الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                      صفحة جزء
                                                                      باب ما جاء في الشعر

                                                                      5009 حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا قال أبو علي بلغني عن أبي عبيد أنه قال وجهه أن يمتلئ قلبه حتى يشغله عن القرآن وذكر الله فإذا كان القرآن والعلم الغالب فليس جوف هذا عندنا ممتلئا من الشعر وإن من البيان لسحرا قال كأن المعنى أن يبلغ من بيانه أن يمدح الإنسان فيصدق فيه حتى يصرف القلوب إلى قوله ثم يذمه فيصدق فيه حتى يصرف القلوب إلى قوله الآخر فكأنه سحر السامعين بذلك [ ص: 285 ]

                                                                      التالي السابق


                                                                      [ ص: 285 ] " 6237 " باب ما جاء في الشعر ( لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا ) : نصبه على التمييز أي صديدا ودما وما يسمى نجاسة ( خير له من أن يمتلئ شعرا ) : قال الحافظ : ظاهره العموم في كل شعر لكنه مخصوص بما لا يكون مدحا حقا كمدح الله ورسوله وما اشتمل على الذكر والزهد وسائر المواعظ مما لا إفراط فيه . انتهى .

                                                                      قال المنذري : وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه ( قال أبو علي ) : هو اللؤلؤي صاحب أبي داود ( وجهه ) : أي وجه الحديث ومعناه ( فإذا كان القرآن والعلم ) : بالرفع اسم كان ( الغالب ) : بالنصب خبر كان ( وإن من البيان لسحرا قال كأن المعنى إلخ ) : قال المنذري : وقد اختلف العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم إن من البيان لسحرا فقيل أورده مورد الذم لتشبيهه بعمل السحر لغلبة القلوب وتزيينه القبيح وتقبيحه الحسن وإليه أشار الإمام مالك - رضي الله عنه - فإنه ذكر هذا الحديث في الموطأ في باب ما يكره من الكلام قيل إن معناه أن صاحبه يكسب به من الإثم ما يكسبه الساحر بعلمه .

                                                                      وقيل أورده مورد المدح أي أنه تمال به القلوب ويرضى به الساخط ويذل به الصعب ، ويشهد له أن من الشعر لحكمة ، وهذا لا ريب فيه أنه مدح ، وكذلك مصراعه الذي بإزائه ، وقال بعضهم في الامتلاء من الشعر أي الشعر الذي هجي به النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا القول غير مرضي ، فإن شطر البيت من ذلك يكون كفرا فإذا حمل على الامتلاء منه فقد رخص في القليل منه ، وهذا ليس بشيء والمختار ما تقدم . انتهى كلام المنذري .

                                                                      [ ص: 286 ] قال الميداني : إن من البيان لسحرا قاله النبي صلى الله عليه وسلم - حين وفد عليه عمرو بن الأهتم والزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن الأهتم عن الزبرقان فقال " عمرو مطاع في أذنيه شديد العارضة مانع لما وراء ظهره " ، فقال الزبرقان يا رسول الله إنه ليعلم مني أكثر من هذا ولكنه حسدني ، فقال " عمرو أما والله إنه لزمر المروة ضيق العطن أحمق الوالد لئيم الخال " ، والله يا رسول الله ما كذبت في الأولى ولقد صدقت في الأخرى ولكني رجل رضيت فقلت أحسن ما علمت ، وسخطت فقلت أقبح ما وجدت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من البيان لسحرا ، يعني أن بعض البيان يعمل عمل السحر . ومعنى السحر إظهار الباطل في صورة الحق .

                                                                      والبيان اجتماع الفصاحة والبلاغة وذكاء القلب مع اللسن وإنما شبه بالسحر لحدة عمله في سامعه وسرعة قبول القلب له يضرب في استحسان المنطق وإيراد الحجة البالغة . انتهى كلامه .

                                                                      وقال الإمام أبو هلال العسكري : أما النبي صلى الله عليه وسلم فذم البيان أم مدحه ، فقال بعض ذمه لأن السحر تمويه فقال إن من البيان ما يموه الباطل حتى يتشبه بالحق ، وقال بعض بل مدحه لأن البيان من الفهم والذكاء .

                                                                      قال أبو هلال : الصحيح أنه مدحه ، وتسميته إياه سحرا إنما هو على جهة التعجب منه لما ذم عمرو الزبرقان ومدحه في حالة واحدة وصدق في مدحه وذمه فيما ذكر عجب النبي صلى الله عليه وسلم كما يعجب من السحر ، فسماه سحرا من هذا الوجه . انتهى مختصرا .

                                                                      قال النووي : أن يكون الشعر غالبا عليه بحيث يشغله عن القرآن وغيره من العلوم الشرعية فهو مذموم ، فأما إذا كان القرآن والحديث وغيرهما من العلوم الشرعية وهو الغالب عليه فلا يضر حفظ اليسير مع هذا لأن جوفه ليس ممتلئا شعرا . انتهى ملخصا .

                                                                      وقال أبو عبيد البكري الأندلسي في شرح كتاب الأمثال للحافظ أبي عبيد القاسم بن سلام : الناس يتلقون هذا الحديث على أنه في مدح البيان وأدرجوا في كتبهم هذا التأويل ، وتلقاه العلماء على غير ذلك ، بوب مالك في الموطأ عليه باب ما يكره من الكلام فحمله على الذم ، وهذا هو [ ص: 287 ] الصحيح في تأويله ، لأن الله تعالى قد سمى السحر فسادا في قوله تعالى : ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين انتهى .

                                                                      قال السيوطي : وهو ظاهر صنيع أبي داود . قلت : فإن كان البيان في أمر باطل فهو كذلك وإلا فمدح لا محالة والله أعلم .




                                                                      الخدمات العلمية