الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 521 ] قوله عز وجل:

وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا

قال حضرمي: الضمير في "كادوا" ليهود المدينة وناحيتها، كحيي بن أخطب وغيره، وذلك أنهم ذهبوا إلى المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء، وإنما أرض الأنبياء بالشام، ولكنك تخاف الروم، فإن كنت نبيا، فاخرج إليها فإن الله سيحميك كما حمى غيرك من الأنبياء، فنزلت الآية في ذلك، وأخبر الله تعالى أن رسوله لو خرج لم يلبثهم بعده إلا قليلا.

وحكى النقاش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بسبب قولهم، وعسكر بذي الحليفة، وأقام ينتظر أصحابه، فنزلت الآية عليه فرجع.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا ضعيف، لم يقع في سيرة ولا في كتاب يعتمد عليه، وذو الحليفة ليس في طريق الشام.

وقالت فرقة: الضمير في "كادوا" هو لقريش ، وحكى الزجاج أن استفزازهم هو ما كانوا أجمعوا عليه في دار الندوة من قتله، و"الأرض" -على هذا- عامة في الدنيا، كأنه قال: يخرجوك من الدنيا، وعلى سائر الأقوال هي أرض مخصوصة، إما مكة وإما المدينة، كما قال تعالى: أو ينفوا من الأرض ، وإما معناه: من الأرض التي بها تصرفهم وتمتعهم. وقال ابن عباس ، وقتادة : واستفزاز قريش هو ما كانوا ذهبوا إليه من إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، كما ذهبوا قبل إلى حصره في الشعب. ووقع استفزازهم هذا بعد نزول الآية، وضيقوا عليه حتى خرج واتبعوه إلى الغار وغير ذلك، ونفذ عليهم [ ص: 522 ] الوعيد في أن لم يلبثوا خلفه إلا قليلا يوم بدر . وقال مجاهد : ذهبت قريش إلى هذا ولكنه لم يقع منها; لأنه لما أراد الله استبقاء قريش وألا يستأصلها أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فخرج من الأرض بإذن الله تعالى لا بقهر قريش ، واستبقيت قريش يسلم منها ومن أعقابها من أسلم، قال: ولو أخرجته قريش لعذبوا، فذهب مجاهد رحمه الله إلى أن الضمير في "يلبثون" عام في جميعهم. وفي مصحف عبد الله بن مسعود: "وإذا لا يلبثوا" بحذف النون وإعمال "إذا"، وسائر القراء ألغوها وأثبتوا النون. وقرأ عطاء بن أبي رباح: "يلبثون" بضم الياء وشد الباء وفتح اللام ، وروي مثله عن يعقوب إلا أنه كسر الباء. وقرأ عطاء: "بعدك إلا قليلا"، وقرأ الجمهور: "خلفك"، وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، الكسائي، وحفص عن عاصم : "خلافك"، والمعنى واحد، ومنه قول الشاعر:


عقب الرذاذ خلافها فكأنما ... بسط الشواطب بينهن حصيرا



ومنه قوله تعالى: فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله ، على بعض تأويلاته، أي: بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه اللفظة قد لزم حذف المضاف; لأن التقدير في آياتنا: "خلاف خروجك"، وفي بيت الشاعر: "خلاف انبساط الشمس" أو نحوه.

قال أبو علي : أصابوا هذه الظروف تضاف إلى الأسماء الأعيان التي ليست أحداثا، فلم [ ص: 523 ] يستحبوا إضافتها إلى غير ما جرى عليه كلامهم، كما أنها لما جرت منصوبة في كلامهم تركوها على حالها إذا وقعت في غير موقع النصب، كقوله تعالى: وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك ، وقوله تعالى: يوم القيامة يفصل بينكم .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله.

وقوله تعالى: "سنة" نصب على المصدر، وقال الفراء: نصبه على حذف الخافض; لأن المعنى: "كسنة"، فحذف الكاف ونصب.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ويلزمه على هذا أن لا يقف على قوله: "قليلا".

ومعنى الآية الإخبار أن سنة الله تعالى في الأمم الخالية وعادته أنها إذا أخرجت نبيها من بين أظهرها نالها العذاب، واستأصلها الهلاك، فلم تلبث بعده إلا قليلا.

قوله تعالى: أقم الصلاة لدلوك الشمس الآية. هذه بإجماع من المفسرين إشارة إلى الصلوات المفروضة.

فقال ابن عمر، وابن عباس ، وأبو بردة، والحسن، والجمهور: "دلوك الشمس": زوالها، والإشارة إلى الظهر والعصر، و"غسق الليل" أشير به إلى المغرب والعشاء، و"قرآن الفجر" أريد به صلاة الصبح، فالآية -على هذا- تعم جميع الصلوات" وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر"، وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عنده وقد طعم وزالت الشمس، فقال: "اخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس".

[ ص: 524 ] وقال ابن مسعود ، وابن عباس ، وزيد بن أسلم : "دلوك الشمس": غروبها، والإشارة بذلك إلى المغرب. و"غسق الليل": اجتماع ظلمته، فالإشارة إلى العتمة، و"قرآن الفجر": صلاة الصبح، ولم تقع إشارة -على التأويل- إلى الظهر والعصر.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والقول الأول أصوب لعمومه الصلوات، وهما من جهة اللغة حسنان، وذلك أن "الدلوك" هو الميل في اللغة، فأول الدلوك هو الزوال، وآخره هو المغرب، ومن وقت الزوال إلى الغروب يسمى دلوكا، لأنها في حالة ميل، فذكر الله الصلوات التي في حالة الدلوك وعنده، فيدخل في ذلك الظهر والعصر والمغرب، ويصح أن تكون المغرب داخلة في "غسق الليل"، ومن الدلوك الذي هو الميل قول الأعرابي للحسن بن أبي الحسن: أيدالك الرجل امرأته؟ يريد: أيميل بها إلى المطل في دينها؟ فقال له الحسن : نعم، إذا كان ملحفا، أي: عديما، ومنه قول ذي الرمة:


مصابيح ليست باللواتي تقودها ...     نجوم ولا بالآفلات الدوالك



ومن ذلك قول الشاعر:


هذا مكان قدمي رباح ...     غدوة حتى دلكت براح



[ ص: 525 ] ويروى "براح" بكسر الباء، قال أبو عبيدة ، والأصمعي ، وأبو عمرو الشيباني: معناه: براحة الناظر يستكف بها أبدا لينظر كيف ميلها وما بقي لها، وهذا نحو قول الحجاج:


والشمس قد كادت تكون دنفا ...     أدفعها بالراح كي تزحلفا



وذكر الطبري عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "دلكت براح، يعني: براح مكانا". قال: فإن كان هذا من تفسير ابن مسعود فهو أعلم، وإن كان من كلام راو فأهل الغريب أعلم بذلك.

ويروى البيت الأول: "غدوة حتى هلكت براح" بفتح الباء، على وزن قطام وحزام، وهو اسم من أسماء الشمس.

و"غسق الليل": اجتماعه وتكاثف ظلمته، قال الشاعر:

[ ص: 526 ]

آب هذا الليل إذ غسقا



وقال ابن عباس رضي الله عنهما: غسق الليل: بدؤه.

ونصب قوله تعالى: وقرآن الفجر بفعل مضمر، تقديره: واقرأ قرآن، ويصح أن ينصب عطفا على "الصلاة"، أي: وأقم قرآن الفجر، وعبر عن صلاة الصبح خاصة بالقرآن لأن القرآن هو عظمها، إذ قراءتها طويلة مجهود بها. ويصح أن ينصب قوله: "قرآن" على الإغراء. وقوله: إن قرآن الفجر كان مشهودا معناه: يشهده حفظة النهار وحفظة الليل من الملائكة حسبما ورد في الحديث المشهور من قوله عليه السلام: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر" الحديث بطوله من رواية أبي هريرة وغيره. وعلى القول بذلك مضى الجمهور.

وذكر الطبري حديثا عن ابن عسكر، من طريق أبي الدرداء في قوله تعالى: كان مشهودا ، قال محمد بن سهل بن عسكر : (يشهده الله وملائكته)، وذكر في ذلك الحديث أن الله تبارك وتعالى ينزل في آخر الليل، ونحو هذا مما ليس بقوي.

[ ص: 527 ] وقوله تعالى: ومن الليل ، "من" للتبعيض، والتقدير: ووقتا من الليل، أي: وأقم وقتا من الليل، والضمير في "به" عائد على هذا المقدر، ويحتمل أن يعود على القرآن وإن كان لم يجر له ذكر مطلق، كما هو الضمير مطلق، لكن جرى مضافا إلى الفجر. و"تهجد" معناه: اطرح الهجود عنك، والهجود: النوم، يقال: هجد يهجد -بضم الجيم- هجودا إذا نام، ومنه قول الشاعر:


ألا طرقتنا والرفاق هجود ...     فباتت بعلات النوال تجود



ومنه قول الحطيئة:


فحياك ود ما هداك لفتية ...     وخوص بأعلى ذي طوالة هجد



وهذا الفعل جار مجرى: تحرب وتحرج وتأثم وتحنث، ومثله فظلتم تفكهون ، فمعناه: تندمون، أي تطرحون الفاكهة عن أنفسكم، وهي انبساط النفس وسرورها، يقال: رجل فكه إذا كان كثير السرور والضحك، فالمعنى: ووقتا من الليل اسهر به في صلاة وقراءة، وقال الأسود، وعلقمة ، وعبد الرحمن بن الأسود: التهجد بعد نومة، وقال الحجاج بن عمرو: إنما التهجد بعد رقدة، وقال الحسن : التهجد ما كان بعد العشاء الآخرة.

[ ص: 528 ] وقوله تعالى: نافلة لك ، قال ابن عباس وغيره: معناه: زيادة لك في الفرض، قالوا: وكان قيام الليل فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وتحتمل الآية أن يكون هذا على جهة الندب في التنفل، ويكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو وأمته، كخطابه في قوله تعالى: أقم الصلاة لدلوك الشمس . وقال مجاهد : إنما هي نافلة للنبي صلى الله عليه وسلم; لأنه مغفور له، والناس يحطون بمثل ذلك خطاياهم، وبين أن النبي صلى الله عليه وسلم منذ غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر عام الحديبية، فإنما كانت نوافله واستغفاره فضائل من العمل، وقربا أشرف من نوافل أمته; لأن هذه إما أن تجبر بها فرائضهم، وإما أن تحط بها خطيئاتهم، وقد يتصور من لا ذنب له ينتفل، فيكون تنفله فضلا، كنصراني يسلم وصبي يحتلم، وضعف الطبري قول مجاهد .

وقوله تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا عدة من الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، وهو أمر الشفاعة الذي يتدافعه الأنبياء حتى ينتهي إليه عليه الصلاة والسلام. والحديث بطوله في البخاري ومسلم فلذلك اختصرناه، ولأجل ذلك الاحتمال الذي له في مرضاة جميع العالم مؤمنهم وكافرهم قال: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر". و"عسى" من الله واجبة، و"مقاما" نصب على الظرف.

[ ص: 529 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ومن غريب حديث الشفاعة اقتضابه المعنى، وذلك أن صدر الحديث يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم يستنهض للشفاعة في أن يحاسب الناس، وينطلقون من الموقف، فيذهب لذلك، وينص بأثر ذلك على أنه شفع في إخراج المذنبين من النار، فمعناه الاقتضاب والاختصار; لأن الشفاعة في المذنبين لم تكن إلا بعد الحساب والزوال من الموقف ودخول قوم الجنة ودخول قوم النار، وهذه الشفاعة لا يتدافعها الأنبياء، بل يشفعون ويشفع العلماء، وذكر الطبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي".

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وينبغي أن يتأول هذا على ما قلناه: لأمته وغيرها، أو يقال: كل منهما مقام محمود. وقال النقاش : لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات: العامة، وشفاعة في السبق إلى الجنة، وشفاعة في أهل الكبائر.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والمشهور أنهما شفاعتان فقط. حكى الطبري عن فرقة منها مجاهد أنها قالت: المقام المحمود هو أن الله عز وجل يجلس محمدا عليه الصلاة والسلام - معه على عرشه، وروت في ذلك حديثا، وعضد الطبري جواز ذلك بشطط من القول، وهو لا يخرج إلا على تلطف في المعنى، وفيه بعد، ولا ينكر مع ذلك أن يروى، والعلم يتأوله. وقد ذكر النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال: من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم، ما زال أهل العلم يتحدثون بهذا.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

من أنكر جوازه على تأويله.

التالي السابق


الخدمات العلمية