الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 164 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم دخلت سنة أربع وأربعين

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيها غزا عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بلاد الروم ، ومعه المسلمون ، وشتوا هنالك . وفيها غزا بسر بن أبي أرطاة في البحر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها عزل معاوية عبد الله بن عامر عن إمرة البصرة ; وذلك أنه ظهر فيها الفساد بسبب لينه ; لأنه كان لين العريكة ، سهلا كريما ، وكان لا يأخذ على أيدى السفهاء ، ولا يقطع لصا ، ويريد أن يتألف الناس ففسدت البصرة بسبب ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن جرير : شكى عبد الله بن عامر إلى زياد فساد الناس ، فقال : جرد فيهم السيف . فقال ابن عامر : إني أكره أن أصلحهم بفساد نفسي . قال : فذهب عبد الله بن أبي أوفى المعروف بابن الكواء فشكاه إلى معاوية ، فعزل معاوية ابن عامر عن البصرة وبعث إليها الحارث بن عبد الله الأزدي ، ويقال : إن معاوية استدعاه إليه ليزوره ، فقدم ابن عامر على معاوية دمشق ، فأكرمه ورده على عمله ، فلما ودعه قال له معاوية : ثلاث أسألكهن فقل : هن لك . قال : هن لك وأنا ابن أم حكيم . قال : معاوية : ترد علي عملي ولا تغضب . قال ابن عامر : قد فعلت . قال : وتهب لي مالك بعرفة . قال : قد فعلت . قال : [ ص: 165 ] وتهب لي دورك بمكة . قال : قد فعلت . فقال له معاوية : وصلتك رحم . فقال ابن عامر : يا أمير المؤمنين ، وإنى سائلك ثلاثا فقل : هي لك . قال : هن لك وأنا ابن هند . قال : ترد علي مالي بعرفة قال : قد فعلت قال : ولا تحاسب لي عاملا ولا تتبع لي أثرا . قال : قد فعلت . قال : وتنكحني ابنتك هندا . قال : قد فعلت . ويقال : إن معاوية خيره بين هذه الثلاث وبين الولاية على البصرة ، فاختار هذه الثلاث ، وانعزل عن البصرة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن جرير : وفي هذه السنة استلحق معاوية زياد ابن أبيه فألحقه بأبي سفيان . وذلك أن رجلا شهد على إقرار أبي سفيان أنه عاهر بسمية أم زياد في الجاهلية ، وأنها حملت بزياد هذا من أبي سفيان ، فلما استلحقه معاوية قيل له : زياد بن أبي سفيان . وقد كان الحسن البصري ينكر هذا الاستلحاق ، ويقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الولد للفراش وللعاهر الحجر " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أحمد : ثنا هشيم ، ثنا خالد ، عن أبي عثمان قال : لما ادعى زياد لقيت أبا بكرة ، فقلت : ما هذا الذي صنعتم ؟ إني سمعت سعد بن أبي وقاص يقول : سمع أذني من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : " من ادعى أبا في الإسلام غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه ، فالجنة عليه حرام " . فقال أبو بكرة : وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم . أخرجناه من حديث أبي عثمان عنهما . قلت : أبو بكرة [ ص: 166 ] اسمه نفيع ، واسم أمه سمية أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحج بالناس في هذه السنة معاوية . وفيها عمل معاوية المقصورة بالشام ، وعمل مروان مثلها بالمدينة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة توفيت أم حبيبة بنت أبي سفيان أم المؤمنين ، واسمها رملة ، أخت معاوية . أسلمت قديما ، وهاجرت هي وزوجها عبيد الله بن جحش إلى أرض الحبشة ، فتنصر هناك زوجها ، وثبتت هي على دينها ، رضي الله عنها ، وحبيبة هي أكبر أولادها منه ، ولدتها بالحبشة . وقيل : بمكة قبل الهجرة . ومات زوجها هنالك ، لعنه الله وقبحه . ولما تأيمت بعد زوجها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي فزوجها منه ، وولي العقد خالد بن سعيد بن العاص ، وأصدقها عنه النجاشي أربعمائة دينار ، وحملها إليه في سنة سبع ، ولما جاء أبوها عام الفتح ليشد العقد ، دخل عليها ، فثنت عنه فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لها : والله يا بنية ، ما أدري أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه ؟ ! فقالت : بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنت رجل مشرك . فقال لها : والله يا بنية لقد لقيت بعدي شرا . وقد كانت من سيدات أمهات المؤمنين ، ومن العابدات الورعات ، رضي الله عنها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال محمد بن عمر الواقدي : حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة ، عن عبد المجيد بن سهيل ، عن عوف بن الحارث قال : سمعت عائشة تقول : [ ص: 167 ] دعتني أم حبيبة عند موتها فقالت : قد يكون بيننا ما يكون بين الضرائر . فقلت : يغفر الله لي ولك ما كان من ذلك كله وتجاوز وحللك . فقالت : سررتني سرك الله . وأرسلت إلى أم سلمة فقالت لها مثل ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية