الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 213 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      سنة خمسين من الهجرة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      في هذه السنة توفي أبو موسى الأشعري ، في قول ، والصحيح أنه مات سنة ثنتين وخمسين كما سيأتي . وفيها حج بالناس معاوية ، وقيل : ابنه يزيد . وكان نائب المدينة في هذه السنة سعيد بن العاص ، وعلى الكوفة والبصرة والمشرق وسجستان وفارس والسند والهند زياد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة استعدى بنو نهشل على الفرزدق زيادا ، فهرب الفرزدق منه إلى المدينة ، وكان سبب ذلك أنه عرض بمعاوية في قصيدة له ، فطلبه زياد أشد الطلب ففر منه إلى المدينة ، فاستجار بسعيد بن العاص ، ومدحه بأشعار فأجاره ، ولم يزل الفرزدق يتردد فيما بين مكة والمدينة حتى توفي زياد ، فرجع إلى بلاده ، وقد طول ابن جرير هذه القصة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكر ابن جرير في هذه السنة من الحوادث ما رواه من طريق الواقدي : حدثني يحيى بن سعيد بن دينار ، عن أبيه ، أن معاوية كان قد عزم على تحويل المنبر النبوي من المدينة إلى دمشق ، وأن يأخذ العصا التي كان [ ص: 214 ] النبي صلى الله عليه وسلم يمسكها في يده إذا خطب ، فيقف على المنبر وهو ممسكها ، فقال له أبو هريرة وجابر بن عبد الله : يا أمير المؤمنين ، نذكرك الله أن تفعل هذا ، فإن هذا لا يصلح أن تخرج المنبر من موضع وضعه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن تخرج عصاه من المدينة . فترك ذلك معاوية ، ولكن زاد في المنبر ست درجات ، واعتذر إلى الناس .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم روى الواقدي : أن عبد الملك بن مروان في أيام خلافته هم بذلك وعزم عليه فقيل له : إن معاوية كان قد عزم على هذا ثم تركه ، وإنه لما حرك المنبر ، كسفت الشمس ; فترك ذلك . ثم لما حج الوليد بن عبد الملك أراد ذلك أيضا ، فقيل له : إن معاوية وأباك أرادا ذلك ثم تركاه . وكان السبب في تركه أن سعيد بن المسيب كلم عمر بن عبد العزيز أن يكلمه في ذلك ويعظه ، فترك . ثم لما حج سليمان أخبره عمر بن عبد العزيز بما كان عزم عليه الوليد ، وأن سعيد بن المسيب نهاه عن ذلك ، فقال : ما أحب أن يذكر هذا عن عبد الملك ولا عن الوليد ، وما يكون لنا أن نفعل هذا ، مالنا ولهذا ، وقد أخذنا الدنيا فهي في أيدينا فنريد أن نعمد إلى علم من أعلام الإسلام يوفد إليه ، فنحمله إلى ما قبلنا ، هذا ما لا يصلح . رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 215 ] وفي هذه السنة عزل معاوية عن مصر معاوية بن حديج وولى عليها وإفريقية مسلمة بن مخلد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها افتتح عقبة بن نافع الفهري عن أمر معاوية ، بلاد إفريقية ، واختط القيروان - وكان مكانها غيضة تأوي إليها السباع والوحوش والحيات العظام - فدعا الله تعالى ، فلم يبق فيها شيء من ذلك حتى إن السباع صارت تخرج منها تحمل أولادها ، والحيات يخرجن من أجحارهن هوارب ، فعند ذلك أسلم خلق كثير من البربر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة غزا بسر بن أبي أرطاة وسفيان بن عوف أرض الروم ، وفيها غزا فضالة بن عبيد البحر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها توفي مدلاج بن عمرو السلمي ، صحابي جليل ، شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم أر له ذكرا في الصحابة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر أبو الفرج بن الجوزي في كتابه " المنتظم " ، أن في هذه السنة توفي جبير بن مطعم ، وحسان بن ثابت ، والحكم بن عمرو الغفاري ، [ ص: 216 ] ودحية بن خليفة الكلبي ، وعقيل بن أبي طالب ، وعمرو بن أمية الضمري ، وكعب بن مالك ، والمغيرة بن شعبة ، وجويرية بنت الحارث ، وصفية بنت حيي ، وأم شريك الأنصارية . رضي الله عنهم أجمعين .



                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أما جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي النوفلي أبو محمد ، وقيل : أبو عدي المدني ، فإنه قدم وهو مشرك في فداء أسارى بدر فلما سمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة " الطور " : أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [ الطور : 35 ] . دخل في قلبه الإسلام ، ثم أسلم عام خيبر وقيل : زمن الفتح . والأول أصح ، وكان من سادات قريش وأعلمها بالأنساب ، أخذ ذلك عن الصديق ، والمشهور أنه توفي سنة ثمان وخمسين ، وقيل : سنة تسع وخمسين ، كما سيأتي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأما حسان بن ثابت

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      شاعر الإسلام ، فالصحيح أنه توفي سنة أربع وخمسين ، كما سيأتي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأما الحكم بن عمرو بن مجدع الغفاري ، أخو رافع بن عمرو [ ص: 217 ] الغفاري ، ويقال له : الحكم بن الأقرع . فصحابي جليل ، له عند البخاري حديث واحد في النهي عن لحوم الحمر الإنسية ، وقد استنابه زياد بن أبيه على غزو جبل الأشل ، فغنم شيئا كثيرا من الذهب والفضة وغير ذلك ، فجاءه كتاب زياد عن أمر معاوية أن يصطفي الذهب والفضة من الغنيمة لبيت المال ، فرد عليه الحكم : إن كتاب الله أولى أن يتبع من كتاب معاوية ، وقد سبق كتاب الله كتاب معاوية ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " . ثم نادى في الناس أن اغدوا على غنائمكم ، فقسمها في الناس ولم يترك إلا الخمس ، فيقال : إنه حبس إلى أن مات بمرو في هذه السنة . وقيل : في سنة إحدى وخمسين . رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأما دحية بن خليفة الكلبي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فصحابي جليل ، كان جميل الصورة ، فلهذا كان جبريل يأتي على صورته كثيرا . وأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر . أسلم قديما ، ولكن لم يشهد بدرا ، وشهد ما بعدها ، ثم شهد اليرموك وأقام بالمزة غربي دمشق إلى أن مات في خلافة معاوية .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها توفي عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس القرشي أبو سعيد العبشمي ، أسلم يوم الفتح ، وقيل : شهد مؤته ، وغزا [ ص: 218 ] خراسان وفتح سجستان وكابل وغيرها ، وكانت له دار بدمشق ، وأقام بالبصرة ، وقيل : بمرو .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال محمد بن سعد وغير واحد : مات بالبصرة سنة خمسين . وقيل : سنة إحدى وخمسين . وصلى عليه زياد ، وترك عدة من الذكور ، وكان اسمه في الجاهلية عبد كلال ، وقيل : عبد كلوب . وقيل : عبد الكعبة . فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن ، وكان أحد السفيرين بين معاوية والحسن ، رضي الله عنهما . وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة ; فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها ، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها توفي عثمان بن أبي العاص الثقفي ، أبو عبد الله الطائفي ، له ولأخيه الحكم صحبة ، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف ، فاستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف ، وأمره عليها أبو بكر وعمر ، فكان أميرهم وإمامهم مدة طويلة حتى مات سنة خمسين . وقيل : سنة إحدى وخمسين . رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأما عقيل بن أبي طالب

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أخو علي ، فكان أكبر من جعفر بعشر سنين ، وجعفر أكبر من علي بعشر سنين ، كما أن طالبا أكبر من عقيل بعشر سنين ، وكلهم أسلم إلا طالبا ، أسلم عقيل قبل الحديبية ، وشهد مؤتة ، وكان من أنسب قريش ، وكان قد ورث أقاربه الذين هاجروا وتركوا أموالهم وديارهم بمكة ، [ ص: 219 ] ومات في خلافة معاوية .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأما عمرو بن أمية الضمري

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فصحابي جليل أسلم بعد أحد ، وأول مشاهده بئر معونة ، وكان ساعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعثه إلى النجاشي في تزويج أم حبيبة ، وأن يأتي بمن بقي من المسلمين هناك ، وله أفعال حسنة ، وآثار محمودة ، رضي الله عنه ، توفي في خلافة معاوية . وكان لا يلحق ولا يسبق بالخيل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها كانت وفاة عمرو بن الحمق بن الكاهن الخزاعي ، أسلم قبل الفتح وهاجر ، وقيل : إنه إنما أسلم عام حجة الوداع . وقد ورد في حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له أن يمتعه الله بشبابه ; فبقي ثمانين سنة لا يرى في لحيته شعرة بيضاء ، ومع هذا كان أحد الأربعة الذين دخلوا على عثمان ، ثم صار بعد ذلك من شيعة علي ، فشهد معه الجمل وصفين ، وكان من جملة الذين قاموا مع حجر بن عدي ، فتطلبه زياد ، فهرب إلى الموصل ، فبعث معاوية إلى نائبها ، فطلبوه فوجدوه قد اختفى في غار فنهشته حية ، فمات فقطع رأسه ، فبعث به إلى معاوية ، فطيف به في الشام وغيرها ، فكان أول رأس طيف به ، ثم بعث معاوية برأسه إلى زوجته آمنة بنت الشريد - وكانت في سجنه - فألقي في حجرها ، فوضعت كفها على جبينه ولثمت فمه ، وقالت : غيبتموه عني طويلا ، ثم أهديتموه إلي قتيلا ، فأهلا بها من هدية غير قالية ولا مقلية . [ ص: 220 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأما كعب بن مالك الأنصاري السلمي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      شاعر الإسلام ، فإنه أسلم قديما ، وشهد العقبة ، ولم يشهد بدرا ، كما ثبت في " الصحيحين " في سياق توبة الله عليه ، فإنه كان أحد الثلاثة الذين تيب عليهم من تخلفهم عن غزوة تبوك ، كما ذكرنا ذلك مفصلا في " التفسير " ، وكما تقدم في غزوة تبوك ، وغلط ابن الكلبي في قوله : إنه شهد بدرا . وفي قوله : إنه توفي قبل الأربعين . فإن الواقدي - وهو أعلم منه - قال : توفي سنة خمسين . وقال الهيثم بن عدي : سنة إحدى وخمسين . رضي الله عنه .



                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأما المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود ، أبو عيسى ، ويقال : أبو عبد الله . الثقفي . وعروة بن مسعود الثقفي عم أبيه ، كان المغيرة من دهاة العرب ، وذوي آرائها ، أسلم عام الخندق بعد ما قتل ثلاثة عشر رجلا من ثقيف مرجعهم من عند المقوقس ، وأخذ أموالهم ، فغرم دياتهم عروة بن مسعود ، وشهد الحديبية ، وكان واقفا يوم الصلح على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف صلتا ، [ ص: 221 ] وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إسلام أهل الطائف هو وأبو سفيان بن حرب ، فهدما اللات ، وقد قدمنا كيفية ذلك ، وبعثه الصديق إلى البحرين ، وشهد اليمامة واليرموك ، فأصيبت عينه يومئذ ، وقيل : بل نظر إلى الشمس وهي كاسفة ، فذهب ضوء عينه . وشهد القادسية ، وولاه عمر فتوحا كثيرة ، منها همذان وميسان ، وهو الذي كان رسول سعد إلى رستم ، فكلمه بذلك الكلام البليغ ، فاستنابه عمر على البصرة فلما شهد عليه بالزنا ولم يثبت عليه ، عزله عنها ، وولاه الكوفة ، واستمر به عثمان حينا ، ثم عزله ، فبقي معزولا حتى كان أمر الحكمين ، فلحق بمعاوية ، فلما قتل علي وصالح الحسن معاوية ودخل الكوفة ، ولاه معاوية عليها ، فلم يزل أميرها حتى مات في هذه السنة على المشهور . قاله محمد بن سعد وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الخطيب : أجمع الناس على ذلك ، وذلك في رمضان منها ، عن سبعين سنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو عبيد : مات سنة تسع وأربعين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عبد البر : سنة إحدى وخمسين . وقيل : سنة ثمان وخمسين . [ ص: 222 ] وقيل : سنة ست وثلاثين . وهو غلط .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال محمد بن سعد : وكان المغيرة أصهب الشعر جدا ، أكشف ، مقلص الشفتين ، أهتم ، ضخم الهامة ، عبل الذراعين ، بعيد ما بين المنكبين ، وكان يفرق رأسه أربعة قرون .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشعبي : القضاة أربعة ; عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وأبو موسى ، والدهاة أربعة ; معاوية ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة ، وزياد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزهري : الدهاة في الفتنة خمسة ; معاوية ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، وكان معتزلا ، وقيس بن سعد بن عبادة ، وعبد الله بن بديل بن ورقاء ، وكانا مع علي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قلت : والشيعة يقولون : الأشياخ خمسة ; رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، والأضداد خمسة ; أبو بكر ، وعمر ، ومعاوية ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 223 ] وقال الشعبي : سمعت المغيرة يقول : ما غلبني أحد إلا فتى مرة ، أردت أن أتزوج امرأة فاستشرته فيها ، فقال : أيها الأمير ، لا أرى لك أن تتزوجها . فقلت له : لم ؟ فقال : إني رأيت رجلا يقبلها . ثم بلغني عنه أنه قد تزوجها ، فقلت له : ألم تزعم أنك رأيت رجلا يقبلها ؟ فقال : نعم رأيت أباها يقبلها وهي صغيرة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أيضا : سمعت قبيصة بن جابر يقول : صحبت المغيرة بن شعبة ، فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بمكر لخرج المغيرة من أبوابها كلها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن وهب سمعت مالكا يقول : كان المغيرة بن شعبة يقول : صاحب المرأة الواحدة يحيض معها ويمرض معها ، وصاحب المرأتين بين نارين تشتعلان . وكان يتزوج أربعة معا ويطلقهن معا ، وقال عبد الله بن نافع الصائغ : أحصن المغيرة ثلاثمائة امرأة . وقال غيره : ألف امرأة . وقيل : مائة امرأة . وقيل : ثمانين امرأة . فالله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأما جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية المصطلقية

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أم [ ص: 224 ] المؤمنين ، فسباها رسول صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع ; وهي غزوة بني المصطلق ، وكان أبوها ملكهم فأسلمت ، فأعتقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها ، وكانت قد وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس وكاتبها فأتت رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها فقال : أو خير من ذلك ؟ " قالت : وما هو يا رسول الله ؟ قال : " أشتريك وأعتقك وأتزوجك " فأعتقها فقال الناس : أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأعتقوا ما بأيديهم من سبي بني المصطلق ، وكانوا نحوا من مائة أهل بيت . فقالت عائشة : لا أعلم امرأة أعظم بركة على أهلها منها . وكان اسمها برة ، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية . وكانت امرأة ملاحة - أي حلوة الكلام - توفيت في هذا العام سنة خمسين ، كما ذكره ابن الجوزي وغيره عن خمس وستين سنة ، وقال الواقدي : سنة ست وخمسين . رضي الله عنها وأرضاها . والله أعلم .



                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأما صفية بنت حيي بن أخطب

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بن سعية بن ثعلبة بن عبيد بن كعب بن الخزرج بن أبي حبيب بن النضير بن النحام بن ينحوم ، أم المؤمنين [ ص: 225 ] النضرية ، فمن سلالة هارون أخي موسى ، عليهما السلام ، وكانت مع أبيها وعمها جدي بن أخطب بالمدينة ، فلما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير ساروا إلى خيبر وقتل أبوها مع بني قريظة صبرا ، كما قدمنا ذلك ، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر كانت في جملة السبي ، فوقعت في سهم دحية بن خليفة الكلبي ، فذكر لرسول الله صلى عليه وسلم جمالها وأنها بنت ملكهم ، فاصطفاها لنفسه وعوض دحية عنها ، وأسلمت فأعتقها وتزوجها ، فلما حلت بالصهباء بنى بها ، وكانت ماشطتها أم سليم ، وقد كانت تحت ابن عم لها ، يقال له : كنانة بن أبي الحقيق . فقتل في المعركة ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخدها لطمة ، فقال : " ما هذه ؟ " فقالت : إني رأيت كأن القمر أقبل من يثرب ، فسقط في حجري ، فقصصت المنام على ابن عمي ، فلطمني وقال : تتمنين أن يتزوجك ملك يثرب ؟ فهذه من لطمته . وكانت من سيدات النساء عبادة وورعا وزهادة وبرا وصدقة ، رضي الله عنها وأرضاها . قال الواقدي : توفيت سنة خمسين . وقال غيره : سنة ست وثلاثين . والأول أصح .



                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأما أم شريك الأنصارية

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ويقال : العامرية ، فهي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقيل ، قبلها . وقيل : لم يقبلها . ولم تتزوج حتى ماتت ; ترجو بذلك أن تكون من أزواجه ، وهي التي سقيت بدلو من السماء لما منعها [ ص: 226 ] المشركون الماء ، فأسلموا عند ذلك ، واسمها غزية ، وقيل : عزيلة . بنت دودان بن عمرو بن عامر بن رواحة بن منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤي ، أسلمت قديما ماتت في هذه السنة على الصحيح ، قال ابن الجوزي : ماتت سنة خمسين ، ولم أره لغيره .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية