الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 407 ] وذكر الترمذي وغيره من حديث عبد الرحمن بن غزوان وهو ثقة : أخبرنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي بكر بن موسى ، عن أبيه ، قال : خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش ، فلما أشرفوا على الراهب حطوا عن رحالهم فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت . قال : فهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم الراهب حتى إذا جاء فأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : هذا سيد العالمين ، هذا يبعثه الله تعالى رحمة للعالمين ، فقال له أشياخ قريش : ما علمك ؟ فقال : إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدا ، ولا يسجدون إلا لنبي ، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة ، ثم رجع فصنع لهم طعاما ، فلما أتاهم به ، وكان هو في رعية الإبل ، قال : أرسلوا إليه ، فأقبل وعليه غمامة مظللة ، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء شجرة ، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه ، فقال : انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه . قال : فبينما هو قائم عليهم يناشدهم أن لا يذهبوا به إلى الروم فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه ، وإذا بسبعة من الروم قد أقبلوا فاستقبلهم ، وقال : ما جاء بكم ؟ قالوا : بلغنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر ، فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس ، وإنا قد أخبرنا خبره في طريقك هذا ، قال : أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه فهل يستطيع أحد من الناس منعه ؟ قالوا : لا ، قال : فبايعوه وأقيموا معه ، قال : أنشدكم الله أيكم وليه ؟ قالوا : أبو طالب ، فلم يزل يناشدهم حتى رده .

[ ص: 408 ] وقد روى محمد بن سعد هذه القصة مطولة ، قال ابن سعد : حدثنا محمد بن عمر بن واقد ، حدثنا محمد بن صالح ، وعبد الله بن جعفر الزبيري ، قال محمد بن عمرو : وحدثنا ابن أبي حبيبة ، عن داود بن الحصين ، قال لما خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرة الأولى وهو ابن اثنتي عشرة سنة ، فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام وبها راهب يقال له بحيرة في صومعة له ، وكان علماء النصارى يكونون في تلك الصومعة يتوارثونها عن كتاب يدرسونه ، فلما نزلوا على بحيرا وكانوا كثيرا ما يمرون به ولا يكلمهم حتى إذا كان ذلك العام ونزلوا منزلا قريبا من صومعته ، قد كانوا ينزلونه قبل ذلك كلما مروا ، فصنع لهم طعاما ثم دعاهم ، وإنما حمله على دعائهم أنه رآهم حين طلعوا وغمامة تظل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى نزلوا تحت الشجرة ، ثم نظر إلى تلك الغمامة أظلت تلك الشجرة فاخضلت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها ، فلما رأى بحيرة ذلك نزل من صومعته وأمر بذلك الطعام ، فأتي به وأرسل إليهم ، وقال : إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش ، وأنا أحب أن تحضروه كلكم ، ولا تخلفوا أحدا منكم كبيرا ولا صغيرا حرا ولا عبدا ، فإن هذا شيء تكرموني به ، فقال رجل : إن لك لشأنا يا بحيرة ، ما كنت تصنع هذا ، فما شأنك اليوم ؟ قال : إني أحب أن أكرمكم ، ولكم حق ، فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رحالهم تحت الشجرة . فلما نظر بحيرة إلى القوم فلم ير الصفة التي يعرفها ويجدها عنده ، وجعل ينظر فلا يرى الغمامة على أحد من القوم ويجدها على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال بحيرة : يا معشر قريش لا يتخلفن منكم أحد عن طعامي ، قالوا : ما تخلف أحد إلا غلام هو أحدث القوم سنا في رحالهم ، فقال : ادعوه ليحضر طعامي فما أقبح أن تحضروا ويتخلف رجل واحد مع أني أراه من أنفسكم ، فقال القوم : هو والله أوسطنا نسبا ، وهو ابن أخ هذا الرجل يعنون أبا طالب ، وهو من ولد عبد المطلب ، فقال الحارث بن عبد المطلب : والله إن كان بنا للؤم أن يتخلف ابن عبد المطلب من بيننا ، ثم [ ص: 409 ] قام إليه فاحتضنه وأقبل به حتى أجلسه على الطعام ، والغمامة تسير على رأسه ، وجعل بحيرا يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء في جسده ، قد كان يجدها عنده في صفته ، فلما تفرقوا عن الطعام قام إليه الراهب ، فقال : يا غلام ، أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تسألني باللات والعزى فوالله ما أبغضت شيئا بغضهما ، قال : فبالله إلا أخبرتني عما أسألك عنه ، قال : سلني عما بدا لك ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فيوافق ذلك ما عنده ، ثم جعل ينظر بين عينيه ، ثم كشف عن ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على الصفة التي عنده فقبل موضع الخاتم . وقالت قريش : إن لمحمد عند هذا الراهب لقدرا ، وجعل أبو طالب لما يرى من الراهب يخاف على ابن أخيه ، فقال الراهب لأبي طالب : ما هذا الغلام منك ؟ قال : هو ابني ، قال : ما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا ، قال : فابن أخي ، قال : فما فعل أبوه ؟ قال : هلك وأمه حبلى ، قال : فما فعلت أمه ؟ قال : توفيت قريبا ، قال : صدقت ، ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود ، فوالله لئن عرفوا منه ما أعرف لتبغنه عنتا ، وإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم نجده في كتابنا ، واعلم أني قد أديت إليك النصيحة ، فلما فرغوا من تجارتهم خرج به سريعا ، وكان رجال من يهود قد رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفوا صفته فأرادوا أن يغتالوه ، فذهبوا إلى بحيرا فذكروا له أمره فنهاهم أشد النهي ، وقال لهم : أتجدون صفته ؟ قالوا : نعم ، قال فما لكم إليه سبيل ، فصدقوه وتركوه ، ورجع أبو طالب فما خرج به سفرا بعد ذلك خوفا عليه .

وذكر الحاكم والبيهقي وغيرهما من حديث عبد الله بن إدريس ، عن شرحبيل بن مسلم ، عن أبي أمامة ، عن هشام بن العاص ، قال : ذهبت أنا ورجل من قريش إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام ، فخرجنا حتى قدمنا الغوطة غوطة دمشق ، فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني ، فدخلنا عليه فإذا هو على سرير له ، فأرسل إلينا برسول نكلمه ، فقلنا : [ ص: 410 ] لا والله لا نكلم رسولا إنما بعثنا إلى الملك ، فإن أذن لنا كلمناه ، وإلا لم نكلم الرسول ، فرجع إليه الرسول فأخبره بذلك ، قال : فأذن لنا ، فقال : تكلموا . فكلمه هشام بن العاص ودعاه إلى الإسلام وإذا عليه ثياب سواد ، فقال له هشام : ما هذه التي عليك ؟ فقال لبستها وحلفت أن لا أنزعها حتى أخرجكم من الشام ، قلنا : ومجلسك هذا فوالله لنأخذنه منك ، ولنأخذن منك الملك الأعظم ، أخبرنا بذلك نبينا ، فقال : لستم بهم ، بل هم قوم يصومون بالنهار ويفطرون بالليل فكيف صومكم ؟ فأخبرناه فملئ وجهه سوادا ، فقال : قوموا . وبعث رسولا إلى الملك فخرجنا حتى إذا كنا قريبا من المدينة ، قال لنا الذي معنا : إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك ، فإن شئتم حملناكم على براذين وبغال ، قلنا : والله لا ندخل إلا عليها ، فأرسلوا إلى الملك أنهم يأبون ، فدخلنا على رواحلنا متقلدين سيوفنا حتى انتهينا إلى غرفة له ، فأنخنا في أصلها وهو ينظر إلينا ، فقلنا : لا إله إلا الله والله أكبر . والله يعلم لقد انتفضت الغرفة حتى صارت كأنها عذق تصفقه الرياح . فأرسل إلينا : ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم ، وأرسل إلينا أن ادخلوا ، فدخلنا عليه وهو على فراش له وعنده بطارقته من الروم ، وكل شيء في مجلسه أحمر وما حوله أحمر ، وعليه ثياب من الحمرة ، فدنونا منه فضحك ، وقال : ما كان عليكم لو حييتموني بتحيتكم فيما بينكم ؟ وإذا رجل فصيح بالعربية كثير الكلام ، فقلنا : إن تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك ، وتحيتك التي تحيى بها لا تحل لنا أن نحييك بها ، فقال : كيف تحيتكم فيما بينكم ؟ قلنا : السلام عليكم . فقال : كيف تحيون ملككم ، قلنا : بها ، قال : فكيف يرد عليكم ؟ قلنا : بها ، قال : فما أعظم كلامكم ؟ قلنا : لا إله إلا الله والله أكبر . فلما تكلمنا بها - يعلم الله - لقد انتفضت الغرفة حتى رفع رأسه إليها ، قال : هذه الكلمة التي قلتموها حيث انتفضت الغرفة ، كلما قلتموها في بيوتكم تنتفض بيوتكم عليكم ؟ [ ص: 411 ] قلنا : لا ، ما رأيناها فعلت هذا قط إلا عندك ، قال : وددت أنكم كلما قلتموها ينتفض كل شيء عليكم وإني خرجت من نصف ملكي ، قلنا : لم ؟ قال : لأنه يكون أيسر لشأنها وأحذر أن لا تكون من أمر النبوة ، وأن لا تكون من حيل الناس ، ثم سألنا عما أراد فأخبرناه . فقال : كيف صلاتكم وصومكم ؟ فأخبرناه ، فقال : قوموا ، فقمنا ، فأمر لنا بمنزل حسن ونزل كثير ، فأقمنا ثلاثا ، فأرسل إلينا ليلا ، فدخلنا عليه ، فاستعاد قولنا فأعدناه ، ثم دعا بشيء كهيئة الربعة العظيمة مذهبة فيها بيوت صغار عليها أبواب ففتحها بيتا وقفلا فاستخرج حريرة سوداء نشرها ، فإذا فيها صورة حمراء ، فإذا فيها رجل ضخم العينين ، عظيم الأليتين لم أر مثل طول عنقه ، فإذا ليست له لحية ، وإذا له ظفيرتان أحسن ما خلق الله تعالى ، قال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال هذا آدم عليه السلام ، وإذا هو أكثر الناس شعرا ، ثم فتح بابا آخر واستخرج منه حريرة سوداء ، وإذا فيها صورة بيضاء وإذا له شعر قطط ، أحمر العينين ، ضخم الهامة ، حسن اللحية ، قال : هل تعرفون هذا : قلنا : لا ، قال : هذا نوح عليه السلام ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فيها رجل شديد البياض حسن العينين صلت الجبين طويل الخد ، أبيض اللحية كأنه يتبسم ، قال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا إبراهيم عليه السلام ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة ، وإذا والله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : أتعرفون من هذا ؟ قلنا : نعم ، محمد رسول الله ، وبكينا . قال : والله يعلم أنه قام قائما ثم جلس ، فقال : والله إنه لهو ؟ قلنا : نعم إنه لهو كأنما ننظر إليه ، فأمسك ساعة ينظر إليها ، ثم قال : أما إنه كان آخر البيوت ، ولكن عجلته لكم لأنظر [ ص: 412 ] ما عندكم ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فإذا فيها صورة أدماء سحماء ، وإذا رجل جعد قطط غائر العينين حديد النظر عابس متراكب الأسنان مقلص الشفة كأنه غضبان ، قال : هل تعرفون من هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا موسى بن عمران ، وإلى جنبه صورة تشبهه إلا أنه مدهان الرأس ، عريض الجبين ، في عينيه قبلة ، قال هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا هارون ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة رجل آدم سبط ربعة كأنه غضبان ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا لوط . ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة رجل أبيض يشرب بحمرة أقنى خفيف العارضين حسن الوجه ، فقال : هل تعرفون هذا قلنا لا ، قال : هذا إسحاق ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة تشبه إسحاق إلا أنه على شفته السفلى خال ، فقال : تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال هذا يعقوب ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فيها صورة رجل أبيض حسن الوجه ، أقنى الأنف ، حسن القامة ، يعلو وجهه نور ، يعرف في وجهه الخشوع ، يضرب إلى الحمرة ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا إسماعيل جد نبيكم ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء ، فيها صورة كأنها صورة آدم كأن وجهه الشمس ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا يوسف . ثم فتح بابا آخر فاستخرج حريرة بيضاء فيها صورة رجل أحمر ، حمش الساقين ، أخفش العينين ، ضخم البطن ، ربعة متقلدا سيفا ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا داود ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة [ ص: 413 ] بيضاء فيها صورة رجل ضخم الأليتين ، طويل الرجلين ، راكبا فرسا ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذاسليمان بن داود . ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فإذا فيها صورة بيضاء وإذا رجل شاب شديد سواد اللحية ، لين الشعر ، حسن الوجه ، حسن العينين ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا عيسى ابن مريم . قلنا : من أين لك هذه الصور ، لأنا نعلم أنها على ما صورت عليه الأنبياء ، لأنا رأينا صورة نبينا مثله ؟ قال : إن آدم سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده فأنزل عليه صورهم ، وكانوا في خزانة آدم عند مغرب الشمس فاستخرجها ذو القرنين فصارت إلى دانيال ، ثم قال : أما والله إن نفسي طالبت بالخروج من ملكي ، وإني كنت كاسرا بكم ملكه حتى أموت . ثم أجازنا وأحسن جائزتنا وسرحنا ، فلما أتينا أبا بكر الصديق رضي الله عنه فأخبرناه بما رأينا وما قال لنا وما أجازنا فبكى أبو بكر ، وقال : لو أراد الله به خيرا لفعل .

التالي السابق


الخدمات العلمية