعنك (فتسأل عن القليل والكثير والنقير والقطمير) والجليل والحقير (فبينما أنت في كرب القيامة وعرقها وشدة عظائمها إذ نزلت ملائكة من أرجاء السماء) أي: جوانبها وأقطارها (بأجسام عظام وأشخاص ضخام غلاظ شداد أمروا أن يأخذوا بنواصي المجرمين) مجمعة إلى أقدامهم (إلى موقف العرض على الجبار) جل جلاله (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن لله -عز وجل- ملكا بين شفري عينيه) أي: طرفيهما (مسيرة مائة عام) .

قال العراقي : لم أره بهذا اللفظ، ولأبي داوود من حديث جابر : أذن لي أن أحدث عن ملك من ملك الله بين حملة العرش إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه سبعمائة عام . انتهى .

قلت: وحديث جابر رواه بهذا اللفظ أيضا ابن عساكر والضياء، ورواه أبو نعيم في الحلية من حديثه ابن عباس بلفظ: أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش رجلاه في الأرض السابعة السفلى، على قرنه العرش ومن شحمة أذنه إلى عاتقه خفقان الطير مسيرة مائة عام . وروى أبو الشيخ في العظمة من حديث جابر بلفظ: إن لله ملائكة ما بين شحمة أذن أحدهم إلى ترقوته مسيرة سبعمائة عام للطير السريع الطيران . ورواه ابن [ ص: 466 ] عساكر بلفظ: إن الله وملائكته، وهم الأكروبيون، من شحمة أذن أحدهم إلى ترقوته مسيرة سبعمائة عام للطائر السريع في انحطاطه .

وروى الخطيب في المتفق والمفترق من حديث ابن عمر : أذن لي أن أحدث عن ملك من الملائكة حملة العرش ما بين عاتقه إلى شحمة أذنه مسيرة سبعمائة سنة خفقان الطير، قدماه في الأرض السابعة والعرش على قرنه، يقول: سبحانك حيثما كنت! في سنده أبو معشر المدني وهو ضعيف .

(فما ظنك بنفسك إذا شاهدت مثل هؤلاء الملائكة أرسلوا إليك ليأخذوك) فيجروك (إلى مقام العرض) على الله تعالى. روى ابن منده في التوحيد والديلمي من حديث معاذ أن الله تعالى ينادي يوم القيامة: يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب (وتراهم على عظم أشخاصهم) وهائل خلقتهم (منكسرين) أذلاء (لشدة اليوم) وصعوبته (مستشعرين مما بدا من غضب الجبار) جل جلاله (على عباده وعند نزولهم لا يبقى نبي ولا صديق ولا صالح إلا ويخرون لأذقانهم خوفا من أن يكونوا المأخوذين) نظرا إلى خوف مكر الله تعالى (فهذا حال المقربين؛ فما ظنك بالعصاة المجرمين؟!) من المؤمنين .

(وعند ذلك يبادر أقوام من شدة الفزع فيقولون للملائكة: أفيكم ربنا؟ وذلك لعظم موكبهم وشدة هيبتهم، فتفزع الملائكة من سؤالهم إجلالا لخالقهم) وتنزيها له (عن أن يكون فيهم، فنادوا بأصواتهم منزهين لمليكهم عما توهمه أهل الأرض، وقالوا: سبحان ربنا ما هو فينا ولكنه آت من بعد، وعند ذلك تقوم الملائكة صفا محدقين بالخلائق من الجوانب وعلى جميعهم شعار الذل والخضوع وهيئة الخوف والمهابة لشدة اليوم) كما قال تعالى: وجاء ربك والملك صفا صفا روى عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة، قال في الآية: جاء أهل السموات كل سماء صفا (وعند ذلك يصدق الله تعالى قوله: فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين ) .

قال ابن عباس : أي نسأل الناس عما أجابوا المرسلين ونسأل المرسلين عما بلغوا فلنقصن عليهم بعلم، قال: يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون. رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث. وقال سفيان الثوري : فلنسألن الذين أرسل إليهم هل بلغكم الرسل ولنسألن المرسلين ماذا ردوا عليكم؟ رواه ابن أبي حاتم، وقال مجاهد في الآية: الناس نسألهم عن لا إله إلا الله، ولنسألن المرسلين، قال جبريل: رواه ابن أبي حاتم، وقال يزيد : هم الأنبياء والمرسلون والملائكة (وقوله: فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون فيبدأ بالملائكة) .

روى عبد بن حميد وأبو الشيخ عن وهيب بن الورد قال: بلغني أن أقرب الخلق إلى الله إسرافيل والعرش على كاهله، فإذا نزل الوحي دلي اللوح من نحو العرش فيقرع جبهة إسرافيل فينظر فيه فيرسل إلى جبريل فيدعوه فيرسله، فإذا كان يوم القيامة دعي إسرافيل فيؤتى به ترعد فرائصه، فيقال له: ما صنعت فيما أدى إليك اللوح؟ فيقول: رب إني أديته إلى جبريل، فيدعى جبريل فيؤتى به ترعد فرائصه، فيقال له: ما صنعت فيما أدى إليك إسرافيل؟ فيقول: أي رب بلغت الرسل. فيؤتى بهم ترعد فرائصهم فيقال: ما صنعتم فيما أدى إليكم جبريل؟ فيقولون: أي رب بلغنا الناس؛ فهو قوله فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين وروى أبو الشيخ في العظمة عن أبي سنان قال: أقرب الخلق من الله اللوح وهو معلق بالعرش، فإذا أراد الله أن يوحي بشيء كتب في اللوح فيجيء اللوح حتى يقرع جبهة إسرافيل وإسرافيل قد غطي بصره بجناحيه إعظاما له فينظر فيه، فإن كان إلى أهل السماء دفعه إلى ميكائيل وإن كان إلى أهل الأرض دفعه إلى جبريل، فأول من يحاسب يوم القيامة اللوح يدعى به ترعد فرائصه فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقول ربنا: من يشهد لك؟ فيقول: إسرافيل، فيدعى إسرافيل ترعد فرائصه فيقال له: هل بلغك اللوح؟ فإذا قال: نعم، قال اللوح: الحمد لله الذي نجاني من سوء الحساب، ثم كذلك، (ثم الأنبياء) كما قال تعالى: ( يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا فيا لشدة يوم تذهل فيه عقول الأنبياء وتنمحي علومهم من شدة الهيبة؛ إذ يقال لهم: ماذا أجبتم وقد أرسلتم إلى الخلائق؟ وكانوا قد عملوا فتدهش عقولهم فلا يدرون ماذا يجيبون، فيقولون من شدة الهيبة: لا علم لنا، إنك أنت علام الغيوب وهم في ذلك الوقت صادقون) في [ ص: 466 ] قولهم (إذ طارت فيه العقول) وطاشت الحلوم (وانمحت العلوم إلى أن يقوى بهم الله تعالى) بتسكين قلوبهم من الرعب (فيدعى نوح) -عليه السلام- (فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم) يارب قد بلغت ما أرسلت به (فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير) ينذرنا من عقابك (ويؤتى بعيسى) -عليه السلام- (فيقول الله تعالى: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله فيبقى متشحطا تحت هذا السؤال سنين) روى ابن مردويه من حديث جابر بن عبد الله : إذا كان يوم القيامة جمعت الأمم ودعي كل أناس بأمامهم، قال: ويدعى عيسى فيقول له: يا عيسى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله فيقول: سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق الآية إلى قوله: صدقهم .

وروى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ميسرة قال: لما قال الله: يا عيسى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله أرعد كل مفصل منه حتى وقع.

وروى ابن أبي حاتم عن الحسن بن صالح قال: لما قال: أأنت قلت للناس الآية. زال كل مفصل له عن مكانه خيفة .

(فيا لعظم يوم تقام فيه السياسة على الأنبياء بمثل هذا السؤال، ثم تقبل الملائكة فينادون واحدا واحدا: يا فلان بن فلانة) ويسمونه باسمه واسم أمه (هلم إلى موقف العرض، وعند ذلك ترتعد الفرائص وتضطرب الجوارح وتبهت العقول ويتمنى أقوام أن يذهب بهم إلى النار ولا تعرض قبائح أعمالهم على الجبار) جل جلاله (ولا يكشف ستره على تلك الخلائق، وقبل الابتداء بالسؤال يظهر نور العرش وأشرقت الأرض بنور ربها) .

وروى أبو الشيخ في العظمة والبيهقي في البعث من حديث أبي هريرة الطويل المتقدم وذكر بعضه: فبينما نحن وقوف إذ سمعنا حسا من السماء شديدا فينزل أهل السماء الدنيا بمثل من في الأرض من الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم، ثم ينزل أهل السماء الثانية بمثل ما نزل من الملائكة ومثل من فيها من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم، ثم ينزل أهل السماء الثالثة بمثل من نزل من الملائكة وبمثل من فيها من الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم، ثم ينزلون على قدر ذلك من التضعيف إلى السموات السبع، ثم ينزل الجبار في ظلل من الغمام . الحديث (وأيقن كل عبد بإقبال الجبار) جل جلاله (لمساءلة العباد وظن كل واحد أنه ما يراه أحد سواه وأنه المقصود بالأخذ والسؤال دون من عداه، فيقول الجبار -سبحانه وتعالى- عند ذلك: يا جبريل، ائت بالنار؛ فجاءها جبريل) -عليه السلام- (وقال: يا جهنم أجيبي خالقك ومالكك فيصادفها جبريل) -عليه السلام- (على غيظها وغضبها، فلم يلبث بعد ندائه لها أن ثارت وفارت وزفرت إلى الخلائق وشهقت) والزفير أول صوت الحمار والشهيق آخره، ثم استعير ذلك للنار لها زفير وشهيق (وسمع الخلائق تغيظها وزفيرها وأنهضت خزنتها متوثبة إلى الخلائق غضبا على من عصى الله تعالى وخالف أمره) .

وروى ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: سمعوا لها شهيقا قال: صياحا، وروى عبد بن حميد عن يحيى قال: إن الرجل ليجر إلى النار فتشهق إليه النار شهيق البغلة إلى الشعير، ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف، وروى هناد عن مجاهد في قوله وهي تفور قال: تفور بهم كما يفور الحب القليل في الماء الكثير، وروى ابن جرير عن ابن عباس في قوله: تميز من الغيظ قال: أي: تتفرق، وروى ابن مردويه من حديث أبي سعيد : يجيء بجهنم سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام فتشرد شردة لو تزكت لأحرقت أهل الجمع، ومن حديث علي نحوه، وروى مسلم والترمذي من حديث ابن مسعود : يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام من كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها .

(فأخطر ببالك وأحضر في قلبك حالة قلوب العباد وقد امتلأت فزعا ورعبا) من مشاهدة هول ذلك الموقف (فتساقطوا جثيا على الركب) كما هو شأن كل مرعوب (وولوا مدبرين) على أعقابهم ( يوم ترى كل أمة جاثية ) أي: مستوفزين على الركب قاله مجاهد، وزاد الضحاك عند الحساب، وروى البيهقي في البعث من حديث عبد الله بن باباه: كأني أراكم بالكوم دون جهنم جاثين، ثم قرأ سفيان: وترى كل أمة جاثية (وسقط بعضهم على الوجوه منكبين وينادي العصاة والظالمون بالويل والثبور) على أنفسهم وهم [ ص: 468 ] أصحاب الكبائر (وينادي الصديقون والصالحون: نفسي نفسي) كما سيأتي في حديث الشفاعة (فبينما هم كذلك إذ زفرت النار زفرتها الثانية فتضاعف خوفهم وتخاذلت قواهم) أي: تراخت (وظنوا أنهم مأخوذون) لا محالة، (ثم زفرت الثالثة فتساقط الخلائق لوجوههم) منكبين (وشخصوا بأبصارهم ينظرون من طرف خفي خاشع) أي: ذليل منكسر (وانهضمت عند ذلك قلوب الظالمين) أي: انكسرت (فبلغت الحناجر) أي: الحلوق (كاظمين) ساترين حنقهم (وذهلت العقول من السعداء والأشقياء أجمعين، وبعد ذلك أقبل الله تعالى على الرسل، وقال: ماذا أجبتم؟) فيما أرسلتم (فإذا رأوا ما قد أقيم من السياسة على الأنبياء اشتد الفزع على العصاة) وكادوا يذوبون (ففر الوالد من ولده والأخ من أخيه والزوج من زوجته وبقي كل واحد منتظر الأمر، ثم يؤخذ واحد واحد فيسأله الله تعالى شفاها عن قليل عمله وكثيره، وعن سره وعلانيته وعن جميع جوارحه وأعضائه. قال أبو هريرة ) رضي الله عنه (قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارون) بتشديد الراء مفاعلة من الضرر (في رؤية الشمس في الظهيرة) أي: وسط النهار (ليس دونها سحاب) يمنع من الرؤية (قالوا: لا، قال: فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا، قال: فو الذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم. فيلقى العبد فيقول له: ألم أكرمك وأسودك) أي: أجعلك سيدا؛ أي: رئيسا (وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس) على الناس (وتربع) يقال: ربع القوم يربعهم، من حد منع، إذا أخذ منهم المرباع وهو ربع الغنيمة، وكان رئيس القوم يأخذه لنفسه في الجاهلية (فيقول العبد: بلى. فيقول: أظننت أنك ملاقي) بتشديد الياء؛ أي: ملاق إياي (فيقول: لا، فيقول: فإني أنساك كما نسيتني) .

قال العراقي : متفق عليه، دون قوله: فيلقى العبد. إلخ. فانفرد بها مسلم. اهـ .

قلت: إلا أن لفظ مسلم: فيلقى العبد، فيقول: أي فل، وزاد بعد قوله كما نسيتني، ثم يلقى الثاني فيقول: أي فل، ألم أكرمك؟ فساقه مثل الأول، وفيه: ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول: ههنا إذن، ثم يقال: الآن نبعث شاهدنا عليك، ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه، ويقال لفخذه: انطقي؛ فينطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك الذي يسخط الله عليه، وروى البيهقي في البعث بلفظ: يقول الله لعبده يوم القيامة: يا ابن آدم، ألم أحملك على الخيل والإبل وأزوجك النساء وأجعلك تربع وترأس؟ فيقول: بلى، أي رب، فيقول: أين شكر ذلك؟ وروي أيضا من حديث عبد الله بن سلام : يقول الله للعبد يوم القيامة: ألم تدعني لمرض كذا وكذا فعافيتك؟ ألم تدعني أن أزوجك كريمة قومها فزوجتك؟ ألم ألم. ورواه كذلك أبو الشيخ .




الخدمات العلمية