الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا

روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وغيره، أنه قرأ: "علمت" بتاء المتكلم مضمومة، وقال: "وما علم عدو الله قط، وإنما علمموسى ".

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وتتقوى هذه القراءة لمن تأول "مسحورا" على بابه، فلما رماه فرعون بأنه قد سحر [ ص: 553 ] ففسد نظره وعقله وكلامه، رد هو عليه بأنه يعلم آيات الله تعالى، وأنه ليس بمسحور، بل محرر لما يأتي به. وهي قراءة الكسائي . وقرأ الجمهور: "لقد علمت" بتاء المخاطب مفتوحة، فكأن موسى عليه السلام رماه بأنه يكفر عنادا.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ومن قال بوقوع الكفر عنادا فله تعلق بهذه الآية، وجعلها كقوله عز وجل: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ، وقد حكى الطبري ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، ونحا إليه الزجاج وهي، بعد معرضة للاحتمال على أن يكون قول موسى عليه السلام إبلاغا على فرعون في التوبيخ، أي: أنت بحال من يعلم هذا، وهي من الوضوح بحيث تعلمها، ولم يكن ذلك على جهة الخبر عن علم فرعون.

وقوله تعالى: "بصائر" جمع بصيرة، وهي الطريقة، أي طرائق يهتدى بها، وكذلك غلب على البصيرة أنها تستعمل في طريقة النفس في نظرها واعتقادها، ونصب "بصائر" على الحال.

و "المثبور": المهلك، قاله مجاهد ، وقال ابن عباس ، والضحاك : هو المغلوب، وقال ابن زيد : هو المخبول، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسره بالملعون. وقال بعض العلماء: كان موسى عليه السلام في أول أمره يجزع، ويؤمر بالقول اللين، ويطلب الوزير، فلما تقوت نفسه بقوى النبوة وتجلد قابل فرعون بأكثر مما أمره به، بحسب اجتهاده الجائز له. قال ابن زيد : اجترأ موسى أن يقول له فوق ما أمره الله به. وقالت فرقة: بل المثبور: المغلوب المخرع، وما كان موسى عليه السلام ليكون لعانا، ومن اللفظة قول عبد الله بن الزبعرى:


إذ أجاري الشيطان في سنن الـ ... ـغي، ومن مال ميله مثبور



[ ص: 554 ] وقوله تعالى: فأراد أن يستفزهم من الأرض الآية. "يستفزهم" معناه: يستخفهم ويقلقهم، إما بقتل أو بإجلاء، و"الأرض" هي أرض مصر ، وقد تقدم أنه متى ذكرت "الأرض" عموما فإنما يراد بها ما يناسب القصة المتكلم فيها، وقد يحسن عمومها في بعض القصص.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

واقتضبت هذه الآية قصص بني إسرائيل مع فرعون، وإنما ذكرت عظم الأمر وخطيره، وذلك طرفاه: أراد فرعون غلبتهم وقتلهم، وهذا كان بدء الأمر، "فأغرقه" الله تبارك وتعالى وأغرق جنوده، وهذا كان نهاية الأمر. ثم ذكر الله تعالى أمر بني إسرائيل بعد إغراق فرعون بسكنى أرض الشام.

و وعد الآخرة هو يوم القيامة. و "اللفيف": الجمع المختلط الذي قد لف بعضه ببعض، فليس ثم قبائل ولا انحياز. قال بعض اللغويين: هو من أسماء الجموع، ولا واحد له من لفظه، وقال الطبري: هو بمعنى المصدر كقول القائل: لففته لفا ولفيفا.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وفي هذا نظر فتأمله.

التالي السابق


الخدمات العلمية