الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 546 ] قوله عز وجل:

قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ومن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا

روي أن الملأ من قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم المقالات التي تقدم ذكرها، من عرض الملك عليه والغنى وغير ذلك، وقالوا له في آخر قولهم: فلتجئ معك طائفة من الملائكة تشهد لك بصدقك في نبوتك. قال المهدوي : روي أنهم قالوا له: فمن يشهد لك؟.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ومعنى أقوالهم إنما هو طلب شهادة دون أن يذكروها، ففي ذلك نزلت الآية، أي: الله يشهد بيني وبينكم، الذي له الخبر والبصر بجميعنا، صادقنا وكاذبنا. ثم رد الأمر إلى خلق الله واختراعه الهدى والضلال في قلوب البشر، أي: ليس بيدي من أمركم أكثر من التبليغ، وفي قوله تعالى: فلن تجد لهم أولياء من دونه وعيد.

ثم أخبر تعالى أنهم يحشرون على الوجوه عميا وبكما وصما، وهذا قد اختلف فيه، فقيل: هي استعارات، إما لأنهم من الحيرة والهم والذهول يشبهون أصحاب هذه الصفات، وإما من حيث لا يرون ما يسرهم، ولا يسمعون، ولا ينطقون بحجة. وقيل: هي حقيقة كلها، وذلك عند قيامهم من قبورهم، ثم يرد الله تعالى إليهم أبصارهم وسمعهم ونطقهم، فعند رد ذلك إليهم يرون النار، ويسمعون زفيرها، ويتكلمون بكل ما حكي عنهم في ذلك.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ويقال للمنصرف عن أمر خائفا مهموما: انصرف على وجهه، ويقال للبعير: كأنما يمشي على وجهه، ومن قال ذلك في الآية حقيقة قال: أقدرهم الله تعالى على النقلة على الوجوه، كما أقدرهم في الدنيا على النقلة على الأقدام، وفي هذا المعنى حديث، قيل: يا رسول الله، كيف يمشي الكافر على وجهه؟ قال: "أليس الذي أمشاه في الدنيا [ ص: 547 ] على رجلين قادرا أن يمشيه في الآخرة على وجهه"؟ قال قتادة : بلى وعزة ربنا.

وقوله تعالى: كلما خبت أي: كلما فرغت من إحراقهم، فيسكن اللهيب القائم عليهم قدر ما يعادون ثم يثور، فتلك زيادة السعير، قاله ابن عباس رضي الله عنهما.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

فالزيادة في حيزهم، وأما جهنم فعلى حالها من الشدة لا يصيبها فتور. و"خبت النار" معناه: سكن اللهب والجمر على حاله، و"خمدت" معناه: سكن الجمر وضعف، و"همدت" معناه: طفيت جملة، ومن هذه اللفظة قول الشاعر:


لمن النار قبيل الصبـ ... ـح عند البيت ما تخبو

    إذا ما أخمدت يلقى
.... عليها المندل الرطب؟



ومنه قول عدي بن زيد:


وسطه كاليراع أو سرج المجـ ...     ـدل حينا يخبو وحينا ينير



[ ص: 548 ] ومنه قول القطامي:


فيخبو ساعة ويهب ساعا



وقوله تعالى: ذلك جزاؤهم ، الآية إشارة إلى الوعيد المتقدم بجهنم. وقوله: "بآياتنا" يعم الدلائل والحجج التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويعم آيات القرآن الكريم وما تضمن من خبر وأمر ونهي. ثم عظم عليهم أمر إنكار البعث، وخصه بالذكر مع كونه في عموم الكفر بآيات القرآن الكريم، ووجه تخصيصه التعظيم له، والتنبيه على خطارة الكفر في إنكاره، وقد تقدم اختلاف القراء في الاستفهامين في غير هذا الموضع.

و "الرفات": بقية الشيء التي قد أصارها البلى إلى حال التراب، و "البعث": تحريك الشيء الساكن، وهذا الاستفهام منهم هو على جهة الإنكار والاستبعاد للمحال بزعمهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية