الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فقد ثبت بالنصوص الصحيحة الصريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز الحلف بشيء من المخلوقات لا فرق في ذلك بين الملائكة والأنبياء والصالحين وغيرهم ولا فرق بين نبي ونبي . وهذا كما قد سوى الله تعالى بين جميع المخلوقات في ذم الشرك بها وإن كانت معظمة . قال تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } وقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا } { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } . قالت طائفة من السلف : كان أقوام يدعون المسيح والعزير والملائكة فقال تعالى : هؤلاء الذين تدعونهم عبادي يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي ويخافون عذابي كما تخافون عذابي ويتقربون إلي كما تتقربون إلي . وقد قال تعالى : { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } فبين أن الطاعة لله والرسول : فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله وبين أن الخشية والتقوى لله وحده ; فلم يأمر أن يخشى مخلوق ولا يتقى مخلوق . وقال تعالى : { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } وقال تعالى : { فإذا فرغت فانصب } { وإلى ربك فارغب } . فبين سبحانه وتعالى أنه كان ينبغي لهؤلاء أن يرضوا بما آتاهم الله ورسوله ويقولوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون فذكر [ ص: 293 ] الرضا بما آتاه الله ورسوله لأن الرسول هو الواسطة بيننا وبين الله في تبليغ أمره ونهيه وتحليله وتحريمه ووعده ووعيده .

                فالحلال ما حلله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله ; ولهذا قال تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } فليس لأحد أن يأخذ من الأموال إلا ما أحله الله ورسوله والأموال المشتركة له كمال الفيء والغنيمة والصدقات عليه أن يرضى بما آتاه الله ورسوله منها وهو مقدار حقه لا يطلب زيادة على ذلك . ثم قال تعالى : { وقالوا حسبنا الله } ولم يقل " ورسوله " فإن الحسب هو الكافي والله وحده كاف عباده المؤمنين كما قال تعالى : { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } أي هو وحده حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين . هذا هو القول الصواب الذي قاله جمهور السلف والخلف كما بين في موضع آخر . والمراد أن الله كاف للرسول ولمن اتبعه فكل من اتبع الرسول فالله كافيه وهاديه وناصره ورازقه ثم قال تعالى : { سيؤتينا الله من فضله ورسوله } فذكر الإيتاء لله ورسوله لكن وسطه بذكر الفضل فإن الفضل لله وحده بقوله : { سيؤتينا الله من فضله ورسوله } ثم قال تعالى : { إنا إلى الله راغبون } فجعل الرغبة إلى الله وحده دون الرسول وغيره من المخلوقات . فقد تبين أن الله سوى بين المخلوقات في هذه الأحكام لم يجعل لأحد من [ ص: 294 ] المخلوقين - سواء كان نبيا أو ملكا - أن يقسم به ولا يتوكل عليه ولا يرغب إليه ولا يخشى ولا يتقي . وقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } . فقد تهدد سبحانه من دعا شيئا من دون الله وبين أنهم لا ملك لهم مع الله ولا شركا في ملكه وأنه ليس له عون ولا ظهير من المخلوقين ; فقطع تعلق القلوب بالمخلوقات : رغبة ورهبة وعبادة واستعانة ولم يبق إلا الشفاعة وهي حق ; لكن قال الله تعالى { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } .

                وهكذا دلت الأحاديث الصحيحة في الشفاعة يوم القيامة { إذا أتى الناس آدم وأولي العزم نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم فيردهم كل واحد إلى الذي بعده إلى أن يأتوا المسيح فيقول لهم : اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . قال صلى الله عليه وسلم فيأتوني فأذهب إلى ربي فإذا رأيته خررت ساجدا وأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن فيقال لي : أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع - قال - فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة } وذكر تمام الخبر . فبين المسيح أن محمدا هو الشافع المشفع لأنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ; وبين محمد عبد الله ورسوله أفضل الخلق وأوجه الشفعاء [ ص: 295 ] وأكرمهم على الله تعالى أنه يأتي فيسجد ويحمد لا يبدأ بالشفاعة حتى يؤذن له فيقال له : ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع وذكر أن ربه يحد له حدا فيدخلهم الجنة . وهذا كله يبين أن الأمر كله لله هو الذي يكرم الشفيع بالإذن له في الشفاعة والشفيع لا يشفع إلا فيمن يأذن الله له ثم يحد للشفيع حدا فيدخلهم الجنة . فالأمر بمشيئته وقدرته واختياره . وأوجه الشفعاء وأفضلهم هو عنده الذي فضله على غيره واختاره واصطفاه بكمال عبوديته وطاعته وإنابته وموافقته لربه فيما يحبه ويرضاه .

                وإذا كان الإقسام بغير الله والرغبة إليه وخشيته وتقواه ونحو ذلك هي من الأحكام التي اشتركت المخلوقات فيها فليس لمخلوق أن يقسم به ولا يتقي ولا يتوكل عليه ; وإن كان أفضل المخلوقات ولا يستحق ذلك أحد من الملائكة والنبيين فضلا عن غيرهم من المشايخ والصالحين . فسؤال الله تعالى بالمخلوقات : إن كان بما أقسم به وعظمه من المخلوقات فيسوغ السؤال بذلك كله وإن لم يكن سائغا لم يجز أن يسأل بشيء من ذلك والتفريق في ذلك بين معظم ومعظم ; كتفريق من فرق [ فزعم أنه ] يجوز الحلف ببعض المخلوقات دون بعض وكما أن هذا فرق باطل فكذلك الآخر .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية