الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا

الخطاب في هذه الآية للأوصياء الذين هم معدون لقرب مال اليتيم، ثم هي لمن تلبس بشيء من أمرهم من غير وصي، و"اليتيم": الفرد من الأبناء، واليتم: الانفراد، يقال: يتم الصبي ييتم إذا فقد أباه. قال ابن السكيت: اليتم في البشر من قبل الأب، وفي البهائم من قبل الأم. وفي كتاب الماوردي: أن اليتم في البشر من قبل الأم أيضا، وجمع اليتيم أيتام، كشريف وأشراف، وشهيد وأشهاد، ويجمع يتامى كأسير وأسارى، كأنها في الأمور المكروهة التي تدخل على المرء غلبة،. قال ابن سيده: وحكى ابن الأعرابي "يتمان" في "يتيم"، وأنشد في ذلك.


فبت أشوي صبيتي وحليلتي ... طريا وجرو الذئب يتمان جائع



ويجوز أن يكون "يتامى"جمع "يتمان". وفي الحديث: "لا يتم بعد حلم". وقوله تعالى: إلا بالتي هي أحسن يريد: إلا بأحسن الحالات.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وذلك في الوصي الغني، أن يثمر المال ويحوطه، ولا يحبس منه شيئا على جهة الانتفاع به. هذا هو الورع، والأولى ألا أن يكون يشتغل في مال اليتيم ويشح عليه، فالفقه أن تفرض له أجرة. وأما الوصي الفقير الذي يشغله مال اليتيم عن معاشه، فاختلف [ ص: 475 ] الناس في أكله منه بالمعروف، كيف هو؟ فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يتسلف منه، فإذا أيسر رد فيه، وقال ابن المسيب : لا يشرب الماء من مال اليتيم، قيل: فما معنى: فليأكل بالمعروف ؟ قال: إنما ذلك لخدمته وغسل ثوبه، وقال مجاهد : لا يقرب إلا بتجارة ولا يستقرض منه، قال: وقوله تعالى: فليأكل بالمعروف من مال نفسه. وقال أبو يوسف : لعل قوله: فليأكل بالمعروف منسوخ بقوله: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل . وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يأكل منه الشربة من اللبن، والطرفة من الفاكهة، ونحو هذا مما يخدمه، ويلوط الحوض، ويجد النخل، وينشد الضالة، فيأكل غير مضر بنسل، ولا ناهك في الحلب، وقال زيد بن أسلم: يأكل منه بأطراف أصابعه بلغة من العيش بتعبه.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذه استعارة للتقلل، وقال مالك رحمه الله، وغيره: يأخذ منه أجرة بقدر تعبه، فهذه كلها تدخل فيما هو أحسن. وكمال تفسير هذه المعاني في سورة النساء بحسب ألفاظ تلك الآيات، وفي الخبر عن قتادة أن هذه الآية لما نزلت شقت على المسلمين، وتجنبوا الأكل معهم في صحيفة، فنزلت وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح .

وقوله تعالى: حتى يبلغ أشده غاية الإمساك عن مال اليتيم، ثم ما بعد الغاية قد سنته [ ص: 476 ] آية أخرى، وما بعد هذه الغايات أبدا موقوف حتى يقوم فيه دليل شرعي، أو يقتضي ذلك الإنصاف في النازلة، ومثل هذا قول عائشة رضي الله عنها: "أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، وبعثت بها، فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله له حتى نحر الهدي".

و "الأشد": جمع (شد) عند سيبويه ، وقال أبو عبيدة : لا واحد له من لفظه، ومعناه: قواه في العقل والتجربة والنظر لنفسه، وذلك لا يكون إلا مع البلوغ، فالأشد في مذهب مالك إقران البلوغ بالاحتلام أو ما يقوم مقامه حسب الخلاف في ذلك، والرشد في المال. واختلف، هل من شروط ذلك الرشد في الدين على قولين: فابن القاسم لا يراعيه إذا كان ضابطا لماله، وراعاه غيره من بعض أصحاب مالك ، ومذهب أبي حنيفة أن الأشد هو البلوغ فقط، فلا حجر عنده على بالغ إلا أن يعرف منه السفه.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ولست من هذا التقييد في قوله على ثقة.

وقال أبو إسحاق الزجاج : الأشد في قوله أن يأتي على الصبي ثماني عشرة سنة.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وإنما أراد أنه بعض ما قيل في حد البلوغ لمن لا يحتلم، وأما أن يكون بالغا رشيدا فلا يدفع إليه ماله حتى يبلغ هذه المدة فشيء لا أحفظ من يقوله:

وقوله تعالى: وأوفوا بالعهد لفظ عام لكل عهد وعقد بين الإنسان وبين ربه، أو بينه وبين المخلوقين في طاعة، وقوله: إن العهد كان مسؤولا أي: مطلوبا ممن عهد إليه أو عوهد، هل وفى به أم لا؟

وقوله تعالى: وأوفوا الكيل إذا كلتم الآية. أمر الله تعالى في هذه الآية أهل التجر الوزن والكيل أن يعطوا الحق في كيلهم ووزنهم، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقف في السوق ويقول: يا معشر الموالي، إنكم وليتم أمرين بهما هلاك الناس قبلكم، هذا المكيال وهذا الميزان.

[ ص: 477 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وتقتضي هذه الآية أن الكيل على البائع; لأن المشتري لا يقال له: "أوف الكيل"، هذا ظاهر اللفظ والسابق منه، و "القسطاس" قال الحسن : هو القبان، ويقال فيه: القفان، وهو القاسطون، ويقال القرطسون، وقيل: القسطاس الميزان صغيرا كان أو كبيرا، وقال مجاهد : القسطاس: العدل، وكان يقول: هي لغة رومية، فكأن الناس قيل لهم: زنوا بمعدلة في وزنكم. وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو، وابن عامر ، وعاصم -في رواية أبي بكر : "القسطاس" بضم القاف، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : "القسطاس"، وهما لغتان، واللفظة منه للمبالغة من القسط، والمراد بها في الآية جنس الموازين العدلة على أي صفة كانت.

قال أبو حاتم : "إنما قرأ بكسر القاف أهل الكوفة ، وكل قراءة لا تجاوز الكوفة إلى الحرمين والبصرة فاقرأ بغيرها". وقرأت فرقة: "بالقصطاس" بالصاد.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وكان مذهب مجاهد في هذا وفي ميزان القيامة، وكل ذلك، أنها استعارات للعدل، وقوله: "ميزان القيامة" مردود، وعقيدة أهل السنة أنه ميزان له عمود وكفتان. وسمعت أبي رضي الله عنه يقول: رأيت الواعظ أبا الفضل الجوهري في جامع عمرو بن العاص يعظ الناس في الوزن، فقال في جملة كلامه: إن هيئة اليد بالميزان عظة، وذلك أن الأصابع تجيء منها صورة المكتوبة: ألف ولا مان وهاء فكأن الميزان يقول: الله الله.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا وعظ جميل.

و "التأويل" في هذه الآية: المآل، قاله قتادة ، ويحتمل أن يكون "التأويل" مصدر تأول، أي: يتأول عليكم الخير في جميع أموركم إذا أحسنتم في الكيل والوزن.

[ ص: 478 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والغرض من الكيل والوزن تحري الحق، فإن غلب الإنسان بعد تحريه لشيء يسير من تطفيف شاذ، لم يقصده، فذلك نزر موضوع عنه إثمه، وذلك ما لا يكون الانفكاك عنه في وسع.

وقوله تعالى: ولا تقف معناه: ولا تقل ولا تتبع.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

لكنها لفظة تستعمل في القذف والعظة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نحن بنو النضر لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا"، وتقول: فلان قفوتي، أي: موضع تهمتي، وتقول: "رب سامع عذرتي ولم يسمع قفوتي" أي: ما رميت به، وهذا مثل للذي يفشي سره ويعتذر من ذنب لم يسمعه المعتذر إليه. وقد قال ابن عباس أيضا، ومجاهد : ولا تقف معناه: ولا ترم، ومن هذه اللفظة قول الشاعر:


ومثل الدمى شم العرانين ساكن ...     بهن الحياء لا يشعن التقافيا



[ ص: 479 ] وقال الكميت:


ولا أرمي البريء بغير ذنب ...     ولا أقفو الحواضن إن قفينا



وأصل هذه اللفظة من اتباع الأثر، تقول: قفوت الأثر، ويشبه أن هذا من "القفا"، ومنه قافية الشعر لأنها تقفو البيت، وتقول: "قفت الأثر"، ومن هذا: هو القائف، وتقول: "فقت الأثر" بتقديم الفاء على القاف، ويشبه أن يكون هذا من تلعب العرب في بعض الألفاظ، كما قالوا: "رعملي" في "لعمري"، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: قفا وقاف، مثل عتا وعات، فمعنى الآية: ولا تتبع لسانك من القول ما لا علم لك به، وذهب منذر بن سعيد إلى أن قفا وقاف مثل جذب وجبذ، فهذه الآية بالجملة تنهى عن قول الزور والقذف وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة الرديئة.

وقرأ الجمهور: "ولا تقف"، وقرأ بعض الناس -فيما حكى الكسائي -: "ولا تقف" بضم القاف وسكون الفاء.

وقرأ الجراح: "والفواد" بفتح الفاء، وهي لغة، وأنكرها أبو حاتم وغيره، وعبر عن "السمع والبصر والفؤاد" بـ "أولئك" لأنها حواس لها إدراك، وجعلها في هذه الآية مسؤولة، فهي حالة من يعقل، فلذلك عبر عنها بـ "أولئك"، وقد قال سيبويه رحمه الله في قوله تعالى: رأيتهم لي ساجدين : إنه إنما قال: "رأيتهم" في نجوم لأنه لما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل عبر عنها بكناية من يعقل. وحكى الزجاج أن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل بالإدراك، وأنشد هو والطبري :

[ ص: 480 ]

ذم المنازل بعد منزلة اللوى ...     والعيش بعد أولئك الأيام



فأما حكاية أبي إسحاق عن اللغة فأمر يوقف عنده، وأما البيت فالرواية "الأقوام"، والضمير في "عنه" يعود على ما ليس للإنسان به علم، ويكون المعنى: أن الله تعالى يسأل سمع الإنسان وبصره وفؤاده عما قال مما لا علم له به، فيقع تكذيبه من جوارحه، وتلك غاية الخزي. ويحتمل أن يعود الضمير في "عنه" على "كل" التي هي للسمع والبصر والفؤاد، والمعنى: أن الله تعالى يسأل الإنسان عما حواه سمعه وبصره وفؤاده، فكأنه قال: كل هذه كان الإنسان عنه مسؤولا، أي عما حصل لهؤلاء من الإدراكات، ووقع منها من الخطايا، فالتقدير "عن أعمالها مسؤولا"، فهو على حذف مضاف.

التالي السابق


الخدمات العلمية