الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في صلاة التسبيح

                                                                                                          481 حدثنا أحمد بن محمد بن موسى أخبرنا عبد الله بن المبارك أخبرنا عكرمة بن عمار حدثني إسحق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أن أم سليم غدت على النبي صلى الله عليه وسلم فقالت علمني كلمات أقولهن في صلاتي فقال كبري الله عشرا وسبحي الله عشرا واحمديه عشرا ثم سلي ما شئت يقول نعم نعم قال وفي الباب عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو والفضل بن عباس وأبي رافع قال أبو عيسى حديث أنس حديث حسن غريب وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم غير حديث في صلاة التسبيح ولا يصح منه كبير شيء وقد رأى ابن المبارك وغير واحد من أهل العلم صلاة التسبيح وذكروا الفضل فيه حدثنا أحمد بن عبدة حدثنا أبو وهب قال سألت عبد الله بن المبارك عن الصلاة التي يسبح فيها فقال يكبر ثم يقول سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ثم يقول خمس عشرة مرة سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ثم يتعوذ ويقرأ بسم الله الرحمن الرحيم وفاتحة الكتاب وسورة ثم يقول عشر مرات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ثم يركع فيقولها عشرا ثم يرفع رأسه من الركوع فيقولها عشرا ثم يسجد فيقولها عشرا ثم يرفع رأسه فيقولها عشرا ثم يسجد الثانية فيقولها عشرا يصلي أربع ركعات على هذا فذلك خمس وسبعون تسبيحة في كل ركعة يبدأ في كل ركعة بخمس عشرة تسبيحة ثم يقرأ ثم يسبح عشرا فإن صلى ليلا فأحب إلي أن يسلم في الركعتين وإن صلى نهارا فإن شاء سلم وإن شاء لم يسلم قال أبو وهب وأخبرني عبد العزيز بن أبي رزمة عن عبد الله أنه قال يبدأ في الركوع بسبحان ربي العظيم وفي السجود بسبحان ربي الأعلى ثلاثا ثم يسبح التسبيحات قال أحمد بن عبدة وحدثنا وهب بن زمعة قال أخبرني عبد العزيز وهو ابن أبي رزمة قال قلت لعبد الله بن المبارك إن سها فيها يسبح في سجدتي السهو عشرا عشرا قال لا إنما هي ثلاث مائة تسبيحة

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( كبري الله عشرا وسبحي الله عشرا واحمديه عشرا ) قال العراقي : إيراد هذا الحديث في باب صلاة التسبيح فيه نظر ، فإن المعروف أنه ورد في التسبيح عقب الصلوات لا في صلاة التسبيح ، وذلك مبين في عدة طرق منها في مسند أبي يعلى والدعاء للطبراني فقال : يا أم سليم ، إذا صليت المكتوبة فقولي سبحان الله عشرا إلى آخره ، انتهى كذا في قوت المغتذي . وقال أبو الطيب المدني : أجاب عنه بعض الفضلاء بأنه يمكن أن يقال علمها النبي صلى الله عليه وسلم أن تقول في الصلاة وأن [ ص: 487 ] تقول بعدها ، وهو الذي فهمه المصنف وبه يحصل التوفيق مع بقاء كل رواية على ظاهرها ، قال : ويؤيد أنه علمها صلى الله عليه وسلم أن تقولها في الصلوات ، قولها أقولهن في صلاتي لكن لم يذهب أحد من العلماء إلى هذه الطريقة في صلاة التسبيح ، فالظاهر أنه بحذف المضاف أي أقولهن في دبر صلاتي ، وإيراد المصنف هاهنا باعتبار مناسبة ما انتهى .

                                                                                                          قوله : ( وفي الباب عن ابن عباس ) أخرجه أبو داود وابن ماجه والبيهقي في الدعوات الكبير وابن خزيمة في صحيحه وابن حبان والحاكم ( وعبد الله بن عمرو ) بن العاص أخرجه أبو داود ( والفضل بن عباس ) أخرجه أبو نعيم في كتاب القربات من رواية موسى بن إسماعيل كذا في تخريج أحاديث الأذكار المسماة بنتائج الأفكار للحافظ بن حجر ( وأبي رافع ) أخرجه المؤلف وابن ماجه .

                                                                                                          قوله : ( وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم غير حديث في صلاة التسبيح ) قال الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار : وردت صلاة التسبيح من حديث عبد الله بن عباس وأخيه الفضل وأبيهما العباس وعبد الله بن عمرو وعلي بن أبي طالب وأخيه جعفر وابنه عبد الله بن جعفر وأم سلمة والأنصاري غير مسمى وقد قيل إنه جابر بن عبد الله ، ثم ذكر الحافظ تخريج أحاديث هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم .

                                                                                                          قوله : ( ولا يصح منه كبير شيء ) قال الحافظ المنذري في الترغيب بعد ذكر حديث عكرمة عن ابن عباس المذكور : وقد روي هذا الحديث من طرق كثيرة وعن جماعة من الصحابة ، وأمثلها حديث عكرمة هذا ، وقد صححه جماعة منهم : الحافظ أبو بكر الآجري وشيخنا أبو محمد عبد الرحيم المصري وشيخنا الحافظ أبو الحسن المقدسي ، وقال أبو بكر بن أبي داود سمعت أبي يقول : ليس في صلاة التسبيح حديث صحيح غير هذا . وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى لا يروى في هذا الحديث إسناد أحسن من هذا يعني إسناد حديث عكرمة عن ابن عباس ، انتهى كلام المنذري .

                                                                                                          وقال الحافظ في التلخيص : قال الدارقطني أصح شيء في فضائل سور القرآن قل هو الله أحد ، وأصح شيء في فضل الصلاة صلاة التسبيح ، وقال أبو جعفر العقيلي : ليس في صلاة التسبيح [ ص: 488 ] حديث يثبت . وقال أبو بكر بن العربي : ليس فيها حديث صحيح ولا حسن وبالغ ابن الجوزي فذكره في الموضوعات . وصنف أبو موسى المديني جزءا في تصحيحه فتباينا ، والحق أن طرقه كلها ضعيفة ، وإن كان حديث ابن عباس يقرب من شرط الحسن إلا أنه شاذ لشدة الفردية فيه وعدم المتابع والشاهد من وجه معتبر . ومخالفة هيئتها لهيئة باقي الصلوات وموسى بن عبد العزيز وإن كان صادقا صالحا فلا يحتمل منه هذا التفرد .

                                                                                                          وقد ضعفها ابن تيمية والمزي وتوقف الذهبي حكاه ابن الهادي في أحكامه عنهم . وقد اختلف كلام الشيخ محيي الدين فوهاها في شرح المهذب فقال : حديثها ضعيف وفي استحبابها عندي نظر ؛ لأن فيها تغييرا لهيئة الصلاة المعروفة فينبغي أن لا تفعل وليس حديثها بثابت : وقال في تهذيب الأسماء واللغات : قد جاء في صلاة التسبيح حديث حسن في كتاب الترمذي وغيره ، وذكره المحاملي وغيره من أصحابنا وهي سنة حسنة ، ومال في الأذكار أيضا إلى استحبابه ، انتهى ما في التلخيص .

                                                                                                          قلت : قد اختلف كلام الحافظ أيضا فضعفه في التلخيص كما عرفت آنفا ، ومال إلى تحسينه في الخصال المفكرة للذنوب المقدمة والمؤخرة . فقال : رجال إسناده لا بأس بهم ، عكرمة احتج به البخاري والحكم صدوق ، وموسى بن عبد العزيز قال فيه ابن معين لا أرى به بأسا . وقال النسائي نحو ذلك . قال ابن المديني : فهذا الإسناد من شرط الحسن فإن له شواهد تقويه .

                                                                                                          وقد أساء ابن الجوزي بذكره في الموضوعات وقوله إن موسى مجهول لم يصب فيه ؛ لأن من يوثقه ابن معين والنسائي فلا يضره أن يجهل حاله من جاء بعدهما ، وشاهده ما رواه الدارقطني من حديث العباس والترمذي وابن ماجه من حديث أبي رافع ، ورواه أبو داود من حديث ابن عمرو بإسناد لا بأس به ، ورواه الحاكم من طريق ابن عمرو وله طرق أخرى ، انتهى . وكذا مال إلى تحسينه في أمالي الأذكار .

                                                                                                          قوله : ( وقد روى ابن المبارك وغير واحد من أهل العلم صلاة التسبيح وذكروا الفضل فيه ) [ ص: 489 ] قال المنذري في الترغيب بعد ذكر حديث أبي رافع المذكور : رواه ابن ماجه والترمذي والدارقطني والبيهقي .

                                                                                                          وقال : كان عبد الله بن المبارك يفعلها وتداولها الصالحون بعضهم من بعض وفيه تقوية للحديث المرفوع ، انتهى .

                                                                                                          قوله : ( أخبرنا أبو وهب ) اسمه محمد بن مزاحم العامري مولاهم المروزي صدوق من كبار العاشرة مات سنة تسع ومائتين ( ثم يقول خمس عشرة مرة سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، ثم يتعوذ ويقرأ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وفاتحة الكتاب وسورة ) ليس في حديث أبي رافع ولا في حديث ابن عباس المذكورين ذكر التسبيح قبل القراءة كما عرفت ( ثم يقول عشر مرات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، ثم يركع ) وفي رواية أبي رافع المذكور : فإذا انقضت القراءة فقل : الله أكبر والحمد لله وسبحان الله خمس عشرة مرة ، وكذلك في حديث ابن عباس المذكور بذكر التسبيح خمس عشرة مرة في هذا الموضع كما عرفت ( ثم يسجد الثانية فيقولها عشرا يصلي أربع ركعات على هذا ) ليس في رواية ابن المبارك هذه ذكر التسبيح في جلسة الاستراحة ، وقد وقع ذلك في حديث أبي رافع وحديث ابن عباس المذكورين . وقد ذكر المنذري رواية عبد الله بن المبارك هذه في الترغيب نقلا عن هذا الكتاب أعني : جامع الترمذي ، ثم قال : وهذا الذي ذكره عن عبد الله بن المبارك من صفتها موافق لما في حديث ابن عباس وأبي رافع إلا أنه قال يسبح قبل القراءة خمس عشرة وبعدها عشرا ، ولم يذكر في جلسة الاستراحة تسبيحا ، وفي حديثهما أنه يسبح بعد القراءة خمس عشرة ولم يذكر قبلها تسبيحا ، ويسبح أيضا بعد الرفع في جلسة الاستراحة قبل أن يقوم عشرا .

                                                                                                          [ ص: 490 ] وروى البيهقي من حديث أبي جناب الكلبي عن أبي الجوزاء عن ابن عمر قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : ألا أحبوك ألا أعطيك ، فذكر الحديث بالصفة التي رواها الترمذي عن ابن المبارك قال : وهذا يوافق ما رويناه عن ابن المبارك ، ورواه قتيبة بن سعيد عن يحيى بن سليم عن عمران بن مسلم عن أبي الجوزاء قال : نزل علي عبد الله بن عمرو بن العاص فذكر الحديث وخالفه في رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر التسبيحات في ابتداء القراءة إنما ذكرها بعدها ، ثم ذكر جلسة الاستراحة كما ذكرها سائر الرواة ، انتهى .

                                                                                                          قال الحافظ المنذري : جمهور الرواة على الصفة المذكورة في حديث ابن عباس وأبي رافع ، والعمل بها أولى إذ لا يصح رفع غيرها ، انتهى كلام المنذري .

                                                                                                          قلت : الأمر كما قال المنذري ( وأخبرني عبد العزيز هو ابن أبي رزمة ) بكسر الراء المهملة وسكون الزاي المعجمة اليشكري مولاهم أبو محمد المروزي ثقة ( عن عبد الله ) هو ابن المبارك ( قال أحمد بن عبدة ) هو الضبي ( أخبرنا وهب بن زمعة ) التميمي أبو عبد الله المروزي ثقة من قدماء العاشرة ( قلت لعبد الله بن المبارك إن سها فيها ) أي في صلاة التسبيح ( أيسبح في سجدتي السهو عشرا عشرا قال لا إنما هي ثلاث مائة تسبيحة ) قال القاري في المرقاة : مفهومه أنه إن سها ونقص عددا من محل معين يأتي به في محل آخر تكملة للعدد المطلوب ، انتهى .

                                                                                                          فوائد فيما يتعلق بصلاة التسبيح : الأولى قد وقع اختلاف أهل العلم في أن حديث صلاة التسبيح هل هو صحيح أم حسن أم ضعيف أم موضوع ، والظاهر عندي أنه لا ينحط عن درجة الحسن . وأما قول الحافظ في التلخيص : والحق أن طرقه كلها ضعيفة ، وإن حديث ابن عباس يقرب من شرط الحسن إلا أنه شاذ لشدة الفردية فيه وعدم المتابع والشاهد من وجه [ ص: 491 ] معتبر ، فجوابه ظاهر من كلامه في الخصال المكفرة وأمالي الأذكار . وأما مخالفة هيئتها لهيئة باقي الصلوات فلا وجه لضعفه بعد ثبوته ، هذا ما عندي والله تعالى أعلم .

                                                                                                          الفائدة الثانية : قال بعض العلماء الحنفية في كتابه الآثار المرفوعة : اعلم أن أكثر أصحابنا الحنفية ، وكثير من المشايخ الصوفية قد ذكروا في كيفية صلاة التسبيح الكيفية التي حكاها الترمذي والحاكم ، عن عبد الله بن المبارك الخالية عن جلسة الاستراحة والمشتملة على التسبيحات قبل القراءة وبعد القراءة ، وذلك لعدم قولهم بجلسة الاستراحة في غيرها من الصلوات الراتبة . والشافعية والمحدثون أكثرهم اختاروا الكيفية المشتملة على جلسة الاستراحة . وقد علم مما أسلفنا أن الأصح ثبوتا هو هذه الكيفية . فليأخذ بها من يصليها حنفيا كان أو شافعيا ، انتهى .

                                                                                                          قلت : الأمر كما قال ، وقد قال الحافظ المنذري : إن جمهور الرواة على الصفة المذكورة في حديث ابن عباس وأبي رافع ، والعمل بها أولى إذ لا يصح رفع غيرها ، انتهى وقد تقدم قوله هذا .

                                                                                                          الفائدة الثالثة : الأولى أن يصلي صلاة التسبيح بعد زوال الشمس فقد روى أبو داود في سننه بعد رواية حديث عكرمة عن ابن عباس من حديث أبي الجواز : حدثني رجل كانت له صحبة يرون أنه عبد الله بن عمرو قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : ائتني غدا أحبوك وأثيبك وأعطيك حتى ظننت أنه يعطيني قال : إذا زال النهار فقم فصل أربع ركعات فذكر نحوه قال : ثم ترفع رأسك يعني من السجدة الثانية فاستو جالسا ولا تقم حتى تسبح عشرا وتكبر عشرا وتحمد عشرا وتهلل عشرا ، ثم تصنع ذلك في الأربع ركعات الحديث ، وسكت عنه أبو داود والمنذري : وقال السيوطي في اللآلئ : قال المنذري : رواة هذا الحديث ثقات .

                                                                                                          تنبيه : قال القاري في المرقاة : وينبغي للمتعبد أن يعمل بحديث ابن عباس تارة ويعمل بحديث ابن المبارك أخرى ، وأن يفعلها بعد الزوال قبل صلاة الظهر ، وأن يقرأ فيها تارة بالزلزلة والعاديات والفتح والإخلاص ، وتارة بـ ألهاكم والعصر والكافرون والإخلاص ، وأن يكون دعاؤه بعد التشهد قبل السلام ، ثم يسلم ويدعو لحاجته ، ففي كل شيء ذكرته وردت سنة ، انتهى .

                                                                                                          قلت : لم أقف على ما ورد في هذه الأمور من السنة إلا في فعل صلاة التسبيح بعد الزوال . والأولى عندي العمل بحديث ابن عباس وأبي رافع ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                          [ ص: 492 ]



                                                                                                          الخدمات العلمية