الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاءهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون

عطف على الجملة وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا والتقدير : ( جعلوا ) وزين لهم شركاؤهم قتل أولادهم ، فقتلوا أولادهم ، فهذه حكاية نوع من أنواع تشريعاتهم الباطلة ، وهي راجعة إلى تصرفهم في ذرياتهم بعد أن ذكر تصرفاتهم في نتائج أموالهم ، ولقد أعظم الله هذا التزيين العجيب في الفساد الذي حسن أقبح الأشياء ، وهو قتلهم أحب الناس إليهم وهم أبناؤهم ، فشبه بنفس التزيين للدلالة على أنه لو شاء أحد أن يمثله بشيء في الفظاعة والشناعة لم يسعه إلا أن يشبهه بنفسه ؛ لأنه لا يبلغ شيء مبلغ أن يكون أظهر منه في بابه ، فيلجأ إلى تشبيهه بنفسه ، على حد قولهم ( والسفاهة كاسمها ) والتقدير : وزين شركاء المشركين لكثير فيهم تزيينا مثل ذلك التزيين الذي زينوه لهم ، وهو هو نفسه ، وقد تقدم تفصيل ذلك عند قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا في سورة البقرة .

ومعنى التزيين التحسين ، وتقدم عند قوله تعالى : كذلك زينا لكل أمة عملهم في هذه السورة .

[ ص: 99 ] ومعنى تزيين ذلك هنا أنهم خيلوا لهم فوائد وقربا في هذا القتل ، بأن يلقوا إليهم مضرة الاستجداء والعار في النساء ، وأن النساء لا يرجى منهن نفع للقبيلة ، وأنهن يجبن الآباء عند لقاء العدو ، ويؤثرن أزواجهن على آبائهن ، فيأتونهم من المعاني التي تروج عندهم ، فإن العرب كانوا مفرطين في الغيرة ، والجموح من الغلب والعار كما قال النابغة


حذارا على أن لا تنال مقادتي ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا



وإنما قال : لكثير من المشركين لأن قتل الأولاد لم يكن يأتيه جميع القبائل ، وكان في ربيعة ومضر ، وهما جمهرة العرب . وليس كل الآباء من هاتين القبيلتين يفعله .

وأسند التزيين إلى الشركاء : إما لإرادة الشياطين الشركاء ، فالتزيين تزيين الشياطين بالوسوسة ، فيكون الإسناد حقيقة عقلية ، وإما لأن التزيين نشأ لهم عن إشاعة كبرائهم فيهم ، أو بشرع وضعه لهم من وضع عبادة الأصنام وفرض لها حقوقا في أموالهم مثل عمرو بن لحي ، فيكون إسناد التزيين إلى الشركاء مجازا عقليا لأن الأصنام سبب ذلك بواسطة أو بواسطتين ، وهذا كقوله تعالى : فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب .

والمعني بقتل الأولاد في هذه الآية ونحوها هو الوأد ، وهو دفن البنات الصغيرات أحياء فيمتن بغمة التراب ، كانوا يفعلون ذلك خشية الفقر ، كما قال تعالى : ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق وخشية أن تفتضح الأنثى بالحاجة إذا هلك أبوها ، أو مخافة السباء ، وذكر في الروض الأنف عن النقاش في تفسيره : أنهم كانوا يئدون من البنات من [ ص: 100 ] كانت زرقاء أو برشاء ، أو شيماء ، أو رسحاء ، تشاؤما بهن - وهذا من خور أوهامهم - وأن ذلك قوله تعالى : وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت وقيل : كانوا يفعلون ذلك من شدة الغيرة خشية أن يأتين ما يتعير منه أهلهن . وقد ذكر المبرد في الكامل ، عن أبي عبيدة : أن تميما منعت النعمان بن المنذر الإتاوة فوجه إليهم أخاه الريان بن المنذر فاستاق النعم وسبى الذراري ، فوفدت إليه بنو تميم فأنابوا وسألوه النساء فقال النعمان : كل امرأة اختارت أباها ردت إليه وإن اختارت صاحبها - أي : الذي صارت إليه بالسبي - تركت عليه فكلهن اختارت أباها إلا ابنة لقيس بن عاصم اختارت صاحبها عمرو بن المشمرج ، فنذر قيس أن لا تولد له ابنة إلا قتلها فهذا شيء يعتل به من وأدوا ، يقولون : فعلناه أنفة ، وقد أكذب الله ذلك في القرآن ؛ أي : بقوله : قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها .

وذكر البخاري ، أن أسماء بنت أبي بكر ، قالت : كان زيد بن عمرو بن نفيل يحيي الموءودة ، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته لا تقتلها أنا أكفيك مؤونتها ، فيأخذها فإذا ترعرعت قال لأبيها : إن شئت دفعتها إليك ، وإن شئت كفيتك مؤونتها . والمعروف أنهم كانوا يئدون البنت وقت ولادتها قبل أن تراها أمها ، قال تعالى : وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون .

وكان صعصعة بن معاوية من مجاشع ، وهو جد الفرزدق ، يفدي الموءودة ، يفعل مثل فعل زيد بن عمرو بن نفيل ، وقد افتخر الفرزدق بذلك في شعره في قوله :


ومنا الذي منع الوائدات     وأحيا الوئيد فلم توءد



وقد أدرك جده الإسلام فأسلم ، ولا يعرف في تاريخ العرب في الجاهلية قتل أولادهم غير هذا الوأد إلا ما ورد من نذر عبد المطلب الذي [ ص: 101 ] سنذكره ولا ندري هل كان مثل ذلك يقع في الجاهلية قبل عبد المطلب أو أنه هو الذي ابتكر ذلك ولم يتابع عليه ، ولا شك أن الوأد طريقة سنها أيمة الشرك لقومهم ، إذ لم يكونوا يصدرون إلا عن رأيهم ، فهي ضلالة ابتدعوها لقومهم بعلة التخلص من عوائق غزوهم أعداءهم ، ومن معرة الفاقة والسباء ، وربما كان سدنة الأصنام يحرضونهم على إنجاز أمر الموءودة إذا رأوا من بعضهم تثاقلا ، كما أشار إليه الكشاف إذ قال : والمعنى أن شركاءهم من الشياطين أو من سدنة الأصنام زينوا لهم قتل أولادهم بالوأد أو النحر ، وقال ابن عطية : والشركاء على هذه القراءة هم الذين يتناولون وأد بنات الغير فهم القاتلون .

وفي قصة عبد المطلب ما يشهد لذلك فإنه نذر إن رزقه الله عشرة أولاد ذكور ، ثم بلغوا معه أن يمنعوه من عدوه ، لينحرن أحدهم عند الكعبة ، فلما بلغ بنوه عشرة بهذا المبلغ دعاهم إلى الوفاء بنذره فأطاعوه واستقسم بالأزلام عند هبل - الصنم - وكان هبل في جوف الكعبة ، فخرج الزلم على ابنه عبد الله فأخذه ليذبحه بين إساف ونائلة فقالت له قريش : لا تذبحه حتى تعذر فيه ، فإن كان له فداء فديناه ، وأشاروا عليه باستفتاء عرافة بخيبر فركبوا إليها فسألوها وقصوا عليها الخبر فقالت : قربوا صاحبكم وقربوا عشرا من الإبل ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم ، وكذلك فعلوا فخرج القدح على عبد الله فلم يزل عبد المطلب يزيد عشرا من الإبل ويضرب عليها بالقداح ويخرج القدح على عبد الله حتى بلغت الإبل مائة فضرب عليها فخرج القدح على الإبل فنحرها .

ولعل سدنة الأصنام كانوا يخلطون أمر الموءودة بقصد التقرب إلى أصنام بعض القبائل كما كانت سنة موروثة في الكنعانيين من نبط الشام يقربون صبيانهم إلى الصنم ملوك ، فتكون إضافة القتل إلى الشركاء مستعملة في حقيقتها ومجازها .

[ ص: 102 ] وقرأ الجمهور : ( زين ) بفتح الزاي ونصب ( قتل ) على المفعولية لـ ( زين ) ورفع ( شركاؤهم ) على أنه فاعل ( زين ) وجر ( أولادهم ) بإضافة ( قتل ) إليه من إضافة المصدر إلى مفعوله .

وقرأه ابن عامر : " زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم " ببناء فعل " زين " للنائب ، ورفع " قتل " على أنه نائب فاعل ، ونصب " أولادهم " على أنه مفعول " قتل " ، وجر " شركائهم " على إضافة " قتل " إليه من إضافة المصدر إلى فاعله ، وكذلك رسمت كلمة " شركائهم " في المصحف العثماني الذي ببلاد الشام ، وذلك دليل على أن الذين رسموا تلك الكلمة راعوا قراءة " شركائهم " بالكسر ، وهم من أهل الفصاحة والتثبت في سند قراءات القرآن ، إذ كتب كلمة ( شركائهم ) بصورة الياء بعد الألف ، وذلك يدل على أن الهمزة مكسورة ، والمعنى ، على هذه القراءة : أن مزينا زين لكثير من المشركين أن يقتل شركاؤهم أولادهم ، فإسناد القتل إلى الشركاء على طريقة المجاز العقلي إما لأن الشركاء سبب القتل إذا كان القتل قربانا للأصنام ، وإما لأن الذين شرعوا لهم القتل هم القائمون بديانة الشرك مثل عمرو بن لحي ومن بعده ، وإذا كان المراد بالقتل الوأد ، فالشركاء سبب ، وإن كان الوأد قربانا للأصنام وإن لم يكن قربانا لهم وهو المعروف فالشركاء سبب السبب ؛ لأنه من شرائع الشرك .

وهذه القراءة ليس فيها ما يناكد فصاحة الكلام ؛ لأن الإعراب يبين معاني الكلمات وموقعها ، وإعرابها مختلف من رفع ونصب وجر بحيث لا لبس فيه ، وكلماتها ظاهر إعرابها عليها ، فلا يعد ترتيب كلماتها على هذا الوصف من التعقيد المخل بالفصاحة ، مثل التعقيد الذي في قول الفرزدق :


وما مثله في الناس إلا مملكا     أبو أمه حي أبوه يقـاربه



لأنه ضم إلى خلل ترتيب الكلام أنه خلل في أركان الجملة وما حف به من تعدد الضمائر المتشابهة وليس في الآية مما يخالف متعارف الاستعمال إلا الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ، والخطب فيه [ ص: 103 ] سهل ؛ لأن المفعول ليس أجنبيا عن المضاف والمضاف إليه ، وجاء الزمخشري في ذلك بالتهويل والضجيج والعويل ، كيف يفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول وزاد طنبور الإنكار نغمة ، فقال : والذي حمله على ذلك أنه رأى في بعض المصاحف : " شركائهم " مكتوبا بالياء ، وهذا جري على عادة الزمخشري في توهين القراءات المتواترة ، إذا خالفت ما دون عليه علم النحو ؛ لتوهمه أن القراءات اختيارات وأقيسة من القراء ، وإنما هي روايات صحيحة متواترة ، وفي الإعراب دلالة على المقصود لا تناكد الفصاحة .

ومدونات النحو ما قصد بها إلا ضبط قواعد العربية الغالبة ليجري عليها الناشئون في اللغة العربية ، وليست حاصرة لاستعمال فصحاء العرب ، والقراء حجة على النحاة دون العكس ، وقواعد النحو لا تمنع إلا قياس المولدين على ما ورد نادرا في الكلام الفصيح ، والندرة لا تنافي الفصاحة ، وهل يظن بمثل ابن عامر أنه يقرأ القرآن متابعة لصورة حروف التهجي في الكتابة ، ومثل هذا لا يروج على المبتدئين في علم العربية ، وهلا كان رسم المصحف على ذلك الشكل هاديا للزمخشري أن يتفطن إلى سبب ذلك الرسم ، أما ابن عطية فقال : هي قراءة ضعيفة في استعمال العرب يريد أن ذلك الفصل نادر ، وهذا لا يثبت ضعف القراءة ؛ لأن الندور لا ينافي الفصاحة .

وبعد ابن عطية هذه القراءة بعدم مناسبتها للتعليل بقوله : ليردوهم وتبعيد ابن عطية لها توهم ؛ إذ لا منافاة بين أن يزينوا لهم قتل أولادهم وبين التعليل ، فإن التعليل يستعمل في العاقبة مجازا مثل قوله تعالى : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ومن العجيب قول الطبري : والقراءة التي لا أستجيز غيرها بفتح الزاي ونصب " القتل " وخفض ( أولادهم ) ورفع ( شركاؤهم ) وذلك على عادته في نصب نفسه حكما في الترجيح بين القراءات .

[ ص: 104 ] واللام في ( ليردوهم ) لام العاقبة إن كان المراد بالشركاء الأصنام ، أي : زينوا لهم ذلك قصدا لنفعهم ، فانكشف عن أضرار جهلوها ، وإن كان المراد بالشركاء الجن ، أي : الشياطين ، فاللام للتعليل ؛ لأن الإيقاع في الشر من طبيعة الوسواس ؛ لأنه يستحسن الشر وينساق إليه انسياق العقرب للسع من غير قصد إلى كون ما يدعونهم إليه مرديا وملبسا ، فإنهم أولياؤهم لا يقصدون إضرارهم ، ولكنهم لما دعوهم إلى أشياء هي في نفس الأمر مضار كان تزيينهم معللا بالإرداء والإلباس ، وإن لم يفقهوه بخلاف من دعا لسبب فتبين خلافه ، والضمير للشركاء ، والتعليل للتزيين .

والإرداء : الإيقاع في الردى ، والردى : الموت ، ويستعمل في الضر الشديد مجازا أو استعارة وذلك المراد هنا .

ولبس عليه أوقعه في اللبس ، وهو الخلط والاشتباه ، وقد تقدم في قوله تعالى : ولا تلبسوا الحق بالباطل في سورة البقرة ، وفي قوله : وللبسنا عليهم ما يلبسون في هذه السورة ؛ أي : أن يخلطوا عليهم دينهم فيوهموهم الضلال رشدا وأنه مراد الله منهم ، فهم يتقربون إلى الله وإلى الأصنام لتقربهم إلى الله ، ولا يفرقون بين ما يرضاه الله وما لا يرضاه ، ويخيلون إليهم أن وأد البنات مصلحة ، ومن أقوالهم : ( دفن البناه من المكرماه ) ( البناه ، والمكرماه بالهاء ساكنة في آخرهما ) وأصلها تاء جمع المؤنث فغيرت لتخفيف المثل ، وهكذا شأن الشبه والأدلة الموهومة التي لا تستند إلى دليل ، فمعنى وليلبسوا عليهم دينهم أنهم يحدثون لهم دينا مختلطا من أصناف الباطل ، كما يقال : وسع الجبة ، أي اجعلها واسعة ، وقيل : المراد ليدخلوا عليهم اللبس في الدين الذي كانوا عليه ، وهو دين إسماعيل عليه السلام ؛ أي : الحنيفية ، فيجعلوا فيه أشياء من الباطل تختلط مع الحق .

والقول في معنى ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون كالقول في قوله آنفا : ولو شاء ربك ما فعلوه وضمير الرفع في [ ص: 105 ] ( فعلوه ) يعود إلى المشركين ؛ أي : لو شاء الله لعصمهم من تزيين شركائهم ، أو يعود إلى الشركاء ؛ أي : لو شاء الله لصدهم عن إغواء أتباعهم ، وضمير النصب يعود إلى القتل أو إلى التزيين على التوزيع ، على الوجهين في ضمير الرفع .

والمراد : بما يفترون ما يفترونه على الله بنسبة أنه أمرهم بما اقترفوه ، وكان افتراؤهم اتباعا لافتراء شركائهم ، فسماه افتراء ؛ لأنهم تقلدوه عن غير نظر ولا استدلال ، فكأنهم شاركوا الذين افتروه من الشياطين ، أو سدنة الأصنام ، وقادة دين الشرك ، وقد كانوا يموهون على الناس أن هذا مما أمر الله به كما دل عليه قوله في الآية بعد هذه : ( افتراء عليه ) وقوله في آخر السورة : قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم .

التالي السابق


الخدمات العلمية