الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              حدثنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن مقسم ، وأبو بكر بن محمد بن أحمد بن هارون الوراق الأصبهاني ، قالا : ثنا أحمد بن عبد الله ابن صاحب أبي ضمرة ، ثنا هارون بن حميد الدهكي ، ثنا الفضل بن عنبسة ، عن رجل قد سماه أراه عبد الحميد بن سليمان ، عن الذيال بن عباد ، قال : كتب أبو حازم الأعرج إلى الزهري : عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن ، ورحمك من النار فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك منها ، أصبحت شيخا كبيرا قد أثقلتك نعم الله عليك ، بما أصح من بدنك وأطال من عمرك ، وعلمت حجج الله تعالى مما حملك من كتابه ، وفقهك فيه من دينه ، وفهمك من سنة نبيك صلى الله عليه وسلم . فرمى بك في كل نعمة أنعمها عليك ، وكل حجة يحتج بها عليك ، الغرض الأقصى ، ابتلى في ذلك شكرك ، وأبدى فيه فضله عليك ، وقد قال : ( لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) ، انظر أي رجل تكون إذا وقفت بين يدي الله عز وجل فسألك عن نعمه عليك كيف رعيتها ؟ وعن حججه عليك كيف قضيتها ، ولا تحسبن الله راضيا منك بالتغرير ، ولا قابلا منك التقصير ، هيهات ليس كذلك ، أخذ على العلماء في كتابه إذ قال تعالى : ( لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم ) الآية ، إنك تقول إنك جدل ، ماهر عالم قد جادلت الناس فجدلتهم ، وخاصمتهم فخصمتهم ، [ ص: 247 ] إدلالا منك بفهمك ، واقتدارا منك برأيك ، فأين تذهب عن قول الله عز وجل : ( ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة ) الآية ، اعلم أن أدنى ما ارتكبت ، وأعظم ما احتقبت ، أن آنست الظالم وسهلت له طريق الغي بدنوك ، حين أدنيت ، وإجابتك حين دعيت ، فما أخلقك أن تبوء بإثمك غدا مع الجرمة ، وأن تسأل عما أردت بإغضائك عن ظلم الظلمة ، أنك أخذت ما ليس لمن أعطاك ، ودنوت ممن لا يرد على أحد حقا ولا ترك باطلا حين أدناك ، وأجبت من أراد التدليس بدعائه إياك حين دعاك ، جعلوك قطا تدور رحى باطلهم عليك ، وجسرا يعبرون بك إلى بلائهم ، وسلما إلى ضلالتهم وداعيا إلى غيهم ، سالكا سبيلهم يدخلون بك الشك على العلماء ، ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم ، فلم تبلغ أخص وزرائهم ، ولا أقوى أعوانهم لهم ، إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم ، واختلاف الخاصة والعامة إليهم ، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك ، وما أقل ما أعطوك في كثير ما أخذوا منك ، فانظر لنفسك فإنه لا ينظر لها غيرك ، وحاسبها حساب رجل مسئول ، وانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيرا وكبيرا ، وانظر كيف إعظامك أمر من جعلك بدينه في الناس بخيلا ، وكيف صيانتك لكسوة من جعلك لكسوته ستيرا ، وكيف قربك وبعدك ممن أمرك أن تكون منه قريبا ، ما لك لا تنتبه من نعستك . وتستقيل من عثرتك ، فتقول : والله ما قمت لله مقاما واحدا أحيي له فيه دينا ، ولا أميت له فيه باطلا ، إنما شكرك لمن استحملك كتابه ، واستودعك علمه ، ما يؤمنك أن تكون من الذين قال الله تعالى : ( فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ) الآية ، إنك لست في دار مقام ، قد أوذنت بالرحيل ، ما بقاء المرء بعد أقرانه ، طوبى لمن كان مع الدنيا على وجل ، يا بؤس من يموت وتبقى ذنوبه من بعده ، إنك لم تؤمر بالنظر لوارثك على [ ص: 248 ] نفسك ، ليس أحد أهلا أن تردفه على ظهرك ، ذهبت اللذة ، وبقيت التبعة ، ما أشقى من سعد بكسبه غيره ، احذر فقد أتيت ، وتخلص فقد أدهيت ، إنك تعامل من لا يجهل ، والذي يحفظ عليك لا يغفل ، تجهز فقد دنا منك سفر ، وداو دينك فقد دخله سقم شديد ، ولا تحسبن أني أردت توبيخك أو تعييرك وتعنيفك ، ولكني أردت أن تنعش ما فات من رأيك ، وترد عليك ما عزب عنك من حلمك ، وذكرت قوله تعالى : ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) . أغفلت ذكر من مضى من أسنانك وأقرانك وبقيت بعدهم كقرن أعضب ، فانظر هل ابتلوا بمثل ما ابتليت به ؟ أو دخلوا في مثل ما دخلت فيه ؟ وهل تراه ادخر لك خيرا منعوه ؟ أو علمك شيئا جهلوه ؟ بل جهلت ما ابتليت به من حالك في صدور العامة ، وكلفهم بك أن صاروا يقتدون برأيك ويعملون بأمرك ، إن أحللت أحلوا ، وإن حرمت حرموا ، وليس ذلك عندك ، ولكنهم إكبابهم عليك ، ورغبتهم فيما في يديك ذهاب عملهم ، وغلبة الجهل عليك وعليهم ، وطلب حب الرياسة وطلب الدنيا منك ومنهم ، أما ترى ما أنت فيه من الجهل والغرة ، وما الناس فيه من البلاء والفتنة ؟ ابتليتهم بالشغل عن مكاسبهم ، وفتنتهم بما رأوا من أثر العلم عليك ، وتاقت أنفسهم إلى أن يحركوا بالعلم ما أدركت ، ويبلغوا منه مثل الذي بلغت ، فوقعوا بك في بحر لا يدرك قعره ، وفي بلاء لا يقدر قدره ، فالله لنا ولك ولهم المستعان .

              واعلم أن الجاه جاهان : جاه يجريه الله تعالى على يدي أوليائه لأوليائه ، الخامل ذكرهم ، الخافية شخوصهم ، ولقد جاء نعتهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا ، وإذا شهدوا لم يعرفوا ، قلوبهم مصابيح الهدى ، يخرجون من كل فتنة سوداء [ ص: 249 ] مظلمة . فهؤلاء أولياء الله الذين قال الله تعالى فيهم : ( أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ) . وجاه يجريه الله تعالى على يدي أعدائه لأوليائه ، ومقة يقذفها الله في قلوبهم لهم ، فيعظمهم الناس بتعظيم أولئك لهم ، ويرغب الناس فيما في أيديهم لرغبة أولئك فيه إليهم : ( أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ) . وما أخوفني أن تكون ممن ينظر لمن عاش مستورا عليه في دينه ، مقتورا عليه في رزقه ، معزولة عنه البلايا ، مصروفة عنه الفتن في عنفوان شبابه ، وظهور جلده ، وكمال شهوته ، فعني بذلك دهره ، حتى إذا كبر سنه ، ورق عظمه ، وضعفت قوته ، وانقطعت شهوته ولذته ، فتحت عليه الدنيا شر فتوح ، فلزمته تبعتها ، وعلقته فتنتها ، وأعشت عينيه زهرتها ، وصفت لغيره منفعتها ، فسبحان الله ما أبين هذا الغبن ، وأخسر هذا الأمر ، فهلا إذ عرضت لك فتنتها ذكرت أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه في كتابه إلى سعد حين خاف عليه مثل الذي وقعت فيه عند ما فتح الله على سعد : أما بعد فأعرض عن زهرة ما أنت فيه حتى تلقى الماضين الذين دفنوا في أسمالهم لاصقة بطونهم بظهورهم ، ليس بينهم وبين الله حجاب ، لم تفتنهم الدنيا ولم يفتتنوا بها ، رغبوا فطلبوا فما لبثوا أن لحقوا ، فإذا كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا في كبر سنك ، ورسوخ علمك ، وحضور أجلك ، فمن يلوم الحدث في سنه ، والجاهل في علمه ، المأفون في رأيه ، المدخول في عقله ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، على من المعول ؟ وعند من المستعتب ؟ نحتسب عند الله مصيبتنا ، ونشكو إليه بثنا ، وما نرى منك ، ونحمد الله الذي عافانا مما ابتلاك به ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية