الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 2771 ] سورة الأعراف

                                                          هي سورة مدنية إلا ثماني آيات من الآية رقم 163 إلى الآية 170، وسنتكلم فيها في موضعها -إن شاء الله تعالى- وعدد آيات هذه السورة الكريمة ست ومائتان.

                                                          وقد ابتدأ الله تعالى هذه السورة بالحروف: (المص)، وقد تكلمنا في هذه الحروف في فواتح سور القرآن، وذكرنا أنها من المتشابه الذي اختص علم الله تعالى، وذكرنا حكمة ذكرها، وعند الله غيب أمرها.

                                                          ابتدئت السورة بذكر القرآن، والأمر باتباعه، ثم أشارت إلى أن يوم القيامة يجيء بغتة، فالقرى يجيئها أمر الله بغتة وهم نائمون، وعندئذ يحس الظالمون بظلمهم إذ ذهب طغيانهم، ويبين الله -تعالى- أن اليوم يوم سؤالهم عما ظلموا، وتوزن أعمالهم بخيرها وشرها، والوزن يومئذ الحق، وقد ذكر سبحانه أن السبب في طغيانهم أنه مكن لهم في الأرض، وتمكن الشيطان منهم.

                                                          ويذكر سبحانه كيف يتمكن الشيطان، وساق -سبحانه وتعالى- قصة الخلق الأول، ليبين لهم عداوة إبليس وكيف أغوى آدم على مخالفة ربه، هو وزوجه حواء، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور، وقد ذكر سبحانه عاقبة ذلك التدلي.

                                                          صرح بعد ذلك القصص الحكيم بالنهي عن الخضوع للشيطان إبليس ومن معه، فقال: يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينـزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون

                                                          [ ص: 2772 ] وبين -سبحانه- أنه كما دلى الشيطان آدم وزوجه بغرور حتى تسبب في نزع لباسهم كذلك يغري قريشا فيجعلهم يطوفون عراة، وإن ذلك هو عين الفساد، وأمر الله تعالى أن يأخذوا زينتهم ويلبسوا عند كل مسجد: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين

                                                          ويبين -سبحانه وتعالى- ما أحله الله من طيبات وما أراد الشيطان أن يحرمه عليهم.

                                                          ويبين -سبحانه وتعالى- أن مقاومة الشيطان إنما هي باتباع الهدى الذي يجيء على ألسنة الأنبياء: يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون

                                                          وبين -سبحانه وتعالى- أن الشيطان يغري أتباعه بمعاندة هؤلاء الرسل كما أغرى كبيرهم آدم وحواء بمخالفة أمر الله تعالى.

                                                          ثم يذكر -سبحانه وتعالى- مآل الطاغين على الرسل بإغواء الشيطان يوم القيامة وكيف يتطارحون الضلال بين الغاوين ومن أغووهم من شياطين الجن والإنس حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون

                                                          وبين -سبحانه وتعالى- جزاء الذين استكبروا عن الحق بأهواء الشيطان، وفي مقابلهم جزاء الذين آمنوا وأطاعوا الله، ولم يغوهم الشيطان، وأن لهم الجنة: ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين

                                                          وكان بين أصحاب الجنة أصحاب الأعراف، وقد نادوا الظالمين الذين يعرفونهم: ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون

                                                          [ ص: 2773 ] وأما أصحاب النار فقد ذكر الله -سبحانه- أنهم في عطش شديد، ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله.

                                                          بين الله تعالى من بعد ذلك أن الذين عصوا واستكبروا قد جاءهم القرآن الكريم يهديهم، ويدعوهم إلى الحق، ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون

                                                          ولكنهم كفروا به، وطغوا، وطلبوا معرفة مآله، فبين -سبحانه- أنهم يعرفون مآل ما اشتمل عليه بقول الذين نسوه من قبل: قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون

                                                          بعد هذا البيان الحكيم في هذه السورة الكريمة وجه الله تعالى العقول إلى آياته في الكون فقال: إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين وينهى رب الكون عن الفساد في الأرض، ويبين آياته -سبحانه- في إرسال الرياح بشرا بين يدي رحمته، وأنه -سبحانه- يرسل سحابا ثقالا إلى الأرض الميتة ليحييها.

                                                          ويقص بعد ذلك قصص أنبيائه، ليسري على محمد -صلى الله عليه وسلم- بقصصهم، وليسوق العبر والمثلات للمشركين ليعتبروا ويستبصروا، فيذكر خبر نوح مع قومه، ويرمونه بالضلالة، كما رمى المشركون محمدا بها، ويعجبون من أن الله أرسل رسولا، كما تعجبت قريش من رسالته -صلى الله عليه وسلم-، ويذكرهم بأن الله تعالى سينجي [ ص: 2774 ] محمدا من شرهم كما نجى نوحا: فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين

                                                          ويذكر من بعد نوح في هذه السورة الكريمة خبر هود مع قومه عاد، وكيف رموه بالسفاهة كما رمت قريش محمدا -صلى الله عليه وسلم-، وقد كان فيهم الصادق الأمين، وكيف كان ينصح لهم، ويذكرهم بما آتاهم الله -تعالى- من نعمة، وقد عجبوا أن جاءهم رسول منهم، كما عجبت قريش: قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب وقال لهم هود: أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نـزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين

                                                          وذكر -سبحانه وتعالى- من بعد قصة هود قصة صالح مع قومه ثمود؛ إذ دعاهم إلى عبادة الله تعالى وحده، وأتى لهم بمعجزة حسية هي الناقة، وقد ذكرهم بما نزل بعاد من قبلهم، وذكرهم بنعمة الله تعالى: واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ولكنهم كفروا وعقروا الناقة، فأنزل الله تعالى عذابه الدنيوي، وتولى عنهم هود وقد أبلغهم رسالة ربه.

                                                          ومن بعده بعث الله لوطا إلى قومه، وذكر الله تعالى شذوذهم وأهلكهم الله تعالى: وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين

                                                          وأرسل إلى مدين أخاهم شعيبا، وقص الله -تعالى- في السورة قصصه مع قومه إذ دعاهم إلى الحق وإلى صراط مستقيم، وألا يفسدوا ولا يعتدوا ولا يصدوا عن سبيل الله، وقد آمنت طائفة، وطائفة منهم وهم الذين استكبروا، وحاولوا إخراج شعيب قائلين: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا ولكن الله نجاه منهم، وقال لن نعود في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها.

                                                          [ ص: 2775 ] وقال الذين كفروا للذين آمنوا: لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون وقد أخذتهم بسبب عصيانهم الرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين..، فتولى عنهم شعيب وقال لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين.

                                                          وقد بين -سبحانه وتعالى- في هذه السورة الكريمة سنته مع الذين يرسل إليهم النبيين أن يختبرهم بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون، ثم يختبرهم من بعد ذلك بالحسنة لعلهم يدركون، ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فإذا كفروا، ولم تردعهم الضراء، ولم يشكروا السراء، أخذهم العذاب بغتة وهم لا يشعرون.

                                                          ولقد ذكر -سبحانه وتعالى- أن أهل القرى، لو أنهم آمنوا لأتتهم النعم من حيث لا يشعرون: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون

                                                          ولقد ذكر سبحانه في هذه السورة المحكمة غفلة أهل القرى أي: المدن العظيمة عن أن يأتيهم عذاب الله تعالى في آياته سبحانه وتعالى، وأن الذين يرثون أرضها لا يهتدون، ولا يعتبرون بما كان منهم: وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين

                                                          ذكر بعد هذه العبرة التي بينها -سبحانه وتعالى- في سنته في الهداية، وعقاب من لا يهتدون قصة موسى وفرعون، ومعجزة موسى، بل معجزاته مع فرعون، طاغية الوجود الإنساني في مصر، بل لا يزال مثلا يضرب لكل طاغية في الأرض.

                                                          تقدم موسى إلى فرعون يدعوه إلى الله تعالى، وتقدم بعصاه فحرض فرعون قومه أنه يريد أن يخرجهم من أرضهم بسحره.

                                                          [ ص: 2776 ] جاءوا بكل ساحر عليم، وتقدم موسى بعصاه، قاهر موسى للسحرة: ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم فأمر الله تعالى موسى أن يلقي بعصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون، فخر السحرة ساجدين؛ لأنهم علموا أن ما جاء به موسى ليس سحرا.

                                                          عاقبهم فرعون وقال: لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين قالوا إنا إلى ربنا منقلبون وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين

                                                          وقد أخذت شيعة فرعون ترد على موسى كالشأن في كل طاغية لا يطغى إلا بشيعة تحسن له الشر، وتقبح له الخير، قالوا لفرعون: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين

                                                          ولكن بني إسرائيل يتململون بموسى ويقولون: أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض

                                                          أخذ الله تعالى آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات، وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه، وأرسل الله عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات.

                                                          وإذا اشتد الأمر بهم: قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فأغرقهم الله تعالى، وجاوز الله ببني إسرائيل البحر وأورثهم ملكا بعد أن كانوا مستضعفين في الأرض.

                                                          ولكن بني إسرائيل بعد أن جاوزوا البحر عادت إليهم وثنية الفراعنة: قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون [ ص: 2777 ] وذكرهم الله الذي نجاهم من فرعون وملئه الذين كانوا يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، ويسومهم سوء العذاب: وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم

                                                          واعد الله تعالى موسى أربعين ليلة: وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين

                                                          ذهب موسى لميقات ربه: وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين قبل الله توبة موسى وبين له اصطفاءه له: وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء من أحكام شريعته عليه السلام، ويقول الله عن هذه الألواح: سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وقد بين -سبحانه وتعالى- جزاءهم في الآخرة.

                                                          وفي غيبة موسى الأربعين ليلة: واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار وزين لهم الشيطان عبادة العجل التي تقبلها المصريون في نفوسهم.

                                                          وإن الناس يضلون فإذا رأوا داعية الهداية ذهب عنهم ضلالهم فلما رأوا موسى سقط في أيديهم: ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين

                                                          رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا، وقال: بئسما خلفتموني من بعدي، وأخذ يعتب على أخيه هارون: وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي

                                                          أحس موسى بأنه تجاوز في غضبه فاتجه إلى ربه ضارعا: رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين وذكر الله ما سينال الذين اتخذوا العجل ولم يتوبوا، وقال: سينالهم غضب من ربهم وذلة.

                                                          [ ص: 2778 ] وبعد أن ذهبت ضجة العجل وسكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفيها هدى ورحمة - واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقات الله، فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء

                                                          اتجه موسى وقومه ضارعين إلى الله تعالى وقالوا: إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون

                                                          وذكر منهم ممن تتسع له رحمته: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنـزل معه أولئك هم المفلحون

                                                          ويأمر الله -تعالى- في هذه السورة نبيه محمدا -صلى الله عليه وسلم- بعد أن ذكر البشارة به بأن يقول: إنه رسول الله تعالى إلى الناس جميعا ويدعوهم إلى اتباعه.

                                                          وتعود الآيات إلى قوم موسى -عليه السلام- فيذكر أن: ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ويذكر أنه -سبحانه وتعالى- قطعهم في الأرض: اثنتي عشرة أسباطا أمما ثم يذكر -سبحانه وتعالى- آياته منهم ونعمه عليهم، من ضرب الحجر بعصا: فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وأنه أنزل عليهم المن والسلوى، وأنه ظلل عليهم الغمام وأنهم لم يشكروا النعمة، بل كفروا بها.

                                                          ويذكر حالهم يوم السبت إذ حرم عليهم الصيد فيه: واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم

                                                          [ ص: 2779 ] ولقد يئس بعض المهتدين منهم من هداية إخوانهم فقالوا: تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون ولقد بين الله تعالى حال الذين نسوا ما ذكروا به، وأنه أنجى الذين ينهون عن السوء، وأصاب الذين ظلموا بعذاب بما كانوا يفسقون، ولقد ذكر الله حال بني إسرائيل من بعد موسى، فقد بعث عليهم من يسومهم سوء العذاب، وقطعه في الأرض أمما، وورث من بعدهم خلف يأخذون أدنى ما في الكتاب وإن يأتهم عرض يأخذوه، ويقولون: سيغفر لنا.

                                                          وإن بني إسرائيل قد مردوا على العصيان وقد أخذ الله -تعالى- الميثاق ورفع الجبل فوقهم كأنه ظلة، وظنوا أنه واقع بهم وأخذ عليهم الميثاق، وهم تحت تأثير تلك الآية القاطعة، وقال: خذوا ما أتيناكم بقوة، ولكنهم نقضوه ولم ينفذوه.

                                                          ولقد بين الله سبحانه أنه أخذ من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ودل ذلك على أن التوحيد دين الفطرة وبين سبحانه أن هذه الآية الفطرية التي أودعها الأخلاف والذرية من ينسلخ منها يتبعه الشيطان ويغويه وتكون كل أعماله في دائرة الشر: كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا وأسوأ الأمثال مثل الذين كذبوا بآيات الله وأنفسهم كانوا يظلمون

                                                          وإن من يهديه الله فهو المهتدي، ولقد خلق الله لجهنم كثيرا من الجن والإنس، وهؤلاء لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك هم الغافلون.

                                                          وأخذ -سبحانه وتعالى- في هذه السورة الكريمة يذكر الذين اهتدوا في مقابل الذين كفروا وظلموا، وقال في الذين كفروا: سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين

                                                          [ ص: 2780 ] ووجه الله تعالى أنظار الناس إلى ملكوت السماوات والأرض، وبين أنه من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون

                                                          وذكر الله تعالى الساعة وأنه وحده هو الذي يعلمها: يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون

                                                          بعد ذلك بين الله -سبحانه وتعالى- خلق الإنسان وزوجه ليسكن إليها، وصور سبحانه ضلال الإنسان بمن تحمل امرأته حملا خفيفا فمرت فلما ثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين: فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون

                                                          وبين -سبحانه وتعالى- ضلال من يشركون وذكر أنهم يدعون في عبادتهم أوثانا لا تضر ولا تنفع سواء أكانوا أحجارا أم غيرها، وقال سبحانه: إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون إن وليي الله الذي نـزل الكتاب وهو يتولى الصالحين والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون

                                                          ولقد دعا الله -تعالى- نبيه إلى ما يتجلى به في الدعوة فقال: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وإما ينـزغنك من الشيطان نـزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون

                                                          [ ص: 2781 ] ولقد أوصى الله المؤمنين من ضمن وصيته لنبيه: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون

                                                          هذه إشارة موجزة إلى بيان ما اشتملت سورة الأعراف إجمالا، ثم نقدمها بين يدي ذكر معانيها، ولنبدأ من بعد ذكر ما يسعه إدراكنا من معانيها والله الهادي.

                                                          معاني السورة الكريمة

                                                          بسم الله الرحمن الرحيم

                                                          المص كتاب أنـزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنـزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين

                                                          المص قد تقدم القول في الحروف المفردة التي تبتدئ بها أوائل بعض السور، وهي من المتشابه الذي اختص به علم الله.

                                                          كتاب أنـزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه

                                                          كتاب خبر لمبتدأ محذوف، أو خبر المص على نظر بعض الذين قالوا: إنها اسم للسورة أو الكتاب، والتنكير هنا لبيان شرفه العظيم، أي: أنه كتاب بالغ الغاية في شرفه ورفعته ومؤداه؛ لأنه منزل من عند الله تعالى العالم بكل شيء، [ ص: 2782 ] والقادر على كل شيء العزيز الحكيم، وقال:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية