الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2036 باب بيع الغرر وحبل الحبلة

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  أي هذا باب في بيان حكم بيع الغرر وبيان حكم بيع حبل الحبلة.

                                                                                                                                                                                  "الغرر" بفتح الغين المعجمة وبراءين أولاهما مفتوحة.

                                                                                                                                                                                  [ ص: 264 ] وهو في الأصل الخطر من غر يغر بالكسر، والخطر هو الذي لا يدرى أيكون أم لا، وقال ابن عرفة: الغرر هو ما كان ظاهره يغر وباطنه مجهول، ومنه سمي الشيطان غرورا؛ لأنه يحمل على محاب النفس ووراء ذلك ما يسوء، قال: والغرور ما رأيت له ظاهرا تحبه وباطنه مكروه أو مجهول، وقال الأزهري: بيع الغرر ما يكون على غير عهدة ولا ثقة، قال: ويدخل فيها البيوع التي لا يحيط بكنهها المتبايعان، وقال صاحب المشارق: بيع الغرر بيع المخاطرة، وهو الجهل بالثمن أو المثمن أو سلامته أو أجله.

                                                                                                                                                                                  وقال أبو عمر: بيع يجمع وجوها كثيرة منها المجهول كله في الثمن أو المثمن إذا لم يوقف على حقيقة جملته، ومنها بيع الآبق والجمل الشارد والحيتان في الآجام والطائر غير الداجن، قال: والقمار كله من بيع الغرر، وحكى الترمذي عن الشافعي أن بيع السمك في الماء من بيوع الغرر وبيع الطير في السماء والعبد الآبق، وقال شيخنا: ما حكاه الترمذي عن الشافعي من أن بيع السمك في الماء من بيوع الغرر، وهو فيما إذا كان السمك في ماء كثير بحيث لا يمكن تحصيله منه، وكذا إذا كان يمكن تحصيله ولكن بمشقة شديدة، وأما إذا كان في ماء يسير بحيث يمكن تحصيله منه بغير مشقة فإنه يصح لأنه مقدور على تحصيله وتسليمه، وهذا كله إذا كان مرئيا في الماء القليل بأن يكون الماء صافيا، فأما إذا لم يكن مرئيا بأن يكون كدرا فإنه لا يصح بلا خلاف كما قاله النووي والرافعي.

                                                                                                                                                                                  (قلت): بيع الآبق يصح إذا كان البائع والمشتري يعرفان موضعه، كذا قاله أصحابنا، وقال شيخنا: يدخل في بيع الطير في السماء بيع حمام البرج في حال طيرانه وإن جرت عادته بالرجوع؛ لأنه يجوز أن لا يرجع، وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى صحة البيع لجريان العادة برجوعه، وأما إذا كان في البرج فحكمه حكم بيع السمك في الماء اليسير، فإن كان فيه كوى مفتوحة لا يؤمن خروجه لم يصح، وإن لم يمكنه الخروج، ولكن كان البرج كبيرا بحيث يحصل التعب والمشقة في تحصيله لم يصح أيضا، قال: وفرق الأصحاب بين بيع الحمام في حال غيبته عن البرج وبين بيع النحل في حال غيبته عن الكوارة، فصححوا المنع في حمام البرج وصححوا الصحة في بيع النحل، والفرق بينهما أن الطير تعترضه الجوارح في خروجه بخلاف النحل، وقيد ابن الرفعة في المطلب صحة بيع النحل فيما إذا كانت أم النحل في الكوارة، فإذا لم تكن لا يصح.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): لم يذكر في الباب بيع الغرر صريحا وذكره في الترجمة لماذا؟

                                                                                                                                                                                  (قلت): لما كان في حديث الباب النهي عن بيع حبل الحبلة، وهو نوع من أنواع بيع الغرر ذكر الغرر الذي هو عام، ثم عطف عليه حبل الحبلة من عطف الخاص على العام لينبه بذلك على أن أنواع الغرر كثيرة، وإن لم يذكر منها إلا حبل الحبلة من باب التنبيه بنوع ممنوع مخصوص معلول بعلة على كل نوع توجد فيه تلك العلة.

                                                                                                                                                                                  وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن بيع الغرر. منها ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: "نهى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر" وأخرجه الأربعة أيضا. ومنها حديث ابن عمر رواه البيهقي من حديث نافع عنه قال: "نهى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - عن بيع الغرر" ومنها حديث ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أخرجه ابن ماجه من حديث عطاء عنه قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر" ومنها حديث أبي سعيد أخرجه ابن ماجه أيضا من حديث شهر بن حوشب عنه قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعما في ضروعها إلا بكيل، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم، وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة القانص" ومنها حديث علي - رضي الله تعالى عنه - أخرجه أبو داود، وفيه قد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع المضطر وبيع الغرر وبيع التمرة قبل أن تدرك. ومنها حديث ابن مسعود، أخرجه أحمد عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم: "لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر". ومنها حديث عمران بن الحصين - رضي الله تعالى عنه - أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب البيوع أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - نهى عن بيع ما في ضروع الماشية قبل أن تحلب، وعن بيع الجنين في بطون الأنعام، وعن بيع السمك في الماء، وعن المضامين والملاقيح وحبل الحبلة، وعن بيع الغرر".




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية