الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة [ تقديم المعمولات على عواملها ]

                                                      تقديم المعمولات على عواملها ، نحو : { إياك نعبد وإياك نستعين } ، { وهم بأمره يعملون } . وقد صرح صاحب " المحصول " وغيره بدلالته على الحصر . قال بعضهم : ولا خلاف في إفادة هذا الحصر عند القائلين به من جهة المفهوم لا المنطوق . وذكره البيانيون أيضا . ورده ابن الحاجب في " شرح المفصل " ، والشيخ أبو حيان . وقال : الذي نص عليه أن التقديم للاهتمام والعناية . فقال : كأنهم يقدمون الذي شأنه أهم ، وهم ببيانه أعنى ، وإن كانا جميعا مهتما بهما أو بعنايتهما . ا هـ .

                                                      وهذا إنما قاله سيبويه في باب الفاعل الذي يتعداه فعله إلى مفعول . قال : وذلك قولك : ضرب زيدا عبد الله . ثم قال : وكأنهم يقدمون . . . إلى آخره . وليس هذا محل النزاع ، لأن الكلام في تقديم المعمول على العامل ، لا في تقديمه على الفاعل . وذكره في باب : " ما يكون فيه الاسم مبنيا على الفعل " . قال : وذلك قولك : زيدا ضربت ، فالاهتمام والعناية هنا في التقديم والتأخير سواء مثله في ضرب زيد عمرا ، وضرب زيدا [ ص: 191 ] عمرو ، فهذا وإن كان محل النزاع فلا حجة فيه ، لأنه إنما ذكره من الجهة التي شابه بها تقديم الفاعل على المفعول أو العكس في المثالين ، وليس فيه من هذه الجهة إلا الاهتمام ، ولا يبقى ذلك الذي اختص بها إذا تقدم على العامل وهي الحصر .

                                                      والحق أن التقديم يفيد الاهتمام ، وقد يفيد مع ذلك الاختصاص بقرائن ، وهو الغالب ، وقد اجتمع الاختصاص وعدمه في آية واحدة ، وهي قوله تعالى : { أغير الله تدعون إن كنتم صادقين . بل إياه تدعون } فإن التقديم في الأولى قطعا . للاختصاص ، وفي " إياه " قطعا للاختصاص ، والذي عليه محققو البيانيين أن ذلك غالب لا لازم ، بدليل قوله تعالى : { كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل } { أفي الله شك } إن جعلنا ما بعد الظرف مبتدأ .

                                                      وقد رد صاحب " الفلك الدائر " القاعدة بالآية الأولى . قيل : ورد ابن الحاجب في " شرح المفصل " القاعدة بقوله تعالى : { بل الله فاعبد } مع قوله : { فاعبد الله مخلصا } فدل على أن التقديم والتأخير سواء . وهذا فيه نظر ، بل ذلك يدل على عدم المساواة ، فإنه حيث أخر المعمول أتى بما ينوب عن التقديم ، وهو قوله : { مخلصا } ولو لم يذكره مع التقديم دل على إفادته الاختصاص والحصر ، ولعل ابن الحاجب أراد الآية الأخرى ، وهي : { قل الله أعبد مخلصا له ديني } فقد ذكر " مخلصا " فيهما مع اختلافهما بالتقديم والتأخير . [ ص: 192 ] وقال ابن أبي الحديد في " الفلك الدائر " : الحق أنه لا يدل على الاختصاص إلا بالقرائن ، وإلا فقد كثر في القرآن التصريح به مع عدمه كقوله تعالى : { وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم } ولا يدل على أن غير الرواسي لم يجعله في الأرض . وقوله : { إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى } ولم يكن ذلك مختصا به ، فقد كانت حواء كذلك . وقوله : { إذ نفشت فيه غنم القوم } ولا يدل على أنها ما نفشت إلا فيه ، لأن النفش : انتشار الغنم من غير راع ، سواء كان في حرث أو غيره . وقال تعالى : { وكنا لحكمهم شاهدين } فقد الظرف ، ولا يدل على أنه لم يشهد إلا حكمهم . وقال : { ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه } ولا يدل على أنه لم يصلح زوجة أحد غيره . قال : وفي الكتاب ألف آية مثل هذه تبطل الاختصاص والحصر . قال : والصحيح أن القرينة تدل على الاختصاص لا بمجرد الصيغة . ا هـ . وأنت إذا عرفت قيد العلة سهل الأمر . نعم ، له شرطان : أحدهما : أن لا يكون المعمول مقدما على الوضع ، فإنه لا يسمى مقدما حقيقة ، كأسماء الاستفهام ، والمبتدأ عند من يجعله معمولا لخبره .

                                                      والثاني : أن لا يكون التقديم لمصلحة التركيب ، مثل : { وأما ثمود فهديناهم } على قراءة النصب .

                                                      واعلم أن ظاهر كلام البيانيين أن الاختصاص ، والحصر ، والقصر بمعنى واحد ، ولهذا يجعلون من الحصر تقديم الخبر ، فهو عندهم مقيد للاختصاص والحصر . وحكى ابن الحاجب عن إمام الحرمين أنه استدل على [ ص: 193 ] أن مفهوم الصفة حجة بأنه لو لم يفد الحصر لم يفد الاختصاص به دون غيره ، لأنه بمعناه .

                                                      وخالفهم بعض المتأخرين ، وفرق بينهما بأن الاختصاص إعطاء الحكم لشيء والإعراض عما سواه ، فهو مسكوت عنه ، والحصر إعطاء الحكم له والتعرض لنفيه عما عداه ، ففي الاختصاص قضية واحدة ، وفي الحصر قضيتان . فإذا قلت : لا قائم إلا زيد ففيه إثبات القيام لزيد ونفيه عما عداه . وهل ذلك بطريق المنطوق أو المفهوم خلاف ينبني عليه ما إذا قلت بعده : وعمرو ، وهل هو نسخ أو تخصيص ؟ فإن قلنا بالمنطوق فهو نسخ . وإن قلنا بالمفهوم فتخصيص .

                                                      قال : ويدل على أن الحصر غير الاختصاص قوله تعالى : { يختص برحمته من يشاء } فإنه لا يجوز أن يقال : إنه يقصر رحمته على من يشاء ، لأنها لا تقصر ، ولا تختص بها ، لأنها لا تختص ، بل مدلول الآية أنه يرحم من يشاء وغيرهم يعرض عنه .

                                                      تنبيه

                                                      يدخل في هذا القسم تقديم الخبر ، فإن الخبر معمول للمبتدأ على الصحيح .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية