الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الثالث والتسعون والمائة بين قاعدة المجهول وقاعدة الغرر )

اعلم أن العلماء قد يتوسعون في هاتين العبارتين فيستعملون إحداهما موضع الأخرى وأصل الغرر هو الذي لا يدرى هل يحصل أم لا كالطير في الهواء والسمك في الماء .

وأما ما علم حصوله وجهلت صفته فهو المجهول كبيعه ما في كمه فهو يحصل قطعا لكن لا يدرى أي شيء هو فالغرر والمجهول كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه فيوجد كل واحد منهما مع الآخر وبدونه أما وجود الغرر بدون الجهالة فكشراء العبد الآبق المعلوم قبل الإباق لا جهالة فيه وهو غرر ؛ لأنه لا يدري هل يحصل أم لا ، والجهالة بدون الغرر كشراء حجر يراه لا يدري أزجاج هو أم ياقوت مشاهدته تقتضي القطع بحصوله فلا غرر ، وعدم معرفته تقتضي الجهالة به .

وأما اجتماع الغرر والجهالة فكالعبد الآبق المجهول الصفة قبل الإباق ، ثم الغرر والجهالة يقعان في سبعة أشياء في الوجود كالآبق قبل الإباق ، والحصول إن علم الوجود كالطير في الهواء وفي الجنس كسلعة لم يسمها وفي النوع كعبد لم يسمه وفي المقدار كالبيع إلى مبلغ رمي الحصاة وفي التعيين كثوب من ثوبين مختلفين وفي البقاء كالثمار قبل بدو صلاحها فهذه سبعة موارد للغرور والجهالة ، ثم الغرر والجهالة ثلاثة أقسام كثير ممتنع إجماعا كالطير [ ص: 266 ] في الهواء وقليل جائز إجماعا كأساس الدار وقطن الجبة ومتوسط اختلف فيه هل يلحق بالأول أو الثاني فلارتفاعه عن القليل ألحق بالكثير ولانحطاطه عن الكثير ألحق بالقليل ، وهذا هو سبب اختلاف العلماء في فروع الغرر والجهالة ( فائدة )

أصل الغرر لغة قال القاضي عياض رحمه الله هو ما له ظاهر محبوب وباطن مكروه ، ولذلك سميت الدنيا متاع الغرور قال ، وقد يكون من الغرارة وهي الخديعة ومنه الرجل الغر بكسر الغين للخداع ويقال للمخدوع أيضا ومنه قوله عليه السلام { المؤمن غر كريم } .

التالي السابق


حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الثالث والتسعون والمائة بين قاعدة المجهول وقاعدة الغرر )

الغرر لغة قال القاضي عياض رحمه الله هو ما له ظاهر محبوب وباطن مكروه ولذلك سميت الدنيا متاع الغرور قال ، وقد يكون من الغرارة وهي الخديعة ومنه الرجل الغر بكسر الغيرة للخداع ويقال للمخدوع أيضا ومنه قوله عليه السلام { المؤمن غر كريم } ا هـ .

والمجهول لغة ضد المعلوم كما في المختار والغرر اصطلاحا ما لا يدري هل يحصل أم لا جهلت صفته أم لا كالطير في الهواء والسمك في الماء والمجهول اصطلاحا ما علم حصوله وجهلت صفته كبيع الشخص ما في كمه فهو يحصل قطعا لكنه لا يدري أي شيء هو فكل واحد من الغرر والمجهول اصطلاحا أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه فيجتمعان في [ ص: 271 ] نحو شراء العبد الآبق المجهول قبل إباقه صفته فهو مجهول الصفة وغرر ؛ لأنه لا يدري أيحصل أم لا ويوجد الغرر بدون الجهالة في نحو شراء العبد الآبق المعلوم قبل إباحة صفته فهو معلوم قبل الإباق لا جهالة فيه وهو غرر ؛ لأنه لا يدري هل يحصل أم لا وتوجد الجهالة بدون الغرر في نحو شراء حجر يراه لا يدري أهو زجاج أم ياقوت فمشاهدته تقتضي القطع بحصوله فلا غرر وعدم معرفته تقتضي الجهالة به نعم قد يتوسع العلماء فيهما فيستعملون أحدهما موضع الآخر نظرا إلى أن الغرر يوجد في المبيعات من جهة الجهل بأحد سبعة أشياء

( الأول ) الجهل بتعيين العقد أي الجهل بوجود المعقود به عليه كالآبق قبل الإباق

( والثاني ) الجهل بتعيين المعقود عليه كثوب من ثوبين مختلفين

( والثالث ) الجهل بجنسه كسلعة لم يسمها

( والرابع ) الجهل بنوعه كعبد لم يسمه

( الخامس ) الجهل بالحصول إن علم الوجود كالطير في الهواء والسادس الجهل بالمقدار كالبيع إلى مبلغ رمي الحصاة والسابع الجهل بالبقاء كالثمار قبل بدو صلاحها وبقي الجهل بالأجلي إن كان هناك أجل والجهل بالصفة فهذه تسعة موارد للغرر من جهة الجهالة وهي ترجع إلى ثلاثة أقسام للغرر من جهة الجهالة

( الأول ) كثير ممتنع إجماعا كالطير في الهواء ومن ذلك جميع البيوع التي نهي عنها صلى الله عليه وسلم كبيع حبل الحبلة ؛ لأنه إما عبارة عن بيع يؤجلونه إلى أن تنتج الناقة ما في بطنها ، ثم ينتج ما في بطنها والغرر في هذا من جهة جهل الأجل بين وإما عبارة عن بيع جنين الناقة ، وهذا من باب النهي عن بيع المضامين والملاقيح والمضامين هي ما في بطون الحوامل والملاقيح ما في ظهور الفحول وكبيع ما لم يخلق وبيع الملامسة وكانت صورته في الجاهلية أن يلمس الرجل الثوب ولا ينشره أو يبتاعه ليلا ولا يعلم ما فيه وسبب تحريمه الجهل بالصفة وكبيع المنابذة وصورته أن ينبذ كل واحد من المتبايعين إلى صاحبه الثوب من غير أن يعين أن هذا بهذا ، بل كانوا يجعلون ذلك راجعا إلى الاتفاق وكبيع الحصاة وصورته أن يقول المشتري أي ثوب وقعت عليه الحصاة التي أرمي بها فهو لي ، وقيل أيضا إنهم كانوا يقولون إذا وقعت الحصاة من يدي فقد وجب البيع .

وهذا قمار فهذه ونحوها كلها بيوع جاهلية متفق على تحريمها وهي محرمة لكثير الغرر الحاصل من جهات الجهالة المذكورة

( والقسم الثاني ) قليل جائز إجماعا كأساس الدار وقطن الجبة

والقسم الثالث متوسط اختلف فيه هو يلحق بالأول [ ص: 272 ] أو الثاني فلارتفاعه عن القليل ألحق بالكثير ولانحطاطه عن الكثير ألحق بالقليل .

وهذا هو سبب اختلاف العلماء في فروع الغرر والجهالة هذا خلاصة ما في الأصل وسلمه ابن الشاط بزيادة من بداية الحفيد قال ومن البيوع التي توجد فيها هذه الضروب من الغرر بيوع منطوق بها وبيوع مسكوت عنها والمنطوق به أكثره متفق على تحريمه وبعضه اختلفوا فيه ومنه ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام من { النهي عن بيع السنبل حتى يبيض والعنب حتى يسود } وذلك أن العلماء اتفقوا على أنه لا يجوز بيع الحنطة في سنبلها دون السنبل ؛ لأنه بيع ما لم تعلم صفته ولا كثرته واختلفوا في بيع السنبل نفسه مع الحب فجوز ذلك جمهور العلماء مالك وأبو حنيفة وأهل المدينة وأهل الكوفة .

وقال الشافعي لا يجوز بيع السنبل نفسه وإن اشتد فإنه من باب الغرر وقياسا على بيعه مخلوطا بتبنه بعد الدرس وحجة الجمهور ما روي عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { نهى عن بيع النخيل حتى تزهي ، وعن السنبل حتى تبيض وتؤمن العاهة } نهي البائع والمشتري وهي زيادة على ما . رواه مالك من هذا الحديث والزيادة إذا كانت من الثقة مقبولة وروي عن الشافعي أنه لما وصلته هذه الزيادة رجع عن قوله وذلك أنه لا يصح عنده قياس مع وجود الحديث .

ثم قال ، وأما المسائل المسكوت عنها في هذا الباب المختلف فيها بين فقهاء الأمصار فكثيرة لكن نذكر منها أشرها لتكون كالقانون للمجتهد النظار وهي خمسة مسائل ( المسألة الأولى )

المبيعات نوعان مبيع حاضر مرئي فهذا لا خلاف في بيعه ومبيع غائب أو متعذر الرؤية فهنا اختلف العلماء فقال قوم بيع الغائب لا يجوز بحال من الأحوال لا وصف ولا لم يوصف ، وهذا أشهر قول الشافعي وهو المنصور عند أصحابه أعني أن بيع الغائب على الصفة لا يجوز ، وقال مالك وأكثر أهل المدينة يجوز بيع الغائب على الصفة إذا كانت غيبته مما يؤمن أن تتغير فيه قبل القبض صفته .

وقال أبو حنيفة يجوز بيع العين الغائبة من غير صفة ، ثم له إذا رآها الخيار فإن شاء نفذ البيع وإن شاء رده ، وكذلك المبيع على الصفة من شرطه عندهم خيار الرؤية وإن جاء على الصفة ، وعند مالك إنه إن جاء على الصفة فهو لازم ، وعند الشافعي لا ينعقد البيع أصلا في الموضعين ، وقد قيل في المذهب يجوز بيع الغائب من غير صفة على شرط الخيار خيار الرؤية وقع ذلك في المدونة وأنكره عبد الوهاب ، وقال هو مخالف لأصولنا وسبب الخلاف هل نقصان العلم [ ص: 273 ] المتعلق بالصفة عن العلم المتعلق بالحس هو جهل مؤثر في بيع الشيء ، فيكون من الغرر الكثير أم ليس بمؤثر وإنه من الغرر اليسير .

وأما أبو حنيفة فإنه رأى أنه إذا كان له خيار الرؤية إنه لا غرر هناك وإن لم تكن له رؤية ، وأما مالك فرأى أن الجهل المقترن بعدم الصفة مؤثر في انعقاد البيع ولا خلاف عند مالك أن الصفة إنما تنوب عن المعاينة لمكان غيبة المبيع أو لمكان المشقة التي في نشره وما يخاف أن يلحقه من الفساد بتكرار النشر عليه ولهذا أجاز البيع على البرنامج على الصفة ولم يجز عنده بيع السلاح في جرابه ولا الثوب المطوي في طيه حتى ينشر أو ينظر إلى ما في جرابها واحتج أبو حنيفة بما روي عن ابن المسيب إنه قال قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وددنا أن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف تبايعا حتى نعلم أيهما أعظم جدا في التجارة فاشترى عبد الرحمن من عثمان بن عفان فرسا بأرض له أخرى بأربعين ألفا أو أربعة آلاف فذكر تمام الخبر وفيه بيع الغائب مطلقا ولا بد عند أبي حنيفة من اشتراط الجنس ويدخل البيع على الصفة أو على خيار الرؤية من جهة ما هو غائب غرر آخر وهو هل هو موجود وقت العقد أو معدوم ولذلك اشترطوا فيه أن يكون قريب الغيبة إلا أن يكون مأمونا كالعقار ومن هاهنا أجاز مالك بيع الشيء برؤية متقدمة أعني إذا كان من القرب بحيث يؤمن أن تتغير فيه فاعلمه ( المسألة الثانية )

أجمعوا على أنه لا يجوز بيع الأعيان إلى أجل وإن من شرطها تسليم المبيع إلى المبتاع بأثر عقد الصفة إلا أن مالكا وربيعة وطائفة من أهل المدينة أجازوا بيع الجارية الرفيعة على شرط المواضعة ولم يجيزوا فيها كما لم يجزه مالك في بيع الغائب وإنما منع ذلك الجمهور لما يدخله من الدين بالدين ومن عدم التسليم ويشبه أن يكون بيع الدين بالدين من هذا الباب أعني لما يتعلق بالغرر من عدم التسليم من الطرفين لا من باب الربا ومن هذا الباب ما كان يرى ابن القاسم أنه لا يجوز أن يأخذ الرجل من غريمه في دين له عليه ثمرا قد بدا صلاحه ويراه من باب الدين بالدين وكان أشهب يجتز ذلك ويقول إنما الدين بالدين ما لم يشرع في قبض شيء منه أعني أنه كان يرى أن قبض الأوائل من الأثمان يقوم مقام قبض الأواخر وهو القياس عند كثير من المالكين وهو قول الشافعي وأبي حنيفة .

( المسألة الثالثة )

أجمع فقهاء الأمصار على بيع التمر الذي يثمر بطنا واحدا يطيب بعضه وإن لم تطب جملته معا واختلفوا فيما يثمر بطونا مختلفة وتحصيل مذهب مالك في ذلك أن البطون المختلفة لا تخلو أن تتصل أو لا تتصل فإن لم تتصل لم يكن بيع ما لم يخلق منها داخلا فيما خلق كشجر التين يوجد فيه الباكور والعصير ، ثم إن اتصلت فلا يخلو أن تتميز البطون أو لا تتميز فمثال المتميز جز القصيل الذي يجز مدة بعد مدة ومثال المتميز المباطخ والمقاثي والباذنجان والقرع ففي الذي يتميز عنه وينفصل روايتان إحداهما الجواز والأخرى المنع وفي الذي يتصل ولا يتميز قول واحد وهو الجواز وخالفه الكوفيون وأحمد وإسحاق والشافعي في هذا كله فقالوا لا يجوز بيع بطن منها بشرط آخر وحجة مالك فيما لا يتميز أنه لا يمكن حبس أوله على آخره فجاز أن يباع ما لم يخلق منها مع ما خالق وبدا صلاحه أصله جواز بيع ما لم يطب من الثمر مع ما طاب ؛ لأن الغرر في الصفة شبهه بالغرر في عين الشيء وكأنه رأى أن الرخصة هاهنا يجب أن تقاس على الرخصة في بيع الثمار أعني ما طاب مع ما لم يطب لموضع الضرورة والأصل عنده أن من الغرر ما يجوز لموضع الضرورة ولذلك منع على إحدى الروايتين عنده بيع القصيل بطنا أكثر من واحد ؛ لأنه لا ضرورة هناك إذا كان متميزا ، وأما وجه الجواز في القصيل فتشبيها له بما لا يتميز وهو ضعيف ، وأما الجمهور فإن هذا كله عندهم من بيع ما لم يخلق ومن باب النهي عن بيع الثمار معاومة ( المسألة الرابعة )

بيع اللفت والجزر والكرنب [ ص: 274 ] جائز عند مالك إذا بدا صلاحه وهو استحقاقه للأكل ولم يقلع ولم يجزه الشافعي إلا مقلوعا لأنه من باب بيع المغيب ومن هذا الباب بيع الجوز واللوز والباقلا في قشره أجازه مالك ومنعه الشافعي والسبب في اختلافهم هل هو من الغرر المؤثر في البيوع أم ليس من المؤثر وذلك أنهم اتفقوا على أن الغرر ينقسم بهذين القسمين وإن غير المؤثر هو اليسير الذي تدعو إليه الضرورة أو ما جمع الأمرين ( المسألة الخامسة )

اختلفوا أيضا في بيع السمك في الغدير أو البركة فقال أبو حنيفة يجوز ومنعه مالك والشافعي فيما أحسب وهو الذي تقتضي أصوله ومن ذلك الآبق أجازه قوم بإطلاق ومنعه قوم بإطلاق ومنهم الشافعي .

وقال مالك إن كان معلوم الصفة معلوم الموضع عند البائع والمشتري جاز وأظنه اشترط أن يكون معلوم الإباق ويتواضعان أعني أنه لا يقبضه البائع حتى يقبضه المشتري ؛ لأنه يتردد عند العقد بين بيع وسلف ، وهذا أصل من أصوله يمنع به النقد في بيع المواضعة وفي بيع الغائب غير المأمون وفيما كان من هذا الجنس وممن قال بجواز بيع الآبق والبعير والشارد عثمان البتي والحجة للشافعي حديث شهر بن حوشب عن سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { نهى عن شراء العبد الآبق . وعن شراء ما في بطون الإماء حتى تضع ، وعن شراء ما في ضروعها ، وعن شراء الغنائم حتى تقسم }

وأجاز مالك بيع لبن الغنم أياما معدودة إذا كان ما يحلب منها معروفا في العادة ولم يجز ذلك في الشاة الواحدة .

وقال سائر الفقهاء لا يجوز ذلك إلا بكيل معلوم بعد الحلب ومن هذا الباب منع مالك بيع اللحم في جلده ومن هذا الباب بيع المريض أجازه مالك إلا أن يكون ميئوسا منه ومنعه الشافعي وأبو حنيفة وهي رواية أخرى عنه ومن هذا الباب بيع تراب المعدن والصواغين فأجاز مالك بيع تراب المعدن بنقد يخالفه أو يعرض ولم يجز بيع تراب الصاغة ومنع الشافعي البيع في الأمرين جميعا وأجازه قوم في الأمرين جميعا وبه قال الحسن البصري ا هـ . محل الحاجة من البداية والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية