الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 428 ] وقال رحمه الله فصل وأما " مسألة تحسين العقل وتقبيحه " : ففيها نزاع مشهور بين أهل السنة والجماعة من الطوائف الأربعة وغيرهم .

                فالحنفية وكثير من المالكية والشافعية والحنبلية يقولون بتحسين العقل وتقبيحه وهو قول الكرامية والمعتزلة وهو قول أكثر الطوائف من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس وغيرهم . وكثير من الشافعية والمالكية والحنبلية ينفون ذلك وهو قول الأشعرية ; لكن أهل السنة متفقون على إثبات القدر وأن الله على كل شيء قدير خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن . والمعتزلة وغيرهم من القدرية : يخالفون في هذا .

                فإنكار القدر بدعة منكرة وقد ظن بعض الناس أن من يقول : بتحسين العقل وتقبيحه ينفي القدر ويدخل مع المعتزلة في مسائل التعديل والتجويز وهذا غلط بل جمهور المسلمين لا يوافقون المعتزلة على ذلك . ولا يوافقون الأشعرية على نفي [ ص: 429 ] الحكم والأسباب ; بل جمهور طوائف المسلمين يثبتون القدر ويقولون : إن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها . ويقولون : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن .

                وأما الإقرار بتقدم علم الله وكتابه لأفعال العباد فهذا لم ينكره إلا الغلاة من القدرية وغيرهم ; وإلا فجمهور القدرية من المعتزلة وغيرهم يقرون بأن الله علم ما العباد فاعلون قبل أن يفعلوه ويصدقون بما أخبر به الصادق المصدوق من أن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم .

                كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء } وفي صحيح البخاري وغيره عن عمران بن حصين " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض } وفي لفظ { ثم خلق السموات والأرض } .

                وفي الصحيحين عن { عبد الله بن مسعود قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق - إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث إليه الملك ; فيؤمر بأربع كلمات فيقال : اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار وإن الرجل ليعمل بعمل [ ص: 430 ] أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة }

                . والآثار مثل هذا كثيرة . فهذا يقر به أكثر القدرية وإنما ينكره غلاتهم كالذين ذكروا لعبد الله بن عمر في الحديث الذي رواه مسلم في أول صحيحه بحيث قيل له : " قبلنا أقوام يقرءون القرآن ويفتقرون العلم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف قال : فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم مني برآء " ولهذا كفر الأئمة : - كمالك والشافعي وأحمد - من قال : إن الله لم يعلم أفعال العباد حتى يعملوها بخلاف غيرهم من القدرية . والمقصود هنا : أن جماهير المسلمين يخالفون القدرية من المعتزلة وغيرهم وجماهير المسلمين أيضا يقرون بالأسباب التي جعلها الله أسبابا في خلقه وأمره ويقرون بحكمة الله - التي يريدها - في خلقه وأمره .

                ويقولون : كما قال الله في القرآن حيث قال : { وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها } وقال : { فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات } ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة . وجمهور المسلمين على ذلك يقولون : إن هذا فعل بهذا لا يقولون كما يقول نفاة الأسباب : فعل عندها لا بها وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع . [ ص: 431 ] والمقصود هنا : أن " مسألة التحسين والتقبيح " ليست ملازمة لمسألة القدر .

                وإذا عرف هذا فالناس في " مسألة التحسين والتقبيح " على ثلاثة أقوال : طرفان ووسط . ( الطرف الواحد : قول من يقول : بالحسن والقبح ويجعل ذلك صفات ذاتية للفعل لازمة له ولا يجعل الشرع إلا كاشفا عن تلك الصفات لا سببا لشيء من الصفات فهذا قول المعتزلة - وهو ضعيف - وإذا ضم إلى ذلك قياس الرب على خلقه فقيل : ما حسن من المخلوق حسن من الخالق وما قبح من المخلوق قبح من الخالق ترتب على ذلك أقوال القدرية الباطلة وما ذكروه في التجويز والتعديل وهم مشبهة الأفعال يشبهون الخالق بالمخلوق والمخلوق بالخالق في الأفعال وهذا قول باطل كما أن تمثيل الخالق بالمخلوق والمخلوق بالخالق في الصفات باطل .

                فاليهود وصفوا الله بالنقائص التي يتنزه عنها فشبهوه بالمخلوق : كما وصفوه بالفقر والبخل واللغوب . وهذا باطل ; فإن الرب تعالى منزه عن كل نقص وموصوف بالكمال الذي لا نقص فيه وهو منزه في صفات الكمال أن يماثل شيء من صفاته شيئا من صفات المخلوقين فليس له كفؤا أحد في شيء من صفاته لا في علمه ولا قدرته ولا إرادته ولا رضاه ولا غضبه ولا خلقه ولا استوائه ولا إتيانه ولا [ ص: 432 ] نزوله ولا غير ذلك مما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله .

                بل مذهب السلف أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه .

                وما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل . فلا ينفون عنه ما أثبته لنفسه من الصفات ولا يمثلون صفاته بصفات المخلوقين ; فالنافي معطل والمعطل يعبد عدما . والمشبه ممثل والممثل يعبد صنما . ومذهب السلف إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل . كما قال تعالى : { ليس كمثله شيء } وهذا رد على الممثلة . وقوله : { وهو السميع البصير } رد على المعطلة . وأفعال الله لا تمثل بأفعال المخلوقين فإن المخلوقين عبيده يظلمون ويأتون الفواحش وهو قادر على منعهم ولو لم يمنعهم ; لكان ذلك قبيحا منه وكان مذموما على ذلك .

                والرب تعالى لا يقبح ذلك منه لما له في ذلك من الحكمة البالغة والنعمة السابغة هذا على قول السلف والفقهاء والجمهور الذين يثبتون الحكمة في خلق الله وأمره . ومن قال إنه لا يخلق شيئا بحكمة ولا يأمر بشيء بحكمة ; فإنه لا يثبت إلا محض الإرادة التي ترجح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح كما هو أصل ابن كلاب ومن تابعه وهو أصل قولي القدرية والجهمية .

                وأما الطرف الآخر في " مسألة التحسين والتقبيح " فهو قول من يقول : [ ص: 433 ] إن الأفعال لم تشتمل على صفات هي أحكام ولا على صفات هي علل للأحكام بل القادر أمر بأحد المتماثلين دون الآخر لمحض الإرادة لا لحكمة ولا لرعاية مصلحة في الخلق والأمر .

                ويقولون : إنه يجوز أن يأمر الله بالشرك بالله وينهى عن عبادته وحده ويجوز أن يأمر بالظلم والفواحش وينهى عن البر والتقوى والأحكام التي توصف بها الأحكام مجرد نسبة وإضافة فقط وليس المعروف في نفسه معروفا عندهم ولا المنكر في نفسه منكرا عندهم . بل إذا قال : { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } فحقيقة ذلك عندهم أنه يأمرهم بما يأمرهم وينهاهم عما ينهاهم ويحل لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ما يحرم عليهم بل الأمر والنهي والتحليل والتحريم ليس في نفس الأمر عندهم لا معروف ولا منكر ولا طيب ولا خبيث إلا أن يعبر عن ذلك بما يلائم الطباع وذلك لا يقتضي عندهم كون الرب يحب المعروف ويبغض المنكر .

                فهذا القول ولوازمه هو أيضا قول ضعيف مخالف للكتاب والسنة ولإجماع السلف والفقهاء مع مخالفته أيضا للمعقول الصريح ; فإن الله نزه نفسه عن الفحشاء . فقال : { إن الله لا يأمر بالفحشاء } كما نزه نفسه عن التسوية بين الخير والشر فقال تعالى : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون } وقال : { أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون } وقال : { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } وعلى قول النفاة : لا فرق في التسوية بين هؤلاء وهؤلاء وبين تفضيل بعضهم على بعض ليس تنزيهه عن أحدهما بأولى من تنزيهه عن الآخر وهذا خلاف المنصوص والمعقول .

                وقد قال الله تعالى : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } وعندهم تعلق الإرسال بالرسول كتعلق الخطاب بالأفعال لا يستلزم ثبوت صفة لا قبل التعلق ولا بعده والفقهاء وجمهور المسلمين يقولون : الله حرم المحرمات فحرمت وأوجب الواجبات فوجبت فمعنا شيئان : إيجاب وتحريم وذلك كلام الله وخطابه والثاني وجوب وحرمة وذلك صفة للفعل . والله تعالى عليم حكيم علم بما تتضمنه الأحكام من المصالح فأمر ونهى لعلمه بما في الأمر والنهي والمأمور والمحظور من مصالح العباد ومفاسدهم وهو أثبت حكم الفعل وأما صفته فقد تكون ثابتة بدون الخطاب .

                وقد ثبت بالخطاب والحكمة الحاصلة من الشرائع ثلاثة أنواع ; ( أحدها : أن يكون الفعل مشتملا على مصلحة أو مفسدة ولو لم يرد الشرع بذلك كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم والظلم يشتمل [ ص: 435 ] على فسادهم فهذا النوع هو حسن وقبيح وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك لا أنه أثبت للفعل صفة لم تكن ; لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقبا في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك وهذا مما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح ; فإنهم قالوا ; إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة ولو لم يبعث إليهم رسولا وهذا خلاف النص قال تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } وقال تعالى : { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } وقال تعالى : { وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون } وقال تعالى : { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير } { قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير } { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير }

                . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين } والنصوص الدالة على أن الله لا يعذب إلا بعد الرسالة كثيرة ترد على من قال من أهل التحسين والتقبيح : إن الخلق يعذبون في الأرض بدون رسول أرسل إليهم . ( النوع الثاني : أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسنا وإذا نهى [ ص: 436 ] عن شيء صار قبيحا واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع .

                و ( النوع الثالث : أن يأمر الشارع بشيء ليمتحن العبد هل يطيعه أم يعصيه ولا يكون المراد فعل المأمور به كما أمر إبراهيم بذبح ابنه فلما أسلما وتله للجبين حصل المقصود ففداه بالذبح وكذلك { حديث أبرص وأقرع وأعمى لما بعث الله إليهم من سألهم الصدقة فلما أجاب الأعمى قال الملك : أمسك عليك مالك فإنما ابتليتم ; فرضي عنك وسخط على صاحبيك } .

                فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة ; وزعمت أن الحسن والقبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك بدون أمر الشارع والأشعرية ادعوا : أن جميع الشريعة من قسم الامتحان وأن الأفعال ليست لها صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع ; وأما الحكماء والجمهور فأثبتوا الأقسام الثلاثة وهو الصواب .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية