الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      ( وقوله : فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا ، ولم يكن له كفوا أحد ، وقوله : فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ، ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ، وقوله : وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا ، يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، وقوله : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا ، [ ص: 163 ] وقوله : ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون ، فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ، قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون .

      التالي السابق


      ش قوله : ( فاعبده ) . . إلخ ؛ تضمنت هذه الآيات الكريمة جملة من صفات السلوب ، وهي نفي السمي والكفء والند والولد والشريك والولي من ذل وحاجة ؛ كما تضمنت بعض صفات الإثبات ؛ من : الملك ، والحمد ، والقدرة والكبرياء ، والتبارك .

      أما قوله : هل تعلم له سميا ؛ فقد قال شيخ الإسلام رحمه الله : ( قال أهل اللغة : هل تعلم له سميا ؛ أي : نظيرا استحق مثل اسمه ، ويقال : مساميا يساميه ، وهذا معنى ما يروى عن ابن عباس : هل تعلم له سميا ؛ مثلا أو شبيها ) .

      [ ص: 164 ] والاستفهام في الآية إنكاري ، معناه النفي ؛ أي : لا تعلم له سميا .

      وأما قوله : ولم يكن له كفوا أحد ؛ فالمراد بالكفء : المكافئ المساوي .

      فهذه الآية تنفي عنه سبحانه النظير والشبيه من كل وجه ؛ لأن ( أحد ) وقع نكرة في سياق النفي ، فيعم ، وقد تقدم الكلام على تفسير سورة الإخلاص كلها ، فليرجع إليها .

      وأما قوله : فلا تجعلوا لله أندادا . . إلخ .

      فالأنداد جمع ند ، ومعناه كما قيل : النظير المناوئ ، ويقال : ليس لله ند ولا ضد ، والمراد نفي ما يكافئه ويناوئه ، ونفي ما يضاده وينافيه .

      وجملة : ( وأنتم تعلمون ) وقعت حالا من الواو في ( تجعلوا ) ، والمعنى : إذا كنتم تعلمون أن الله هو وحده الذي خلقكم ورزقكم ، وأن هذه الآلهة التي جعلتموها له نظراء وأمثالا وساويتموها به في استحقاق العبادة لا تخلق شيئا ، بل هي مخلوقة ، ولا تملك لكم ضرا ولا نفعا ؛ فاتركوا عبادتها ، وأفردوه سبحانه بالعبادة والتعظيم .

      وأما قوله : ومن الناس من يتخذ . . إلخ ؛ فهو إخبار من الله عن المشركين بأنهم يحبون آلهتهم كحبهم لله عز وجل ؛ يعني : يجعلونها مساوية له في الحب والذين آمنوا أشد حبا لله من حب [ ص: 165 ] المشركين لآلهتهم ؛ لأنهم أخلصوا له الحب ، وأفردوه به ، أما حب المشركين لآلهتهم ؛ فهو موزع بينها ، ولا شك أن الحب إذا كان لجهة واحدة كان أمكن وأقوى .

      وقيل : المعنى : أنهم يحبون آلهتهم كحب المؤمنين لله ، والذين آمنوا أشد حبا لله من الكفار لأندادهم .

      وأما قوله تعالى : وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا . . الآية ؛ فقد تقدم الكلام في معنى الحمد ، وأنه الثناء باللسان على النعمة وغيرها ، وقلنا : إن إثبات الحمد له سبحانه متضمن لإثبات جميع الكمالات التي لا يستحق الحمد المطلق إلا من بلغ غايتها .

      ثم نفى سبحانه عن نفسه ما ينافي كمال الحمد من الولد والشريك والولي من الذل ؛ أي : من فقر وحاجة ، فهو سبحانه لا يوالي أحدا من خلقه من أجل ذلة وحاجة إليه .

      ثم أمر عبده ورسوله أن يكبره تكبيرا ؛ أي : يعظمه تعظيما وينزهه عن كل صفة نقص وصفه بها أعداؤه من المشركين .

      وأما قوله : ( يسبح لله ) . . إلخ ؛ فالتسبيح هو التنزيه والإبعاد عن السوء ؛ كما تقدم .

      ولا شك أن جميع الأشياء في السماوات وفي الأرض تسبح بحمد ربها ، وتشهد له بكمال العلم والقدرة والعزة والحكمة والتدبير والرحمة ؛ قال تعالى [ ص: 166 ] : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم .

      وقد اختلف في تسبيح الجمادات التي لا تنطق ؛ هل هو بلسان الحال أو بلسان المقال ؟ وعندي أن الثاني أرجح ؛ بدليل قوله تعالى : ولكن لا تفقهون تسبيحهم ؛ إذ لو كان المراد تسبيحها بلسان الحال ؛ لكان ذلك معلوما ، فلا يصح الاستدراك .

      وقد قال تعالى خبرا عن داود عليه السلام : إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب .

      وأما قوله تعالى : ( تبارك الذي ) . . إلخ ؛ فقد قلنا : إن معنى ( تبارك ) من البركة ؛ وهي دوام الخير وكثرته ، ولكن لا يلزم من تلك الزيادة سبق النقص ، فإن المراد تجدد الكمالات الاختيارية التابعة لمشيئته وقدرته ، فإنها تتجدد في ذاته على وفق حكمته ، فالخلو عنها قبل اقتضاء الحكمة لها لا يعتبر نقصا .

      وقد فسر بعضهم التبارك بالثبات وعدم التغير ، ومنه سميت البركة ؛ لثبوت مائها ، وهو بعيد .

      [ ص: 167 ] والمراد بـ ( الفرقان ) القرآن ، سمي بذلك لقوة تفرقته بين الحق والباطل والهدى والضلال .

      والتعبير بـ ( نزل ) بالتشديد ؛ لإفادة التدرج في النزول ، وأنه لم ينزل جملة واحدة .

      والمراد بـ ( عبده ) محمد صلى الله عليه وسلم ، والتعبير عنه بلقب العبودية للتشريف كما سبق .

      و ( العالمين ) ؛ جمع عالم ، وهو جمع لما يعقل ، واختلف في المراد به ، فقيل : الإنس . وقيل : الإنس والجن . وهو الصحيح ؛ فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل إلى الجن أيضا ، وأنه يجتمع بهم ، ويقرأ عليهم القرآن ، وأن منهم نفرا أسلم حين سمع القرآن وذهب ينذر قومه به ؛ كما قال تعالى : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين .

      والنذير والمنذر هو من يعلم بالشيء مع التخويف ، وضده البشير أو المبشر ، وهو من يخبرك بما يسرك .

      وقوله : ما اتخذ الله من ولد . . إلخ ؛ تضمنت هذه الآية الكريمة أيضا جملة من صفات التنزيه التي يراد بها نفي ما لا يليق بالله عز وجل عنه ، فقد نزه سبحانه نفسه فيها عن اتخاذ الولد وعن وجود إله خالق معه ، وعما وصفه به المفترون الكذابون ؛ كما نهى عن ضرب الأمثال له ، [ ص: 168 ] والإشراك به بلا حجة ولا برهان ، والقول عليه سبحانه بلا علم ولا دليل .

      فهذه الآية تضمنت إثبات توحيد الإلهية ، وإثبات توحيد الربوبية ، فإن الله بعدما أخبر عن نفسه بعدم وجود إله معه أوضح ذلك بالبرهان القاطع والحجة الباهرة ، فقال : ( إذا ) ؛ أي : إذ لو كان معه آلهة كما يقول هؤلاء المشركون ؛ لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض .

      وتوضيح هذا الدليل أن يقال : إذا تعددت الآلهة ؛ فلا بد أن يكون لكل منهم خلق وفعل ، ولا سبيل إلى التعاون فيما بينهم ؛ فإن الاختلاف بينهم ضروري ، كما أن التعاون بينهم في الخلق يقتضي عجز كل منهم عند الانفراد ، والعاجز لا يصلح إلها ، فلا بد أن يستقل كل منهم بخلقه وفعله ، وحينئذ فإما أن يكونوا متكافئين في القدرة ، لا يستطيع كل منهم أن يقهر الآخرين ويغلبهم ، فيذهب كل منهم بما خلق ، ويختص بملكه ؛ كما يفعل ملوك الدنيا من انفراد كل بمملكته إذا لم يجد سبيلا لقهر الآخرين ، وإما أن يكون أحدهم أقوى من الآخرين ، فيغلبهم ، ويقهرهم ، وينفرد دونهم بالخلق والتدبير ، فلا بد إذا مع تعدد الآلهة من أحد هذين الأمرين : إما ذهاب كل بما خلق ، أو علو بعضهم على بعض .

      وذهاب كل بما خلق غير واقع ؛ لأنه يقتضي التنافر والانفصال بين أجزاء العالم ، مع أن المشاهدة تثبت أن العالم كله كجسم واحد مترابط الأجزاء ، متسق الأنحاء ، فلا يمكن أن يكون إلا أثرا لإله واحد .

      وعلو بعضهم على بعض يقتضي أن يكون الإله هو العالي وحده .

      [ ص: 169 ] وأما قوله تعالى : فلا تضربوا لله الأمثال ؛ فهو نهي لهم أن يشبهوه بشيء من خلقه ؛ فإنه سبحانه له المثل الأعلى الذي لا يشركه فيه مخلوق .

      وقد قدمنا أنه لا يجوز أن يستعمل في حقه من الأقيسة ما يقتضي المماثلة أو المساواة بينه وبين غيره ؛ كقياس التمثيل وقياس الشمول .

      وإنما يستعمل في ذلك قياس الأولى الذي مضمونه أن كل كمال وجودي غير مستلزم للعدم ولا للنقص بوجه من الوجوه اتصف به المخلوق فالخالق أولى أن يتصف به ؛ لأنه هو الذي وهب المخلوق ذلك الكمال ، ولأنه لو لم يتصف بذلك الكمال مع إمكان أن يتصف به لكان في الممكنات من هو أكمل منه ، وهو محال ، وكذلك كل نقص يتنزه عنه المخلوق ، فالخالق أولى بالتنزه عنه .

      وأما قوله : قل إنما حرم . . إلخ ؛ فـ ( إنما ) أداة حصر تفيد اختصاص الأشياء المذكورة بالحرمة ، فيفهم أن من عداها من الطيبات فهو مباح لا حرج فيه ؛ كما أفادته الآية التي قبلها .

      و ( الفواحش ) جمع فاحشة ؛ وهي الفعلة المتناهية في القبح ، وخصها بعضهم بما تضمن شهوة ولذة من المعاصي ؛ كالزنا ، واللواط ، ونحوهما من الفواحش الظاهرة ، وكالكبر والعجب وحب الرياسة من الفواحش الباطنة .

      وأما ( والإثم ) ؛ فمنهم من فسره بمطلق المعصية ، فيكون المراد منه ما دون الفاحشة ، ومنهم من خصه بالخمر ؛ فإنها جماع الإثم .

      [ ص: 170 ] وأما والبغي بغير الحق ؛ فهو التسلط والاعتداء على الناس من غير أن يكون ذلك على جهة القصاص والمماثلة .

      وقوله : وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ، وحرم أن تعبدوا مع الله غيره ، وتتقربوا إليه بأي نوع من أنواع العبادات والقربات ؛ كالدعاء ، والنذر ، والذبح ، والخوف ، والرجاء ، ونحو ذلك مما يجب أن يخلص فيه العبد قلبه ويسلم وجهه لله ، وحرم أن تتخذوا من دونه سبحانه أولياء يشرعون لهم من الدين ما لم يأذن به الله في عباداتهم ومعاملاتهم ؛ كما فعل أهل الكتاب مع الأحبار والرهبان ؛ حيث اتخذوهم أربابا من دون الله في التشريع ، فأحلوا ما حرم الله ، وحرموا ما أحل الله ، فاتبعوهم في ذلك .

      وقوله : ما لم ينزل به سلطانا قيد لبيان الواقع ؛ فإن كل ما عبد أو اتبع أو أطيع من دون الله قد فعل به ذلك من غير سلطان .

      وأما القول على الله بلا علم ؛ فهو باب واسع جدا يدخل فيه كل خبر عن الله بلا دليل ولا حجة ؛ كنفي ما أثبته ، أو إثبات ما نفاه ، أو الإلحاد في آياته بالتحريف والتأويل .

      قال العلامة ابن القيم في كتابه ( إعلام الموقعين ) : ( وقد حرم الله القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء وجعله من أعظم المحرمات ؛ بل جعله في المرتبة العليا منها ؛ قال تعالى : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن . . الآية ، فرتب المحرمات أربع مراتب ، وبدأ بأسهلها ، وهو الفواحش ، وثنى بما هو أشد تحريما منه ، وهو الإثم والظلم ، [ ص: 171 ] ثم ثلث بما هو أعظم تحريما منهما ، وهو الشرك به سبحانه ، ثم ربع بما هو أعظم تحريما من ذلك كله ، وهو القول عليه بلا علم ، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه ) .




      الخدمات العلمية