الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وأما القسم الثالث مما يسمى " توسلا " فلا يقدر أحد أن ينقل فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا يحتج به أهل العلم - كما تقدم بسط الكلام على ذلك - وهو الإقسام على الله عز وجل بالأنبياء والصالحين أو السؤال بأنفسهم فإنه لا يقدر أحد أن ينقل فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ثابتا لا في الإقسام أو السؤال به . ولا في الإقسام أو السؤال بغيره من المخلوقين .

                وإن كان في العلماء من سوغه فقد ثبت عن غير واحد من العلماء أنه نهى [ ص: 286 ] عنه فتكون مسألة نزاع كما تقدم بيانه فيرد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله ويبدي كل واحد حجته كما في سائر مسائل النزاع وليس هذا من مسائل العقوبات بإجماع المسلمين بل المعاقب على ذلك معتد جاهل ظالم فإن القائل بهذا قد قال ما قالت العلماء والمنكر عليه ليس معه نقل يجب اتباعه لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة وقد ثبت أنه لا يجوز القسم بغير الله ; لا بالأنبياء ولا بغيرهم كما سبق بسط الكلام في تقرير ذلك .

                وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز لأحد أن ينذر لغير الله لا لنبي ولا لغير نبي وأن هذا النذر شرك لا يوفي به . وكذلك الحلف بالمخلوقات لا تنعقد به اليمين ولا كفارة فيه حتى لو حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم لم تنعقد يمينه كما تقدم ذكره ولم يجب عليه كفارة عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين بل نهى عن الحلف بهذه اليمين . فإذا لم يجز أن يحلف بها الرجل ولا يقسم بها على مخلوق فكيف يقسم بها على الخالق جل جلاله ؟ .

                وأما السؤال به من غير إقسام به فهذا أيضا مما منع منه غير واحد من العلماء والسنن الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين تدل على ذلك فإن هذا إنما يفعله على أنه قربة وطاعة وأنه مما يستجاب به الدعاء . وما كان من هذا النوع فإما أن يكون واجبا وإما أن يكون مستحبا [ ص: 287 ] وكل ما كان واجبا أو مستحبا في العبادات والأدعية فلا بد أن يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته فإذا لم يشرع هذا لأمته لم يكن واجبا ولا مستحبا ولا يكون قربة وطاعة ولا سببا لإجابة الدعاء وقد تقدم بسط الكلام على هذا كله . فمن اعتقد ذلك في هذا أو في هذا فهو ضال وكانت بدعته من البدع السيئة وقد تبين بالأحاديث الصحيحة وما استقرئ من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أن هذا لم يكن مشروعا عندهم . وأيضا فقد تبين أنه سؤال لله تعالى بسبب لا يناسب إجابة الدعاء وأنه كالسؤال بالكعبة والطور والكرسي والمساجد وغير ذلك من المخلوقات ومعلوم أن سؤال الله بالمخلوقات ليس هو مشروعا كما أن الإقسام بها ليس مشروعا بل هو منهي عنه . فكما أنه لا يسوغ لأحد أن يحلف بمخلوق فلا يحلف على الله بمخلوق ولا يسأله بنفس مخلوق ; وإنما يسأل بالأسباب التي تناسب إجابة الدعاء كما تقدم تفصيله . لكن قد روي في جواز ذلك آثار وأقوال عن بعض أهل العلم ولكن ليس في المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء ثابت بل كلها موضوعة .

                وأما النقل عمن ليس قوله حجة فبعضه ثابت وبعضه ليس بثابت والحديث الذي رواه أحمد وابن ماجه وفيه : { بحق السائلين عليك وبحق [ ص: 288 ] ممشاي هذا } رواه أحمد عن وكيع عن فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من قال إذا خرج إلى الصلاة : اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أسألك أن تنقذني من النار وأن تدخلني الجنة وأن تغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له وأقبل الله عليه بوجهه حتى يقضي صلاته } . وهذا الحديث هو من رواية عطية الصالحية عن أبي سعيد وهو ضعيف بإجماع أهل العلم وقد روي من طريق آخر وهو ضعيف أيضا ولفظه لا حجة فيه فإن حق السائلين عليه أن يجيبهم وحق العابدين أن يثيبهم وهو حق أحقه الله تعالى على نفسه الكريمة بوعده الصادق باتفاق أهل العلم وبإيجابه على نفسه في أحد أقوالهم وقد تقدم بسط الكلام على ذلك . وهذا بمنزلة الثلاثة الذين سألوه في الغار بأعمالهم : فإنه سأله هذا ببره العظيم لوالديه ; وسأله هذا بعفته العظيمة عن الفاحشة ; وسأله هذا بأدائه العظيم للأمانة لأن هذه الأعمال أمر الله بها ووعد الجزاء لأصحابها فصار هذا كما حكاه عن المؤمنين بقوله . { ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار } وقال تعالى : { إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين } وقال تعالى : { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد } { الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار } وكان ابن مسعود يقول في السحر : اللهم دعوتني فأجبت وأمرتني فأطعت وهذا سحر فاغفر لي .

                وأصل هذا الباب أن يقال : الإقسام على الله بشيء من المخلوقات أو السؤال له به إما أن يكون مأمورا به إيجابا أو استحبابا أو منهيا عنه نهي تحريم أو كراهة أو مباحا لا مأمورا به ولا منهيا عنه . وإذا قيل : إن ذلك مأمور به أو مباح فإما أن يفرق بين مخلوق ومخلوق أو يقال : بل يشرع بالمخلوقات المعظمة أو ببعضها . فمن قال إن هذا مأمور به أو مباح في المخلوقات جميعها : لزم أن يسأل الله تعالى بشياطين الإنس والجن فهذا لا يقوله مسلم . فإن قال : بل يسأل بالمخلوقات المعظمة كالمخلوقات التي أقسم بها في كتابه لزم من هذا أن يسأل بالليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها - ويسأل الله تعالى ويقسم عليه بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس ويسأل بالذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا - ويسأل بالطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع [ ص: 290 ] والبحر المسجور - ويسأل ويقسم عليه بالصافات صفا وسائر ما أقسم الله به في كتابه . فإن الله يقسم بما يقسم به من مخلوقاته لأنها آياته ومخلوقاته . فهي دليل على ربوبيته وألوهيته ووحدانيته وعلمه وقدرته ومشيئته ورحمته وحكمته وعظمته وعزته فهو سبحانه يقسم بها لأن إقسامه بها تعظيم له سبحانه .

                ونحن المخلوقون ليس لنا أن نقسم بها بالنص والإجماع . بل ذكر غير واحد الإجماع على أنه لا يقسم بشيء من المخلوقات وذكروا إجماع الصحابة على ذلك بل ذلك شرك منهي عنه . ومن سأل الله بها : لزمه أن يسأله بكل ذكر وأنثى وبكل نفس ألهمها فجورها وتقواها ويسأله بالرياح والسحاب والكواكب والشمس والقمر والليل والنهار والتين والزيتون وطور سينين ويسأله بالبلد الأمين مكة ويسأله حينئذ بالبيت والصفا والمروة وعرفة ومزدلفة ومنى وغير ذلك من المخلوقات ويلزم أن يسأله بالمخلوقات التي عبدت من دون الله ; كالشمس والقمر والكواكب والملائكة والمسيح والعزير وغير ذلك مما عبد من دون الله ومما لم يعبد من دونه .

                ومعلوم أن السؤال لله بهذه المخلوقات أو الإقسام عليه بها من أعظم البدع المنكرة في دين الإسلام ومما يظهر قبحه للخاص والعام . ويلزم من ذلك أن يقسم على الله تعالى بالإقسام والعزائم التي تكتب في [ ص: 291 ] الحروز والهياكل التي تكتبها الطرقية والمعزمون ; بل ويقال : إذا جاز السؤال والإقسام على الله بها فعلى المخلوقات أولى فحينئذ تكون العزائم والإقسام التي يقسم بها على الجن مشروعة في دين الإسلام وهذا الكلام يستلزم الكفر والخروج من دين الإسلام بل ومن دين الأنبياء أجمعين .

                وإن قال قائل : بل أنا أسأله أو أقسم عليه بمعظم دون معظم من المخلوقات إما الأنبياء دون غيرهم أو نبي دون غيره كما جوز بعضهم الحلف بذلك أو بالأنبياء والصالحين دون غيرهم . قيل له : بعض المخلوقات وإن كان أفضل من بعض فكلها مشتركة في أنه لا يجعل شيء منها ندا لله تعالى فلا يعبد ولا يتوكل عليه ولا يخشى ولا يتقى ولا يصام له ولا يسجد له ولا يرغب إليه ولا يقسم بمخلوق كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت } وقال { لا تحلفوا إلا بالله } وفي السنن عنه أنه قال { من حلف بغير الله فقد أشرك } .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية