الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        331 - الحديث الثامن : عن أبي ذر رضي الله عنه : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { ليس من رجل ادعى لغير أبيه - وهو يعلمه - إلا كفر . ومن ادعى ما ليس له : فليس منا ، وليتبوأ مقعده من النار ومن دعا رجلا بالكفر ، أو قال : عدو الله ، وليس كذلك ، إلا حار عليه } .

                                        التالي السابق


                                        كذا عند مسلم وللبخاري نحوه . يدل على تحريم الانتفاء من النسب المعروف ، والاعتزاء إلى نسب غيره ، ولا شك أن ذلك كبيرة ، لما يتعلق به من المفاسد العظيمة ، وقد نبهنا على بعضها [ ص: 593 ] فيما مضى ، وشرط الرسول صلى الله عليه وسلم العلم ; لأن الأنساب قد تتراخى فيها مدد الآباء والأجداد ، ويتعذر العلم بحقيقتها ، وقد يقع اختلال في النسب في الباطن من جهة النساء ، ولا يشعر به . فشرط العلم لذلك .

                                        وقوله " إلا كفر " متروك الظاهر عند الجمهور فيحتاجون إلى تأويله ، وقد يؤول بكفر النعمة ، أو بأنه أطلق عليه " كفر " لأنه قارب الكفر ، لعظم الذنب فيه ، تسمية للشيء باسم ما قاربه ، أو يقال : بتأويله على فاعل ذلك مستحلا له .



                                        وقوله : عليه السلام " من ادعى ما ليس له " يدخل فيه الدعاوى الباطلة كلها ومنها : دعوى المال بغير حق وقد جعل الوعيد عليه بالنار

                                        ; لأنه لما قال " فليتبوأ مقعده من النار " اقتضى ذلك تعيين دخوله النار ; لأن التخيير في الأوصاف فقط يشعر بثبوت الأصل .

                                        وأقول : إن هذا الحديث يدخل تحته ما ذكره بعض الفقهاء في الدعاوى ، من نصب مسخر يدعي في بعض الصور ، حفظا لرسم الدعوى والجواب ، وهذا المسخر يدعي ما يعلم أنه ليس له ، والقاضي الذي يقيمه عالم بذلك أيضا وليس حفظ هذه القوانين من المنصوصات في الشرع ، حتى يخص بها هذا العموم ، والمقصود الأكبر في القضاء إيصال الحق إلى مستحقه ، فانخرام هذه المراسم الحكمية ، مع تحصيل مقصود القضاء ، وعدم تنصيص صاحب الشرع على وجوبها - أولى من مخالفة هذا الحديث والدخول تحت الوعيد العظيم الذي دل عليه وهذه طريقة أصحاب مالك

                                        أعني عدم التشديد في هذه المراسيم .

                                        وقوله عليه السلام " فليس منا " أخف مما مضى فيمن ادعى إلى غير أبيه ; لأنه أخف في المفسدة من الأولى ، إذا كانت الدعوى بالنسبة إلى المال ، وليس في اللفظ ما يقتضي الزيادة على الدعوى بأخذ المال المدعى به مثلا ، وقد يدخل تحت هذا اللفظ الدعاوى الباطلة في العلوم إذا ترتبت عليها مفاسد .

                                        وقوله " فليس منا " قد تأوله بعض المتقدمين في غير هذا الموضع ، بأن قال : ليس مثلنا ، فرارا من القول بكفره ، وهذا كما يقول الأب لولده - إذا أنكر منه أخلاقا أو أعمالا - : لست مني ، وكأنه من باب نفي الشيء لانتفاء ثمرته ، فإن المطلوب أن يكون الابن مساويا للأب فيما يريده من الأخلاق الجميلة فلما [ ص: 594 ] انتفت هذه الثمرة نفيت البنوة مبالغة .



                                        وأما من وصف غيره بالكفر فقد رتب عليه الرسول صلى الله عليه وسلم قوله " حار عليه " بالحاء المهملة : أي رجع قال الله - تعالى - : { إنه ظن أن لن يحور } أي يرجع حيا ، وهذا وعيد عظيم لمن أكفر أحدا من المسلمين ، وليس كذلك ، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق كثير من المتكلمين ، ومن المنسوبين إلى السنة وأهل الحديث ، لما اختلفوا في العقائد فغلظوا على مخالفيهم ، وحكموا بكفرهم ، وخرق حجاب الهيبة في ذلك جماعة من الحشوية ، وهذا الوعيد لاحق بهم إذا لم يكن خصومهم كذلك .

                                        وقد اختلف الناس في التكفير وسببه ، حتى صنف فيه مفردا ، والذي يرجع إليه النظر في هذا : أن مآل المذهب : هل هو مذهب أو لا ؟ فمن أكفر المبتدعة قال : إن مآل المذهب مذهب فيقول : المجسمة كفار ; لأنهم عبدوا جسما ، وهو غير الله تعالى ، فهم عابدون لغير الله ، ومن عبد غير الله كفر ، ويقول : المعتزلة كفار ; لأنهم - وإن اعترفوا بأحكام الصفات - فقد أنكروا الصفات ويلزم من إنكار الصفات إنكار أحكامها ، ومن أنكر أحكامها فهو كافر . وكذلك المعتزلة تنسب الكفر إلى غيرها بطريق المآل .

                                        والحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة ، إلا بإنكار متواتر من الشريعة عن صاحبها ، فإنه حينئذ يكون مكذبا للشرع ، وليس مخالفة القواطع مأخذا للتكفير وإنما مأخذه مخالفة القواعد السمعية القطعية طريقا ودلالة .

                                        وعبر بعض أصحاب الأصول عن هذا بما معناه : إن من أنكر طريق إثبات الشرع لم يكفر ، كمن أنكر الإجماع ، ومن أنكر الشرع بعد الاعتراف بطريقه كفر ; لأنه مكذب . وقد نقل عن بعض المتكلمين أنه قال : لا أكفر إلا من كفرني ، وربما خفي سبب هذا القول على بعض الناس ، وحمله على غير محمله الصحيح ، والذي ينبغي أن يحمل عليه : أنه قد لمح هذا الحديث الذي يقتضي أن من دعا رجلا بالكفر - وليس كذلك - رجع عليه الكفر ، وكذلك قال عليه السلام { من قال لأخيه : كافر : فقد باء بها أحدهما } وكأن هذا المتكلم يقول : الحديث [ ص: 595 ] دل على أنه يحصل الكفر لأحد الشخصين : إما المكفر ، أو المكفر فإذا أكفرني بعض الناس فالكفر واقع بأحدنا ، وأنا قاطع بأني لست بكافر فالكفر راجع إليه .




                                        الخدمات العلمية