الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب السعي إلى المسجد بالسكينة

                                                                                                                                            1044 - ( عن أبي قتادة قال { : بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبة رجال ، فلما صلى قال : ما شأنكم ؟ قالوا : استعجلنا إلى الصلاة ، قال : فلا تفعلوا ، إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا } متفق عليه ) .

                                                                                                                                            1045 - ( وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار ، ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا } رواه الجماعة إلا الترمذي .

                                                                                                                                            ولفظ النسائي وأحمد في رواية " فاقضوا " وفي رواية لمسلم { إذا ثوب بالصلاة فلا يسعى إليها أحدكم ، ولكن ليمش وعليه السكينة والوقار ، فصل ما أدركت ، واقض ما سبقك } ) .

                                                                                                                                            [ ص: 161 ]

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            [ ص: 161 ] قوله ( جلبة ) بجيم ولام موحدة ومفتوحات : أي أصواتهم حال حركتهم قوله : ( فعليكم السكينة ) ضبطه القرطبي بنصب السكينة على الإغراء ، وضبطه النووي بالرفع على أنها جملة في موضع الحال ، وفي رواية للبخاري : " وعليكم بالسكينة " وقد استشكل بعضهم دخول الباء ; لأنه متعد بنفسه كقوله تعالى { عليكم أنفسكم } قال الحافظ : وفيه نظر لثبوت زيادة الباء في الأحاديث الصحيحة كحديث : { عليكم برخصة الله ، فعليه بالصوم ، وعليك بالمرأة } قوله : ( فما أدركتم ) قال الكرماني : الفاء جواب شرط محذوف : أي إذا ثبت لكم ما هو أولى بكم فما أدركتم فصلوا .

                                                                                                                                            قال في الفتح : أو التقدير إذا فعلتم فما أدركتم فصلوا : أي فعلتم الذي آمركم به من السكينة وترك الإسراع . قوله : ( وما فاتكم فأتموا ) أي أكملوا . وقد اختلف في هذه اللفظة في حديث أبي قتادة ، فرواية الجمهور " فأتموا " ورواية معاوية بن هشام عن شيبان " فاقضوا " ، كذا ذكره ابن أبي شيبة عنه .

                                                                                                                                            ومثله روى أبو داود ، وكذلك وقع الخلاف في حديث أبي هريرة كما ذكر المصنف . قال الحافظ : والحاصل أن أكثر الروايات ورد بلفظ " فأتموا " وأقلها بلفظ " فاقضوا " ، وإنما يظهر فائدة ذلك إذا جعلنا بين التمام والقضاء مغايرة ، لكن إذا كان مخرج الحديث واحدا واختلف في لفظة منه وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد كان أولى ، وهذا كذلك ; لأن القضاء وإن كان يطلق على الفائتة غالبا لكنه يطلق على الأداء أيضا ، ويرد بمعنى الفراغ كقوله تعالى : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا } ويرد لمعان أخر ، فيحمل قوله هنا : " فاقضوا " على معنى الأداء ، والفراغ فلا يغاير قوله : " فأتموا " فلا حجة لمن تمسك برواية " فاقضوا " على أن ما أدركه مع الإمام هو آخر صلاته حتى يستحب له الجهر في الركعتين الآخرتين وقراءة السورة وترك القنوت بل هو أولها وإن كان آخر صلاة إمامه ، لأن الآخر لا يكون إلا عن شيء تقدمه .

                                                                                                                                            وأوضح دليل على ذلك أنه يجب عليه أن يتشهد في آخر صلاته على كل حال ، فلو كان ما يدركه مع الإمام آخرا له لما احتاج إلى إعادة التشهد . وقول ابن بطال : إنه ما تشهد إلا لأجل السلام ; لأن السلام يحتاج إلى سبق تشهد ليس بالجواب الناهض على دفع الإيراد المذكور . واستدل ابن المنذر لذلك أيضا أنهم أجمعوا على أن تكبيرة الافتتاح لا تكون إلا في الركعة الأولى ، وقد عمل بمقتضى اللفظين الجمهور فإنهم قالوا : إن ما أدرك مع الإمام هو أول صلاته إلا أنه يقضي مثل الذي فاته من قراءة السورة مع أم القرآن في الرباعية ، لكن لم يستحبوا له إعادة الجهر في الركعتين الباقيتين .

                                                                                                                                            وكان الحجة فيه قول علي عليه السلام : " ما أدركت مع الإمام فهو أول صلاتك ، واقض ما سبقك به من القرآن " أخرجه البيهقي . وعن إسحاق والمزني أنه لا يقرأ إلا أم القرآن فقط ، قال الحافظ : وهو القياس .

                                                                                                                                            قوله : ( إذا سمعتم الإقامة ) [ ص: 162 ] هو أخص من قوله في حديث أبي قتادة " إذا أتيتم الصلاة " لكن الظاهر أنه في مفهوم الموافقة ، وأيضا سامع الإقامة لا يحتاج إلى الإسراع ; لأنه يتحقق إدراك الصلاة كلها فينتهي عن الإسراع من باب الأولى . وقد لحظ بعضهم معنى غير هذا فقال : الحكمة في التقييد بالإقالة أن المسرع إذا أقيمت الصلاة يصل إليها فيقرأ في تلك الحال فلا يحصل تمام الخشوع في الترتيل وغيره ، بخلاف من جاء قبل ذلك فإن الصلاة قد لا تقام حتى يستريح .

                                                                                                                                            وفيه أنه لا يكره الإسراع لمن جاء قبل الإقامة .

                                                                                                                                            وهو مخالف لصريح قوله : " إذا أتيتم الصلاة " ; لأنه يتناول ما قبل الإقامة ، وإنما قيد الحديث الثاني بإقامة ; لأن ذلك هو الحامل في الغالب على الإسراع . قوله : ( والوقار ) قال عياض والقرطبي : هو بمعنى السكينة وذكر على سبيل التأكيد . وقال النووي : الظاهر أن بينهما فرقا وأن السكينة : التأني في الحركات واجتناب العبث . والوقار في الهيئة بغض البصر وخفض الصوت وعدم الالتفات .

                                                                                                                                            قوله : ( ولا تسرعوا ) فيه زيادة تأكيد فيستفاد منه الرد على من أول قوله في حديث أبي قتادة " فلا تفعلوا " بالاستعجال المفضي إلى عدم الوقار ، وأما الإسراع الذي لا ينافي الوقار لمن خاف فوت التكبيرة فلا ، كذا روي عن إسحاق بن راهويه . والحديثان يدلان على مشروعية المشي إلى الصلاة على سكينة ووقار وكراهية الإسراع والسعي .

                                                                                                                                            والحكمة في ذلك ما نبه عليه صلى الله عليه وسلم كما وقع عند مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ : { فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة } أي أنه في حكم المصلي فينبغي له اعتماد ما ينبغي للمصلي اعتماده واجتناب ما ينبغي للمصلي اجتنابه . وقد استدل بحديثي الباب أيضا على أن من أدرك الإمام راكعا لم تحسب له تلك الركعة للأمر بإتمام ما فاته ; لأنه فاته القيام والقراءة فيه . قال في الفتح : وهو قول أبي هريرة وجماعة ، بل حكاه البخاري في جزء القراءة خلف الإمام ، عن كل من ذهب إلى وجوب القراءة خلف الإمام ، واختاره ابن خزيمة والضبعي وغيرهما من الشافعية .

                                                                                                                                            وقواه الشيخ تقي الدين السبكي من المتأخرين . وقد قدمنا البحث عن هذا في باب ما جاء في قراءة المأموم وإنصاته إذا سمع إمامه . قال المصنف رحمه اللهبعد أن ساق الحديثين ما لفظه : وفيه حجة لمن قال : إن ما أدركه المسبوق آخر صلاته ، واحتج من قال بخلافه بلفظة الإتمام . انتهى . وقد عرفت الجمع بين الروايتين . .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية