الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الشواهد العقلية .

اعلم أن المطلوب من هذا الباب معرفة فضيلة العلم ونفاسته وما لم تفهم الفضيلة في نفسها ولم يتحقق المراد منها لم يمكن أن تعلم وجودها صفة للعلم أو لغيره من الخصال فلقد ضل عن الطريق من طمع أن يعرف أن زيدا حكيم أم لا ، وهو بعد لم يفهم معنى الحكمة وحقيقتها .

والفضيلة مأخوذة من الفضل وهي الزيادة فإذا تشارك شيئان في أمر واختص أحدهما بمزيد يقال : فضله وله الفضل عليه مهما كانت زيادته فيما هو كمال ذلك الشيء كما يقال : الفرس أفضل من الحمار بمعنى أنه يشاركه في قوة الحمل ويزيد عليه بقوة الكر والفر وشدة العدو وحسن الصورة فلو فرض حمار اختص بسلعة زائدة لم يقل : إنه أفضل لأن تلك زيادة في الجسم ، ونقصان في المعنى ، وليست من الكمال في شيء ، والحيوان مطلوب لمعناه وصفاته لا لجسمه فإذا فهمت هذا لم يخف عليك أن العلم فضيلة إن أخذته بالإضافة إلى سائر الأوصاف كما أن للفرس فضيلة إن أخذته بالإضافة إلى سائر الحيوانات ، بل شدة العدو فضيلة في الفرس وليست فضيلة على الإطلاق ، والعلم فضيلة في ذاته وعلى الإطلاق من غير إضافة فإنه وصف كمال الله سبحانه ، وبه شرف الملائكة والأنبياء بل الكيس من الخيل خير من البليد ، فهي فضيلة على الإطلاق من غير إضافة .

واعلم أن الشيء النفيس المرغوب فيه ينقسم إلى ما يطلب لغيره وإلى ما يطلب لذاته وإلى ما يطلب لغيره ولذاته جميعا فما يطلب لذاته أشرف وأفضل مما يطلب لغيره والمطلوب لغيره الدراهم والدنانير فإنهما حجران لا منفعة لهما ولولا أن الله سبحانه وتعالى يسر قضاء الحاجات بهما لكانا والحصباء بمثابة واحدة .

والذي يطلب لذاته فالسعادة في الآخرة ، ولذة النظر لوجه الله تعالى .

والذي يطلب لذاته ولغيره فكسلامة البدن فإن سلامة الرجل مثلا مطلوبة من حيث إنها سلامة للبدن عن الألم ومطلوبة ، للمشي بها ، والتوصل إلى المآرب والحاجات وبهذا الاعتبار إذا نظرت إلى العلم رأيته لذيذا في نفسه ، فيكون مطلوبا لذاته ووجدته وسيلة إلى دار الآخرة وسعادتها وذريعة إلى القرب من الله تعالى ولا يتوصل إليه إلا به وأعظم الأشياء رتبة في حق الآدمي السعادة الأبدية وأفضل الأشياء ما هو وسيلة إليها ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل

التالي السابق


(الشواهد العقلية) :

لما فرغ من بيان الشواهد النقلية في فضيلة العلم والتعلم والتعليم شرع في بيان الشواهد العقلية، والشاهد هو المعلوم المستدل به قبل العلم بالمستدل عليه، سواء علم ضرورة أو استدلالا، والمراد بالشواهد هنا الجزئيات التي يؤتى بها لإثبات القواعد .

(اعلم أن المطلوب من سياق هذا الباب معرفة فضيلة العلم ونفاسته) أي: خطره وعزة قدره (وما لم تفهم الفضيلة بنفسها ولم يتحقق المراد منها لم يمكن أن يعلم وجودها صفة للعلم أو لغيره من الخصال) فلا بد من معرفتها باشتقاقها وحدودها أولا .

(ولقد ضل عن الطريق) أي: طريق الرشد (من طمع أن يعرف أن زيدا) مثلا (حكيم أم لا، وهو بعد لم يفهم معنى الحكمة وحقيقتها) وإطلاقاتها وحيث كان الأمر كذلك (فالفضيلة) فعيلة (مأخوذة من الفضل) ودائرة الأخذ أوسع من دائرة الاشتقاق؛ ولذا لم يقل: مشتقة .

(وهو) أي: الفضل لغة (الزيادة) زاد الراغب في مفرداته: على الاقتصاد، وهو اسم لما يتوصل به إلى السعادة، ويضادها الرذيلة، وقال ابن السيد في الفرق: الفضل إذا كان يراد به الزيادة ففيه ثلاث لغات كنصر وعلم وكرم، وأما الفضل الذي هو بمعنى الشرف فليس فيه إلا لغة واحدة، وهي فضل يفضل كقعد يقعد. وتمام البحث في شرحنا على القاموس .

(فإذا تشارك شيئان في أمر) من الأمور (واختص أحدهما بمزية) فعيلة من مزى، وهي فضيلة يمتاز بها عن غيره، قالوا: ولا ينبني منه فعل (يقال: فضله وله الفضل مهما كانت زيادته فيما هو كمال ذلك الشيء) والبلوغ إلى أقصى مراتبه (كما يقال: الفرس أفضل من الحمار) يقال ذلك (بمعنى أنه يشاركه) أي: الفرس (في قوة الحمل) أي ينهض بالحمل الثقيل، فكل منهما مشاركان في هذا الوصف (ويزيد عليه الفرس) بأوصاف أخرى (بقوة الكر) أي: قوة إقدامه في الكر، أي: الحمل على عدوه، فإنه ينقض عليه كالبازي (والفر) أي: نهضته للفرار إذا لم يمكن صاحبه المقاتلة (وشدة العدو) أي: الجري مع سهولة في الحالتين، كما قالوا: إن سبق لحق وإن سبق لم يلحق .

(وحسن الصورة) مع ما فيه من الأوصاف، قال الدميري في حياة الحيوان: الفرس أشبه بالإنسان؛ لما فيه من الكرم وشرف النفس وعلو الهمة والزهو والخيلاء، ومن شرفه أن لا يأكل بقية علف غيره، ويرى المنامات كبني آدم، ويوصف بحدة البصر، وربما يعيش إلى تسعين سنة اهـ .

(فلو فرض حمار اختص بسلعة زائدة) وتغولي ثمنه (لم يقل: إنه أفضل) من الفرس (لأن تلك زيادة في الجسم، وهو نقصان من المعنى، وليس من الكمال في شيء، والحيوان مطلوب بمعناه وصفاته) التي منها حمل الأثقال والصبر والإبلاغ (لا لجسمه) .

اعلم أن الفضل إذا استعمل لزيادة حسن أحد الشيئين على الآخر ثلاثة أضرب: فضل من حيث الجنس، كفضل جنس الحيوان على جنس النبات، وفضل من حيث النوع كفضل الإنسان على غيره من الحيوان، وفضل من حيث الذات كفضل رجل على آخر، فالأولان جوهران لا سبيل للناقص فيهما أن يزيل نقصه، وأن يستفيد الفضل، كالفرس والحمار، لا يمكنه اكتساب فضيلة [ ص: 124 ] الإنسان، والثالث قد يكون عرضا يمكن اكتسابه .

ومن هذا النحو التفضيل المذكور في قوله تعالى: والله فضل بعضكم على بعض أي: في المكنة والجاه والمال والقوة .

(وإذا فهمت هذا لم يخف عليك أن العلم فضيلة) على الإطلاق، بل أصل كل الفضائل الداخلية (وإن أخذته بالإضافة إلى سائر الحيوانات، بل شدة العدو) أي: الركض والجري (فضيلة في الفرس وليس فضيلة على الإطلاق، والعلم فضيلة في ذاته على الإطلاق من غير إضافة) ونسبة إلى شيء آخر (فإنه وصف لكمال الله تعالى، وبه شرف الملائكة والأنبياء) إذ لم يبعث الرسل ولا أنزلت الكتب إلا بالعلم، بل ما قامت السماوات والأرض وما بينهما إلا بالعلم، فكل ما ضمه الوجود من خلقه وأمره صادر عن علمه وحكمته .

واختلف هنا في مسألة، وهي: هل العلم صفة فعلية أو انفعالية؟

فقالت طائفة: هو صفة فعلية؛ لأنه شرط أو جزء سبب في وجود المفعول؛ فإن الفعل الاختياري يسند عن حياة الفاعل وعلمه وقدرته وإرادته، ولا يتصور وجوده بدون هذه الصفات .

وقالت طائفة: هو انفعالي؛ فإنه تابع للمعلوم، يتعلق به على ما هو عليه؛ فإن العلم درك المعلوم على ما هو به، فإدراكه تابع له، فيكون متقدما عليه، والصواب أن العلم قسمان:

فعلي: وهو علم الفاعل المختار بما يريد أن يفعله فإنه موقوف على إرادته الموقوفة على تصور المراد، والعلم به، فهذا علم قبل الفعل، متقدم عليه، مؤثر فيه .

وعلم انفعالي: وهو العلم التابع للمعلوم، الذي لا تأثير له فيه، كعلمنا بوجود الأنبياء والملوك وسائر الموجودات، فإن هذا العلم لا يؤثر فيه المعلوم، ولا هو شرط فيه .

فكل من الطائفتين نظرت جزئيا وحكمت كليا، وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس، وكلا القسمين صفة كمال، ونقصه من أعظم النقص .

(بل الكيس) فيعل من الكياسة (من الفرس خير من البليد، فهي فضيلة على الإطلاق من غير إضافة) اعلم أن الله سبحانه خلق الموجودات، وجعل لكل شيء منها كمالا يختص به هو غاية شرفه، فإذا عدم كماله انتقل إلى الرتبة التي دونه، واستعمل فيها، فكان استعماله فيها كمال أمثاله، فإذا عدم تلك أيضا نقل إلى ما دونها، ولا تعطل، وهكذا أبدا حتى إذا عدم كل فضيلة صار كالشوك والحطب الذي لا يصلح إلا للوقود، فالفرس إذا كانت فيه فروسيته التامة أعد لمراكب الملوك، وأكرم إكرام مثله، فإذا نزل عنها قليلا أعد لمن دون الملك، فإذا زاد تقصيره أعد لآحاد الأجناد، فإن تقاصر عنها جملة استعمل استعمال الحمار، إما حول المدار وإما لنقل الزبل ونحوه، فإن عدم ذلك استعمل استعمال الأغنام للذبح والإعدام، كما يقال في المثل: إن فرسين التقيا أحدهما تحت الملك والآخر تحت الردايا، فقال فرس الملك: أما أنت صاحبي، وكنت أنا وأنت في مكان واحد، فما الذي نزل بك إلى هذه المرتبة؟! فقال: ما ذاك إلا أنك هملجت قليلا وتكسعت أنا .

(واعلم أن الشيء النفيس المرغوب فيه) المعبر عنه بالخير (ينقسم) من وجه (إلى ما يطلب لغيره) أي: تأثيره لغيره (وإلى ما يطلب لذاته) لكون تأثيره لذاته (وإلى ما يطلب لذاته) تارة (ولغيره) تارة؛ لكون تأثيره كذلك (و) القسم الثاني، وهو (ما يطلب لذاته أفضل وأشرف مما يطلب لغيره) إذ المؤثر لذاته أشرف من المؤثر لغيره .

(والمطلوب لغيره الدراهم والدنانير) جمع دينار ودرهم (فإنهما) نظرا إلى جرمهما (حجران) لتكوينهما من المعادن (لا منفعة فيهما) فإنهما لا يشبعان ولا يرويان (ولولا أن الله تعالى يسر) أي: سهل (قضاء الحاجة) الضرورية (بهما) وارتفعت الضرورات التي تدفع بهما (لكانت) هي (والحصباء بمثابة) أي بمنزلة (واحدة) فهي خواتيم الله في الأرض، خلقت لاستدفاع الضرورات بها، فتأثيرها ليس لذاتها .

وأخرج أبو نعيم في الحلية فقال: حدثنا سليمان، حدثنا علي بن المبارك، حدثنا زيد بن المبارك، حدثنا مرداس بن ما فنه أبو عبيدة، حدثنا أبو رفيق، قال سألت وهب بن منبه عن الدنانير والدراهم، فقال: الدنانير والدراهم خواتيم رب العالمين في الأرض لمعايش بني آدم، لا تؤكل ولا تشرب، فأين ذهبت بخاتم رب العالمين قضيت حاجتك.

وأخرج الطبراني في الأوسط من رواية ابن عيينة وابن أبي فديك، كلاهما عن محمد بن عمرو، عن أبي لبيبة، عن [ ص: 125 ] أبيه، عن أبي هريرة مرفوعا: "الدنانير والدراهم خواتيم الله في أرضه، من جاء بخاتم ربه قضيت حاجته".

وأخرج في الأوسط أيضا والصغير عن المقدام بن معدي كرب مرفوعا: "يأتي على الناس زمان لا ينفع فيه إلا الدينار والدرهم".

(وأما الذي يطلب لذاته فالسعادة في الآخرة، ولذة النظر إلى وجه الله تعالى) وهو أعلى أنواع نعم الله الموهوبة والمكتسبة، وأشرفها، وإياها قصد بقوله تعالى: وأما الذين سعدوا ففي الجنة الآية، وذلك هو الخير المحض، والفضيلة الصرف، وهو أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، وقدرة بلا عجز، وعلم بلا جهل، وغناء بلا فقر، ولا يمكن الوصول إلى ذلك إلا باكتساب لفضائل النفيسة واستعمالها، كما قال تعالى: ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها الآية .

(وأما الذي يطلب لذاته) تارة (ولغيره) تارة (فكسلامة البدن) وصحة الجسد (فإن سلامة الرجل) بكسر الراء (مثلا مطلوب من حيث إنه سلامة عن الألم، ومطلوب للمشي بها، والتوصل إلى المآرب والحاجات) بذلك المشي، أي أن الرجل وإن أريد للمشي فالإنسان يريد أن يكون صحيح الرجل وإن استغنى عن المشي .

(وبهذا الاعتبار إذا نظرت إلى العلم رأيته لذيذا في نفسه، فيكون مطلوبا لذاته) فيكون أشرف بهذا الاعتبار (ووجدته وسيلة) موصلة (إلى دار الآخرة وسعادتها) والمراد بسعادة الآخرة حسن الحياة فيها، وهي الأربع التي تقدم ذكرها، وقد يقال لما يتوصل به إلى هذه السعادات الأربع أيضا سعادة، كالعلم؛ فإنه يسمى سعادة بهذا الاعتبار، وخيرا مطلقا (وذريعة) أي: وسيلة (إلى القرب من الله تعالى) في دار كرامته (ولا يتوصل إلا به) أي بالعلم .

(وأعظم الأشياء رتبة) وأكبرها وأشرفها (في حق الآدمي) المنسوب إلى جده آدم -عليه السلام- أي: في حق الإنسان (السعادة الأبدية) وهي السعادة المطلوبة التي تقدم ذكرها .

(وأفضل الأشياء ما هو وسيلة إليها) أي: إلى الوصول بها (ولن يصل إلى ذلك إلا بـ) ـاكتساب الفضائل النفيسة واستعمالها، وأصول ذلك أربعة أشياء: العقل وكماله (العلم) والعفة وكمالها الورع، والشجاعة وكمالها المجاهدة، والعدالة وكمالها الإنصاف (و) هذه الثلاثة هي (العمل) ويعبر عنها بالدين أيضا، ويكمل ذلك بالفضائل البدنية، وهي أربعة أشياء: الصحة، والقوة، والمال، وطول العمر، وبالفضائل المطيفة بالإنسان، وهي أربعة أشياء: المال، والأهل، والعز، وكرم العشيرة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتوفيق الله عز وجل، وذلك بأربعة أشياء: هدايته ورشده وتسديده وتأييده، فجميع ذلك خمسة أنواع، وهي عشرون ضربا، ليس للإنسان مدخل في اكتسابها إلا مما هو نفسي فقط .




الخدمات العلمية