الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          وأما قولنا : بالجمع بين صلاتي الظهر ، والعصر بعرفة بأذان واحد وإقامتين وبمزدلفة بين المغرب والعتمة كذلك أيضا فلما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخبر المذكور ; وقد اختلف الناس في هذا ; فقال أبو حنيفة ، والشافعي ; في الصلاة بعرفة كما قلنا . [ ص: 121 ]

                                                                                                                                                                                          وقال مالك : بأذانين وإقامتين لكل صلاة أذان وإقامة ، وما نعلم لهذا القول حجة أصلا لا من سنة صحيحة ، ولا من رواية سقيمة ، ولا من عمل صاحب ، ولا تابع ، فإن قالوا : قسنا ذلك على الجمع بمزدلفة ؟ قلنا : هذا قياس للخطأ على الخطأ ، وقولكم هذا في مزدلفة خطأ على ما نبينه إن شاء الله - تعالى .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : قسنا ذلك على الصلوات الفائتات ؟ قلنا : القياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان [ هذا ] منه عين الباطل ; لأن صلاة الظهر ، والعصر ، بعرفة ليستا فائتتين ، ومن الباطل قياس صلاة تصلى في وقتها على صلاة فائتة لا سيما وأنتم لا تقولون بهذا العمل في الفائتات ، وقال سفيان ، وإسحاق : يجمع بين الظهر ، والعصر ، بعرفة بإقامتين فقط بلا أذان .

                                                                                                                                                                                          واحتج أهل هذا القول بخبر رويناه من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بمكة وبمنى كل صلاة بأذان وإقامة ، وصلى - بعرفة ، وبجمع - كل صلاة بإقامة } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هذا لا تقوم به حجة ، ثم لو صح لما كانت فيه حجة ، لأن خبر جابر ورد بزيادة ذكر الأذان ، وزيادة العدل واجب قبولها ، ولا بد ، وأما الجمع بمزدلفة كما ذكرنا فللخبر المذكور أيضا .

                                                                                                                                                                                          وفي هذا خلاف من السلف - : روينا من طريق حماد بن زيد ، وحماد بن سلمة ، قال ابن زيد : عن نافع قال : لم أحفظ عن ابن عمر أذانا ولا إقامة بجمع - يعني مزدلفة .

                                                                                                                                                                                          وقال ابن سلمة عن أنس عن ابن سيرين قال : صليت مع ابن عمر بجمع المغرب بلا أذان ولا إقامة ، ثم العشاء بلا أذان ولا إقامة .

                                                                                                                                                                                          وقول ثان - : وهو أننا روينا عنه أيضا أنه جمع بينهما بإقامة واحدة بلا أذان - وروينا ذلك عن شعبة عن الحكم بن عتيبة ، وسلمة بن كهيل ، كلاهما عن سعيد بن جبير : أنه صلى المغرب والعشاء بجمع بإقامة واحدة - وذكر أن ابن عمر فعل مثل ذلك ، وأن ابن عمر ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك . [ ص: 122 ] ورويناه أيضا من طريق مجاهد ، وغيره عن ابن عمر : أنه فعل ذلك - وهو قول سفيان ، وأحمد بن حنبل في أحد قوليهما - وبه أخذ أبو بكر بن داود .

                                                                                                                                                                                          واحتج أهل هذه المقالة بما رويناه من طريق سفيان الثوري ، ويحيى بن سعيد القطان ، قال سفيان : عن مسلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ; وقال القطان : عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه ; ثم اتفق ابن عباس ، وابن عمر : على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بمزدلفة بين المغرب والعشاء بإقامة واحدة ، وهذا خبر صحيح .

                                                                                                                                                                                          وقول ثالث - : وهو الجمع بينهما بإقامتين - لكل صلاة إقامة دون أذان - : روينا عن حماد بن سلمة عن الحجاج بن أرطاة عن أبي إسحاق السبيعي عن عبد الرحمن بن يزيد أن عمر بن الخطاب جمع بينهما بإقامتين - يعني بمزدلفة - ومن طريق عبد الرزاق عن بعض أصحابه عن شريك عن أبي إسحاق عن أبي جعفر : أن علي بن أبي طالب جمع بين المغرب والعشاء ، كل واحدة منهما بإقامة - يعني بمزدلفة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق حماد بن سلمة أنا عبد الكريم أنه كان مع سالم بن عبد الله بن عمر بمزدلفة فجمع بين المغرب والعشاء بإقامتين ، وهو قول سفيان ، والشافعي ، وأحمد - في أحد أقوالهم .

                                                                                                                                                                                          واحتجوا بما رويناه من طريق مالك عن موسى بن عقبة عن كريب مولى ابن عباس عن أسامة بن زيد { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى مزدلفة فتوضأ ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت الصلاة فصلى ، ولم يصل بينهما شيئا } . ومن طريق البخاري نا عاصم عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر [ رضي الله عنهما ] قال { جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء [ ص: 123 ] بجمع كل واحدة منهما بإقامة ، ولم يسبح بينهما ، ولا على إثر كل واحدة منهما } وهذان خبران صحيحان .

                                                                                                                                                                                          وقول رابع - : وهو أن الجمع بينهما بأذان واحد وإقامة واحدة - : روينا من طريق سفيان الثوري عن سماك بن حرب عن النعمان بن حميد أن عمر جمع بين الصلاتين بمزدلفة بأذان وإقامة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي داود السجستاني نا مسدد نا أبو الأحوص نا أشعث بن سليم عن أبيه " أنه كان مع ابن عمر بمزدلفة فأذن وأقام ، أو أمر بذلك ثم صلى المغرب ثلاث ركعات ، ثم التفت إلينا فقال : الصلاة ، فصلى العشاء ركعتين .

                                                                                                                                                                                          قال أشعث : وأخبرني علاج بن عمرو { عن ابن عمر بهذا قال : فقيل لابن عمر في ذلك ؟ فقال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا } . وبه يأخذ أبو حنيفة إلا أنه قال : فإن تطوع بينهما أقام للعشاء إقامة أخرى .

                                                                                                                                                                                          وقول خامس - : وهو الجمع بينهما بأذانين وإقامتين صح ذلك عن عمر بن الخطاب من طريق هشيم عن إبراهيم عن الأسود كنت مع عمر فأتى المزدلفة فصلى المغرب والعشاء ، كل صلاة بأذان وإقامة - : نا حمام نا الباجي نا عبد الله بن يونس نا بقي نا أبو بكر بن أبي شيبة نا أبو الأحوص عن أبي إسحاق السبيعي عن عبد الرحمن بن يزيد قال : صليت مع ابن مسعود المغرب بجمع بأذان وإقامة ، ثم أتينا بعشائنا فتعشينا ، ثم صلى بنا العشاء بأذان وإقامة .

                                                                                                                                                                                          وبه نصا إلى أبي إسحاق السبيعي عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين : أن علي بن أبي طالب كان يجمع بين الصلاتين بمزدلفة كل صلاة بأذان وإقامة - وهو قول محمد بن علي بن الحسين ، وذكره عن أهل بيته ; وبه يقول مالك .

                                                                                                                                                                                          ولا حجة في هذا القول من خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          ولا حجة في قول عمر ، وابن مسعود ، وعلي في ذلك ; لأنه قد خالفهم غيرهم [ ص: 124 ] من الصحابة ، واختلف عن عمر أيضا كما أوردنا ، فالمرجوع إليه عند التنازع هو القرآن والسنة .

                                                                                                                                                                                          ولا حجة لأبي حنيفة في دعواه أن إعادة الأذان للعشاء هو من أجل أن عمر ، وابن مسعود تعشيا بين الصلاتين ; لأنهما لم يذكرا ذلك ، ولا أخبرا : أن إعادتهما الأذان إنما هو من أجل العشاء ، فهي دعوى فاسدة ؟ فإن قيل : قسنا ذلك على الجمع بين سائر الصلوات إذا صليت الأولى في آخر وقتها ، والأخرى في أول وقتها ، فلا بد من أذان وإقامة لكل صلاة ؟ قلنا : القياس باطل ، ولا يجوز أن يعارض ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بقياس فاسد قال أبو محمد : وقد روي مثل قولنا عن ابن عمر ، وسالم ابنه ، وعطاء ، كما روينا من طريق ابن أبي شيبة عن الفضل بن دكين عن مسعر بن كدام عن عبد الكريم قال : صليت خلف سالم : المغرب ، والعشاء بجمع بأذان وإقامتين ، فلقيت نافعا فقلت له : هكذا كان يصنع عبد الله ؟ قال : نعم ، فلقيت عطاء فقلت له ؟ فقال : قد كنت أقول لهم : لا صلاة إلا بإقامة - وهو قول الشافعي من رواية أبي ثور عنه ، فهي ستة أقوال - : أحدهما : الجمع بينهما بلا أذان ولا إقامة ، وصح عن ابن عمر . والثاني :

                                                                                                                                                                                          الجمع بينهما بإقامة واحدة فقط - وصح أيضا : عن ابن عمر - : وهو قول سفيان ، وأحمد ، وأبي بكر بن داود - وصح به خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . والثالث : الجمع بينهما بإقامتين فقط ; روي عن عمر ، وعلي ، وصح عن سالم بن عبد الله - وهو أحد قولي سفيان ، وأحمد ، والشافعي ; وصح به خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . والرابع :

                                                                                                                                                                                          الجمع بينهما بأذان واحد وإقامة واحدة - روي عن عمر ; وصح عن ابنه عبد الله - وهو قول أبي حنيفة - وصح به خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . والخامس :

                                                                                                                                                                                          الجمع بينهما بأذان واحد وإقامتين صح عن ابن عمر ، وسالم ابنه ، وعطاء ، وهو أحد قولي الشافعي ، وبه نأخذ - وصح بذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . والسادس :

                                                                                                                                                                                          الجمع بينهما بأذانين وإقامتين صح عن عمر ، وابن مسعود ، وروي [ ص: 125 ] عن علي ، وعن محمد بن علي بن الحسين وأهل بيته - وهو قول مالك .

                                                                                                                                                                                          فأما الأخبار في ذلك فبعضها بإقامة واحدة من طريق ابن عمر ، وابن عباس ، وبعضها بإقامتين من طريق ابن عمر ، وأسامة بن زيد - وبعضها بأذان واحد ، وإقامة واحدة من طريق ابن عمر - وبعضها بأذان واحد وإقامتين من طريق جابر ; فاضطربت الرواية عن ابن عمر إلا أن إحدى الروايات عنه ، وعن أسامة بن زيد ، وعن جابر بن عبد الله : زادت على الأخرى ; وعلى رواية ابن عباس إقامة فوجب الأخذ بالزيادة ، وإحدى الروايات عنه ، وعن جابر تزيد على الأخرى ، وعلى رواية أسامة أذانا ، فوجب الأخذ بالزيادة لأنها رواية قائمة بنفسها صحيحة فلا يجوز خلافها ، فإذا جمعت رواية سالم ، وعلاج عن ابن عمر صح منهما أذان ، وإقامتان كما جاء بينا في حديث جابر ، وهذا هو الذي لا يجوز خلافه ; ولا حجة لمن خالف ذلك - وبالله - تعالى - التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا : لا تجزئ صلاة المغرب تلك الليلة إلا بمزدلفة ولا بد ، وبعد غروب الشفق ولا بد ، فلما رويناه من طريق البخاري نا ابن سلام نا يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن موسى بن عقبة عن كريب مولى ابن عباس عن أسامة بن زيد قال { لما أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفات عدل إلى الشعب فقضى حاجته فجعلت أصب عليه ويتوضأ فقلت : يا رسول الله أتصلي ؟ قال : المصلى أمامك } وذكر باقي الحديث .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مسلم نا يحيى بن أيوب ، وقتيبة بن سعيد ، وابن حجر قالوا : نا إسماعيل نا يحيى بن يحيى - واللفظ له - نا إسماعيل بن جعفر عن محمد بن أبي حرملة عن كريب مولى ابن عباس { عن أسامة بن زيد أنه كان ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفات فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعب الأيسر الذي دون المزدلفة أناخ فبال ; ثم جاء فصببت عليه الوضوء فتوضأ وضوءا خفيفا ، ثم قلت : الصلاة يا رسول الله فقال : الصلاة أمامك } وذكر الحديث .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فإذ قد قصد عليه السلام ترك صلاة المغرب وأخبر بأن المصلى [ ص: 126 ] من أمام ، وأن الصلاة من أمام ، فالمصلى هو موضع الصلاة فقد أخبر بأن موضع الصلاة ووقت الصلاة من أمام ، فصح يقينا أن ما قبل ذلك الوقت ، وما قبل ذلك المكان ليس مصلى ، ولا الصلاة فيه صلاة .

                                                                                                                                                                                          روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : لا صلاة إلا بجمع - وروينا من طريق حجاج بن المنهال نا يزيد بن إبراهيم هو التستري - نا عبد الله بن أبي مليكة قال : كان ابن الزبير يخطبنا فيقول : ألا لا صلاة إلا بجمع ؟ يرددها ثلاثا .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن ليث عن مجاهد قال : لا صلاة إلا بجمع ، ولو إلى نصف الليل - وروي عن ابن عمر وابن عباس : صلاة المغرب دون جمع ، ولا حجة إلا في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية