الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 442 ] قوله عز وجل:

شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون

الشهر: مشتق من الاشتهار، لأنه مشتهر لا يتعذر علمه على أحد يريده. ورمضان علقه الاسم من مدة كان فيها في الرمض وشدة الحر. وكان اسمه قبل ذلك ناتقا، كما سمي ربيع من مدة الربيع، وجمادى من مدة الجمود. وكره مجاهد أن يقال: رمضان، دون أن يقال: شهر رمضان ، كما قال الله تعالى، وقال: لعل رمضان اسم من أسماء الله عز وجل، وقرأ جمهور الناس: "شهر" بالرفع، ووجهه خبر ابتداء، أي ذلكم شهر، وقيل: بدل من الصيام، وقيل: على الابتداء وخبره: الذي أنزل فيه القرآن ، وقيل: ابتداء وخبره: فمن شهد ، و الذي أنزل نعت له. فمن قال: إن الصيام في قوله: كتب عليكم الصيام هي ثلاثة أيام وعاشوراء، قال: هاهنا بالابتداء، ومن قال: إن الصيام هنالك هو رمضان وهو الأيام المعدودة; قال هنا بخبر الابتداء أو بالبدل من "الصيام". وقرأ مجاهد ، وشهر بن حوشب : "شهر" بالنصب، ورواها أبو عمارة ، عن حفص ، عن عاصم ، ورواها هارون عن أبي عمرو ، وهي على الإغراء، وقيل: نصب بـ "تصوموا وقيل: نصب على الظرف. وقرأت فرقة بإدغام الراء في [ ص: 443 ] الراء، وذلك لا تقتضيه الأصول لاجتماع الساكنين فيه.

واختلف في إنزال القرآن فيه، فقال الضحاك : أنزل في فرضه وتعظيمه والحض عليه، وقيل: بدئ بنزوله فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس فيما يؤثر: أنزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة ليلة أربع وعشرين من رمضان، ثم كان جبريل ينزله رسلا رسلا في الأوامر والنواهي والأسباب . وروى واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان، والتوراة لست مضين منه، والإنجيل لثلاث عشرة، والقرآن لأربع وعشرين .

وترك ابن كثير همزة القرآن مع التعريف والتنكير حيث وقع، وقد قيل: إن اشتقاقه على هذه القراءة من قرن، وذلك ضعيف.

و"هدى" في موضع نصب على الحال من "القرآن"، فالمراد أن القرآن بجملته من محكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ. هدى، ثم شرف بالذكر والتخصيص "البينات" منه، يعني الحلال والحرام والمواعظ والمحكم كله. فالألف واللام في "الهدى" للعهد، والمراد الأول، "الفرقان" المفرق بين الحق والباطل. و"شهد" بمعنى حضر، و"الشهر" نصب على الظرف، والتقدير من حضر المصر في الشهر، وقرأ الحسن ، [ ص: 444 ] وعيسى الثقفي ، والزهري ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو حيوة : "فليصمه:" بتحريك اللام، وكذلك قرؤوا لام الأمر في جميع القرآن على أصلها الذي هو الكسر. وقال علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وعبيدة السلماني : " من شهد " أي من حضر دخول الشهر ظن وكان مقيما في أوله فليكمل صيامه، سافر بعد ذلك أو أقام، وإنما يفطر في السفر من دخل عليه رمضان وهو في سفر. وقال جمهور الأمة: من شهد أول الشهر أو آخره فليصم ما دام مقيما. وقال أبو حنيفة وأصحابه: من شهد الشهر بشروط التكليف غير مجنون ولا مغمى عليه فليصمه، ومن دخل عليه رمضان وهو مجنون، وتمادى به طول الشهر، فلا قضاء عليه، لأنه لم يشهد الشهر بصفة يجب بها الصيام، ومن جن أول الشهر أو آخره فإنه يقضي أيام جنونه.

ونصب الشهر على هذا التأويل هو على المفعول الصريح بـ "شهد" وقوله تعالى: أو على سفر ، بمنزلة: أو مسافرا فلذلك عطف على اسم. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ، ويحيى بن وثاب ، وابن هرمز ، وعيسى بن عمر : "اليسر" و "العسر" بضم السين، [ ص: 445 ] والجمهور: بسكونه، وقال مجاهد ، والضحاك بن مزاحم : "اليسر": الفطر في السفر، و"العسر": الصيام في السفر، والوجه عموم اللفظ في جميع أمور الدين، وقد فسر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم: دين الله يسر .

وقوله تعالى: ولتكملوا العدة معناه: وليكمل من أفطر في سفره أو في مرضه عدة الأيام التي أفطر فيها، وقرأ أبو بكر ، عن عاصم ، وأبو عمرو في بعض ما روي عنه: "ولتكملوا" بتشديد الميم، وقد روي عنهما التخفيف كالجماعة، وهذه اللام متعلقة: إما بـ "يريد" فهي اللام الداخلة على المفعول، كالذي في قولك: ضربت لزيد، والمعنى: ويريد إكمال العدة، وهي مع الفعل مقدرة بأن، كأن الكلام: ويريد لأن تكملوا، هذا قول البصريين، ونحوه قول أبي صخر :


أريد لأنسى ذكرها فكأنما .....................



وإما بفعل مضمر بعد، تقديره: ولأن تكملوا العدة رخص لكم هذه الرخصة، وهذا قول بعض الكوفيين. ويحتمل أن تكون هذه اللام لام الأمر، والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام.

وقوله: ولتكبروا الله ، حض على التكبير في آخر رمضان، واختلف الناس في [ ص: 446 ] حده، فقال ابن عباس : يكبر المرء من رؤية الهلال إلى انقضاء الخطبة، ويمسك وقت خروج الإمام، ويكبر بتكبيره. وقال قوم: يكبر من رؤية الهلال إلى خروج الإمام إلى الصلاة. وقال سفيان : هو التكبير يوم الفطر. وقال مالك : هو من حين يخرج الرجل من منزله إلى أن يخرج الإمام.

ولفظه عند مالك وجماعة من العلماء: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. ثلاثا، ومن العلماء من يكبر ثم يهلل ويسبح أثناء التكبير، ومنهم من يقول: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، وقد قيل غير هذا، والجميع حسن واسع مع البدأة بالتكبير.

و"هداكم" وقيل: المراد لما ضل فيه النصارى من تبديل صيامهم. وتعميم الهدى جيد. ولعلكم تشكرون ترج في حق البشر، أي: على نعمة الله في الهدى.

وقوله تعالى: وإذا سألك عبادي عني الآية، قال الحسن بن أبي الحسن : سببها أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فنزلت . وقال عطاء : لما نزلت: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم قال قوم: في أي ساعة ندعو؟ فنزلت وإذا سألك عبادي عني وقال مجاهد : بل قالوا: إلى أين ندعو؟ فنزلت هذه الآية، وقال قتادة : بل قالوا: كيف ندعو؟ فنزلت وإذا سألك عبادي ، روي أن المشركين قالوا لما نزل: فإني قريب ، كيف يكون قريبا وبيننا وبينه -على قولك- سبع سماوات في غلظ سمك كل واحدة خمسمائة عام وفيما بين كل سماء مثل ذلك؟ فنزلت: أجيب دعوة الداع إذا دعان ، أي فإني قريب بالإجابة والقدرة. وقال قوم: المعنى أجيب إن شئت، وقال قوم: إن الله تعالى يجيب كل الدعاء، فإما أن تظهر [ ص: 447 ] الإجابة في الدنيا، وإما أن يكفر عنه، وإما أن يدخر له أجر في الآخرة، وهذا بحسب حديث الموطأ: ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث الحديث. وهذا إذا كان الدعاء على ما يجب دون اعتداء، فإن الاعتداء في الدعاء ممنوع، قال الله تعالى: ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين قال المفسرون: أي في الدعاء، والوصف بمجاب الدعوة وصف بحسن النظر، والبعد عن الاعتداء، والتوفيق من الله تعالى إلى الدعاء في مقدور. وانظر أن أفضل البشر المصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم قد دعا ألا يجعل بأس أمته بينهم الحديث فمنعها إذ كان القدر قد سبق بغير ذلك.

وقوله تعالى: فليستجيبوا لي قال أبو رجاء الخراساني : معناه: فليدعوا لي.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

المعنى: فليطلبوا أن أجيبهم، وهذا هو باب استفعل، أي طلب الشيء إلا ما شذ مثل استغنى الله.

[ ص: 448 ] وقال مجاهد ، وغيره: المعنى: فليستجيبوا لي، فيما دعوتهم إليه من الإيمان، أي بالطاعة والعمل. ويقال: أجاب واستجاب بمعنى، ومنه قول الشاعر:


وداع دعا يا من يجيب إلى الندى     فلم يستجبه عند ذاك مجيب



أي: لم يجبه.

وقوله تعالى: وليؤمنوا بي قال أبو رجاء : في أني أجيب دعاءهم، وقال غيره: بل ذلك دعاء إلى الإيمان بجملته.

وقرأ الجمهور: "يرشدون" بفتح الياء وضم الشين، وقرأ قوم بضم الياء وفتح الشين، وروي عن ابن أبي عبلة ، وأبي حيوة : فتح الياء وكسر الشين باختلاف عنهما، قرأ هذه القراءة والتي قبلها.

التالي السابق


الخدمات العلمية