الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              5179 [ ص: 424 ] 15 - باب: التسمية على الذبيحة، ومن ترك متعمدا

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: من نسي فلا بأس. وقال الله -عز وجل-: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق [الأنعام: 121] والناسي لا يسمى فاسقا، وقوله تعالى: وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم [الأنعام: 121].

                                                                                                                                                                                                                              5498 - حدثني موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة، عن سعيد بن مسروق، عن عباية بن رفاعة بن رافع، عن جده رافع بن خديج قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بذي الحليفة، فأصاب الناس جوع، فأصبنا إبلا وغنما -وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في أخريات الناس- فعجلوا فنصبوا القدور، فدفع إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر بالقدور فأكفئت، ثم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير، فند منها بعير، وكان في القوم خيل يسيرة فطلبوه فأعياهم، فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما ند عليكم فاصنعوا به هكذا". قال: وقال جدي: إنا لنرجو -أو نخاف- أن نلقى العدو غدا، وليس معنا مدى، أفنذبح بالقصب؟ فقال: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل، ليس السن والظفر، وسأخبركم عنه، أما السن عظم، وأما الظفر فمدى الحبشة". [انظر: 2488 - مسلم: 1968 - فتح:9 \ 623].

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق حديث رافع بن خديج السالف في الشركة والجهاد ، وقد أخرجه مسلم ، والأربعة أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 425 ] وقد أسلفنا اختلاف العلماء في التسمية على الصيد وهو كاختلافهم في التسمية على الذبيحة سواء، وسلف أيضا الاحتجاج بالآية المذكورة، ووقع في كتاب ابن التين أنه حجة على الشافعي في قوله: لا تؤكل الذبيحة إذا نسي التسمية، والشافعي لم يقل هذا وإنما أباحهما عند الترك عمدا.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بذي الحليفة). قال الداودي: ذو الحليفة المذكورة هنا من أرض تهامة ليست التي بقرب المدينة. وكذا عرفها ياقوت بأنها موضع بين حاذة وذات عرق من تهامة، وليست بالمهل ، وذكر ابن بطال عن القابسي أنها المهل. فقال عنه: وكانوا في هذه الغنيمة بذي الحليفة قريبا من المدينة . وهو عجيب فاجتنبه .

                                                                                                                                                                                                                              قال أيضا عنه: ويمكن أن يكون أمره - عليه السلام - بإكفاء القدور من أجل أنهم استباحوا من الغنائم، كما كانوا يغزون فيما بعد عن بلاد الإسلام، وموضع الانقطاع عن مواضعهم فهم مضطرون إلى ما وجدوه في بلاد العدو، كما جاء في قصة خيبر أن قوما أخذوا جرابا فيه شحم فما عيب عليهم ولا طولبوا به ، وقد مضى من سنن المسلمين في الغنائم وأكلهم منها ما لا خلاف فيه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 426 ] قالوا: وكانوا في هذه الغنيمة بذي الحليفة -قريبا من المدينة- وقد أسلفنا هذا ووهناه وقال: ولم يكونوا مضطرين إلى أكل الغنيمة، فأراهم الشارع أن هذا ليس لهم فمنعهم مما فعلوه بغير إذنه، فكان في باب الخوف من الغلول وقد سلف هذا في الجهاد في باب: ما يكره من ذبح الإبل بزيادة، فراجعه.

                                                                                                                                                                                                                              قال: ولو قيل: إن معنى ذلك من قبل أنهم بادروا قبل القسم لكان داخلا في المعنى الذي ذكرناه، ولو قيل: إنما كان ذلك من قبل أن الغنيمة كانت إبلا وغنما كلها; لكان داخلا في المعنى كان وجهه أنهم فعلوا ما ليس لهم .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (فأمر بالقدور فأكفئت). هو بالهمز أي: قلبت. وزعم ابن الأعرابي أنها لغة والمشهور في اللغة: كفأت الإناء إذا قلبته وقيل: أكفأت: أملت.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (ثم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير). قال ابن بطال : ولم ينقل أحد أنه دخل في ذلك قرعة وما لم يدخله قرعة لا يضره اختلاف أجناسه في القسمة تساووا أو تفاضلوا إذا رضوا بذلك .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن التين : ومذهب مالك أن الغنم لا تجمع مع الإبل في القسم، فإن كان أراد أنه قسم بغير قرعة فيكون ذلك موافقا لمذهبه.

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى: (ند): شرد. يقال: ند نديدا وندادا إذا شرد وفر.

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى (فأهوى إليه رجل) أي: أومأ إليه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 427 ] وقوله: (فحبسه الله) أي: بذلك السهم ومنعه من النفار الذي كان به حتى أدرك فذكي. قال ابن بطال : وليس في الحديث ما يمنع من هذا المعنى إذ لم يقل فيه "فحبسه الله" فمات فبان أنه أدرك فذكي، وذكاته ترفع التنازع في أكله ويصير إلى الإجماع في أكله، وهو قولنا فيما غلبنا من المواشي الإنسية أنا نحبسها بما استطعنا، فما أدركنا منها لم تنفذ مقاتله فذكيناه أكلناه، وإذا أنفذنا مقاتله لم نحمله محمل الصيد إذ لم يأتنا في ذلك شيء بين نتبعه فنحن في صيد الوحش على ما إذا أذن الله ورسوله.

                                                                                                                                                                                                                              وفي ذكاة الإنسي على ما جاءنا به حكم الذكاة، وسيأتي اختلاف العلماء في هذه المسألة في بابها في سائر الحديث في الذبح بالسن والظفر في بابه إن شاء الله .

                                                                                                                                                                                                                              ولا يبعد أن يكون سلف أيضا. وما ذكره هو مذهب مالك لا يجوز فيها إلا أن تحبس بسهم كما جاء في الحديث: أوغر فيه أو طعن أو غير ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              ما لم ينفذ فيه المقاتل، ومذهبنا ومذهب أبي حنيفة أن ما ند من الإنسية يستباح بما يستباح به الصيد، ووافق ابن حبيب في البقر قال: لأن لها أصلا في التوحش.

                                                                                                                                                                                                                              وانفصل المالكية عن هذا الحديث بأنه إنما أثبته وحبسه ولم ينفذ مقاتله، وأبيح ذلك إصلاحا ليمسك على صاحبه.

                                                                                                                                                                                                                              ودليله أنه حكم ثبت لبهيمة الأنعام فلا يخرج عن التوحش كالذكاة وإخراجها في الضحايا والهدايا وألزم بعض الفقهاء ابن حبيب بسائر

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 428 ] الأنعام على قوله: يطعن الشاة والبعير في الجنب إذا لم يقدر على ذكاته.

                                                                                                                                                                                                                              فقال: وكذلك هذا إذا تعذرت ذكاته أيضا، يجوز أن يصنع به كالصيد في كل موضع.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("إن لهذه البهائم أوابد"). أي: توحشا يقال: أبدت البهيمة توحشت، والأوابد: التوحش.

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو عمرو الشيباني: قال النمري: الآبدة: التي تلزم الخلاء فلا تقرب أحدا ولا يقربها، وقال أبو عمرو: وقد أبدت الناقة تأبدا أبودا إذا انفردت وحدها وتفردت، وتأبد أي: تفرد. وقال مرة: هي آبدة إذا ذهبت في المرعى وليس لها راع فأبعدت شهرا أو شهرين.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو علي في "البارع" في باب وبد: قال ابن أبي طرفة: المستوبد المستوحش.

                                                                                                                                                                                                                              يقال: خلوت فاستوبدت، أي: استوحشت.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (ليس معنا مدى) هو: جمع مدية بضم الميم، وقد تكسر، وهي الشفرة ومعنى ("أنهر الدم"): أساله.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("ليس السن والظفر") أخذ به مالك مرة فيما حكاه ابن القصار، ومحمد، وبه قال الشافعي ، سواء كانا متصلين أو منفصلين.

                                                                                                                                                                                                                              وعنه رواية ثانية ذكرها ابن وهب: يجوز بهما منفصلين ولا يجوز متصلين.

                                                                                                                                                                                                                              وبه قال أبو حنيفة قال ابن القصار: وقد رأيت لبعض شيوخنا أنه مكروه بالسن، مباح بالعظم.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 429 ] قال: وعندي أنهما إذا كانا عريضين حتى يمكن قطع الحلقوم بهما في مرة واحدة صحت الذكاة بهما، وكذا سائر العظام كانت مما يؤكل لحمه أم لا.

                                                                                                                                                                                                                              وأجاب عن هذا الحديث بجوابين أحدهما: بحمله على الكراهة، والثاني: أن السن والضرس صغيران لا يصح قطع الأوداج بهما وهذا لا يصح; لأنه قال: ("ما أنهر الدم").

                                                                                                                                                                                                                              ثم استثنى ذلك فظاهره عدم الذكاة بهما، وإن كانا كبيرين ينهران والحاصل أربعة أقوال: الجواز، والمنع، والتفرق بين المتصل والمنفصل، وكراهة السن وإباحة العظم .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (ليس السن والظفر) استثناهما بليس.

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية أخرى، (إلا) بدل (ليس) وهي مثلها.

                                                                                                                                                                                                                              قال في "الصحاح" يضمر اسمها فيها وينصب خبرها . والتقدير: وليس مجزئا السن والظفر مأكولا. وضم السن في بعض الكتب كما ذكره ابن التين وقال: ليس سن بل هو منصوب.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية