الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين

                                                                                                                                                                                                                                      أولئك إشارة إلى المذكورين من الأنبياء الثمانية عشر ، والمعطوفين عليهم عليهم السلام ، باعتبار اتصافهم بما ذكر من الهداية ، وغيرها من النعوت الجليلة الثابتة لهم ، وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة من الإيذان بعلو طبقتهم ، وبعد منزلتهم في الفضل والشرف ، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : الذين آتيناهم الكتاب ; أي : جنس الكتاب المتحقق في ضمن ; أي فرد كان من أفراد الكتب السماوية ، والمراد بإيتائه : التفهيم التام بما فيه من الحقائق ، والتمكين من الإحاطة بالجلائل والدقائق أعم من أن يكون ذلك بالإنزال ابتداء ، أو بالإيراث بقاء ، فإن المذكورين لم ينزل على كل واحد منهم كتاب معين .

                                                                                                                                                                                                                                      "الحكم" ; أي : الحكمة ، أو فصل الأمر على ما يقتضيه الحق والصواب .

                                                                                                                                                                                                                                      والنبوة ; أي : الرسالة .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن يكفر بها ; أي : بهذه الثلاثة ، أو بالنبوة الجامعة للباقين .

                                                                                                                                                                                                                                      هؤلاء ; أي : كفار قريش ، فإنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل عليه من القرآن ، كافرون بما يصدقه جميعا ، وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر .

                                                                                                                                                                                                                                      فقد وكلنا بها ; أي : أمرنا بمراعاتها ووفقنا للإيمان بها والقيام بحقوقها .

                                                                                                                                                                                                                                      قوما ليسوا بها بكافرين ; أي : في وقت من الأوقات ، بل مستمرون على الإيمان بها ، فإن الجملة الاسمية الإيجابية كما تفيد دوام الثبوت ، كذلك السلبية تفيد دوام النفي بمعونة المقام ، لا نفي الدوام كما حقق في مقامه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس ومجاهد رضي الله تعالى عنهما : هم الأنصار وأهل المدينة . وقيل : أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : كل مؤمن من بني آدم . وقيل : الفرس ; فإن [ ص: 160 ] كلا من هؤلاء الطوائف موفقون للإيمان بالأنبياء ، وبالكتب المنزلة إليهم ، عاملون بما فيها من أصول الشرائع ، وفروعها الباقية في شريعتنا ، وبه يتحقق الخروج عن عهدة التوكيل ، دون المنسوخة منها ، فإنها بانتساخها خارجة عن كونها من أحكامها ، وقد مر تحقيقه في تفسير سورة المائدة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : هم الأنبياء المذكورون ; فالمراد بالتوكيل : الأمر بما هو أعم من إجراء أحكامها ، كما هو شأنهم في حق كتابهم ، ومن اعتقاد حقيتها كما هو شأنهم في حق سائر الكتب التي من جملتها القرآن الكريم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : هم الملائكة ; فالتوكيل هو الأمر بإنزالها وحفظها واعتقاد حقيتها ، وأيا ما كان فتنكير قوما للتفخيم ، والباء الأولى صلة لكافرين ، قدمت عليه محافظة على الفواصل ، والثانية لتأكيد النفي ، وأما تقديم صلة وكلنا على مفعوله الصريح ، فلما ذكر آنفا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ، ولأن فيه نوع طول ربما يؤدي تقديمه إلى الإخلال بتجاوب النظم الكريم ، أو إلى الفصل بين الصفة والموصوف ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه المذكور ; أي : فإن يكفر بها هؤلاء فلا اعتداد به أصلا ، فقد وفقنا للإيمان بها قوما فخاما ليسوا بكافرين بها قطعا ، بل مستمرون على الإيمان بها والعمل بما فيها ، ففي إيمانهم بها مندوحة عن إيمان هؤلاء .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هذا تبين أن الوجه أن يكون المراد بالقوم : إحدى الطوائف المذكورة ; إذ بإيمانهم بالقرآن والعمل بأحكامه ، تتحقق الغنية عن إيمان الكفرة به والعمل بأحكامه ، وأما الأنبياء والملائكة عليهم السلام ، فإيمانهم به ليس من قبيل إيمان آحاد الأمة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية