الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              5189 [ ص: 453 ] 22 - باب: ذبائح أهل الكتاب وشحومها من أهل الحرب وغيرهم

                                                                                                                                                                                                                              وقوله تعالى: اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم [المائدة: 5]. وقال الزهري: لا بأس بذبيحة نصارى العرب، وإن سمعته يسمي لغير الله فلا تأكل، وإن لم تسمعه فقد أحله الله، وعلم كفرهم. ويذكر عن علي نحوه. وقال الحسن وإبراهيم: لا بأس بذبيحة الأقلف.

                                                                                                                                                                                                                              5508 - حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - قال: كنا محاصرين قصر خيبر، فرمى إنسان بجراب فيه شحم، فنزوت لآخذه، فالتفت فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاستحييت منه. وقال ابن عباس: طعامهم: ذبائحهم. [انظر: 3153، مسلم: 1772 - فتح:9 \ 636].

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق حديث عبد الله بن مغفل - رضي الله عنهما - قال: كنا محاصرين قصر خيبر، فرمى إنسان بجراب فيه شحم، فنزوت لآخذه، فالتفت فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاستحييت منه.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن عباس: طعامهم: ذبائحهم.

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              تعليق الزهري ذكره معمر بن راشد عنه، وهو في "الموطأ" مرفوعا قال: ومن يتولهم منكم فإنه منهم [المائدة: 51] ، وأجراهم مجرى نصارى العرب، وأثر علي يأتي عنه خلافه ، وأثر الحسن وإبراهيم

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 454 ] سلفا قريبا، وحديث ابن مغفل سلف في آخر الخمس سندا ومتنا سواء ، وقل ما يقع له ذلك أعني: أن يعيده بمتنه وسنده سواء من غير زيادة، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي أيضا ، ومن تفضل الرب جل جلاله إباحة الله لعباده المؤمنين ذبائح أهل الكتاب بالآية المذكورة، وقام الإجماع على أنه أريد بطعامهم في هذه الآية: ذبائحهم.

                                                                                                                                                                                                                              وقد نقله البخاري عن ابن عباس، قال الداودي: وهو قول عوام العلماء، وكان ابن عمر يكرهه ويقول: أي شرك أعظم من قولهم في عزير والمسيح؟! قال: ولعله شك أن تكون الآية منسوخة للبعير والنحر للشاء.

                                                                                                                                                                                                                              واختلفوا في شحومهم المحرمة عليهم، إذا ذكوها، فكرهها مالك، وقال ابن القاسم وأشهب: إنها حرام، وروي عن مالك أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              وأجاز أكلها الكوفيون والثوري والأوزاعي والليث وابن وهب وابن عبد الحكم والشافعي.

                                                                                                                                                                                                                              واعتل من حرمها: بأن الله تعالى إنما أباح لنا ما كان طعاما لهم من ذبائحهم، والشحم ليس بطعام لهم، فدليله أن ما ليس بطعام لهم فلا يحل لنا. وأيضا فإنهم لا يقصدونه بالذكاة، والذكاة تحتاج إلى قصد، بدليل أنها لا تصح من المجنون والمبرسم، فجرى مجرى الدم الذي في الشاة.

                                                                                                                                                                                                                              وحجة المجيز أن الشحوم محرمة عليهم لا علينا; لأن ذبائحهم حلال لنا، فما وقع تحت ذبحهم مما هو في شريعتنا وسكوت عنه

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 455 ] بالتحريم فهو حلال; بإطلاق الله لنا عليه، لا يقال: لما لم تعمل ذكاتهم في الدم فكذا الشحم; لأن الدم منصوص على تحريمه علينا وعلى كل أمة، والشحوم محرمة عليهم لا علينا، ألا ترى قوله تعالى: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما الآية [الأنعام: 145] وليس للشحوم فيها ذكر.

                                                                                                                                                                                                                              ومن حجة من لم يحرمها أن التذكية لا تقع على بعض الشاة دون بعض، ولما كانت الذكاة سائغة في جميعها دخل الشحم في التذكية; لأنها إذا ذكيت ذبح كلها، ثم إذا فصل الشحم فهو المحرم عليهم فكرهناه نحن بعد أن سبقت الذكاة فيه.

                                                                                                                                                                                                                              وحديث الباب حجة واضحة له; لأنه لو كان حراما لزجره عنه، وأعلمه تحريمه; للزوم البلاغ عليه، إذ كان الأغلب أن يهود خيبر لا يذبح لهم مسلم.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              معنى: (فنزوت لآخذه): وثبت.

                                                                                                                                                                                                                              قال صاحب "الأفعال": نزا نزوا (ونزاء، ونزوانا) وثب، ونزا على الشيء: ارتفع .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              سلف الاختلاف في ذبائح أهل الكتاب للأصنام قريبا في باب ما ذبح على النصب والأصنام، وذكر البخاري عن علي - رضي الله عنه - أنه أجاز ذبائح نصارى العرب إذا لم يسمعه يسمي بغير الله، وذكر الطبري عن علي في نصارى بني تغلب خلاف ما ذكره البخاري، روى ابن سيرين عن

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 456 ] عبيدة، عن علي: سألته عن ذبائح نصارى العرب فقال: لا تأكل ذبائحهم فإنهم لم يتمسكوا من دينهم إلا بشرب الخمر .

                                                                                                                                                                                                                              وهو قول ابن سيرين والنخعي، وقال مكحول: لا تأكلوا ذبائح بني تغلب، وكلوا ذبائح تنوخ وبهراء وسليح ، فنهى عن أكل ذبائحهم فيجب على مذهبه أن ينهى عن نكاح نسائهم، وقال آخرون: كل ذبائحهم، ونكاح نسائهم حلال، وروي ذلك عن ابن عباس وقرأ: ومن يتولهم منكم فإنه منهم [المائدة: 51]، وعن الشعبي والحسن وعطاء والحكم مثله.

                                                                                                                                                                                                                              قال الطبري: فإذا كان الاختلاف في أمر بني تغلب موجودا بين السلف، وكانت تغلب تدين بالنصرانية، ولا تدفع الأمة أن عمر أخذ منها الجزية بين ظهراني المهاجرين والأنصار من غير نكير، وكان أخذه ذلك يعني: أنهم أهل كتاب، لا يعني: أنهم مجوس، صح أنهم أهل كتاب وأن ذبائحهم ونساءهم حلال للمسلمين .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وأما ذبيحة الأقلف فقد سلف الكلام عليها قريبا، والأقلف الذي لم يختن، والقلفة: الغرلة.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قال الطبري: والذي عندي في معنى: وطعامكم حل لهم [المائدة: 5] وهم لا يؤمنون بالقرآن أن القصد بالتحليل لنا وإن كان القول لهم، كأنه

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 457 ] قال: أحل لكم طعامهم أن تأكلوه، وأحل لكم أن تطعموه طعامكم ولو لم يقل: وطعامكم حل لهم [المائدة:5] لم نعلم إن كان يجوز لنا أن نطعم الكفار طعاما.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: وقام الاتفاق على أن المراد بالآية ما ذكره دون ما أكله; لأنهم يأكلون الميتة ولحم الخنزير والدم ولا يحل لنا شيء من ذلك بالإجماع وما كان ربك نسيا.

                                                                                                                                                                                                                              وقد ورد عن عمر وعلي وابن مسعود وعائشة وأبي الدرداء وابن عباس وعبد الله بن يزيد والعرباض وأبي أمامة وعبادة بن الصامت وابن عمر، وجمهور التابعين كإبراهيم وجبير بن نفير وأبي مسلم الخولاني ومكحول ومجاهد والحسن ومحمد والشعبي، وسعيد، فيمن لا يحصى إباحة ذبيحة أهل الكتاب دون اشتراط ما يستحلونه.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن حزم: كل ما ذبحه يهودي أو نصراني أو مجوسي نساؤهم ورجالهم أو نحوه فهو حلال لنا وكذا شحومها، إذا ذكر اسم الله، ولو نحر يهودي بعيرا أو أرنبا حل أكله . قال: ولا يحل أكل ما ذكاه غير اليهودي والنصراني والمجوسي لا من ذكاة مرتد إلى دين كتابي أو غير كتابي، ولا من ذكاة من انتقل من دين كتابي إلى دين كتابي، ولا من حل في دين كتابي بعد [مبعث] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ومن ذبح وهو سكران أو في جنونه، إلا إذا أفاقا فتذكيتهما جائزة، وما ذبحه أو نحره من لم يبلغ لم يحل أكله حتى يبلغ، وأباحها النخعي والشعبي والحسن وعطاء ومجاهد وطاوس . قال: وكل حيوان بين

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 458 ] اثنين فصاعدا فذكاه أحدهما بغير إذن الآخر ميتة
                                                                                                                                                                                                                              لا يحل أكله- وهذا أسلفناه- ويضمن لشريكه مثل حصته، إلا أن يرى موتا أو تعظم مؤنته فيضيع، فله تذكيته حينئذ، ومن أمر وكيله أو [خادمه] بذبح ما شاءوا من حيوانه جاز ذلك، ولا يحل كسر قفا الذبيحة حتى تموت فإن فعل بعد تمام التذكية فقد عصى، ولم يحرم أكلها وكل ما غاب عنا مما ذكاه مسلم فاسق أو جاهل أو كتابي فحلال أكله . وقد ورد حديث ضعيف: "أعف الناس قتلة أهل الإيمان" .

                                                                                                                                                                                                                              فرع: واختلف في الظرف ونحوه مما حرموه ففي "المدونة": كان مالك يجوز أكله وبه قال أشهب، ثم كرهه. قاله ابن القاسم، ورأى ألا يؤكل.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية