الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 35 ] باب

ذكر البيان عن إعجام الحروف ، ونقطها بالسواد

حدثنا أبو الفتح شيخنا ، قال : نا أحمد بن محمد ، قال : نا أحمد بن عثمان ، قال : نا الفضل بن شاذان ، قال : نا محمد بن عيسى ، قال : نا إبراهيم بن موسى ، قال : نا الوليد بن مسلم ، قال : نا الأوزاعي ، قال : سمعت يحيى بن أبي كثير يقول : كان القرآن مجردا في المصاحف ، فأول ما أحدثوا فيه النقط على الياء والتاء ، وقالوا : لا بأس به ، هو نور له .

قال أبو عمرو : النقط عند العرب إعجام الحروف في سمتها . وقد روي عن هشام الكلبي أنه قال : أسلم بن خدرة أول من وضع الإعجام والنقط .

وروي عن الخليل بن أحمد أنه قال : الألف ليس عليها شيء من النقط ؛ لأنها لا تلابسها صورة أخرى . والباء تحتها واحدة . والتاء فوقها اثنتان . والثاء ثلاث . والجيم تحتها واحدة . والخاء فوقها واحدة . والذال فوقها واحدة . والشين فوقها ثلاث . والضاد فوقها واحدة . والفاء إذا وصلت فوقها واحدة ، وإذا انفصلت لم تنقط ؛ لأنها لا يلابسها شيء من الصور . والقاف إذا وصلت فتحتها واحدة ، وقد نقطها ناس من فوقها اثنتين ، فإذا فصلت لم تنقط ؛ لأن [ ص: 36 ] صورتها أعظم من صورة الواو ، فاستغنوا بعظم صورتها عن النقط . والكاف لا تنقط ؛ لأنها أعظم من الدال والذال . واللام لا تنقط ؛ لأنها لا يشبهها شيء من الحروف . والميم لا تنقط أيضا ؛ لأنها لا تشبه شيئا من الحروف ، وقصتها قصة اللام . والنون إذا وصلتها فوقها واحدة ؛ لأنها تلتبس بالباء والتاء والثاء ، فإذا فصلت لم تنقط ، استغنوا بعظم صورتها ؛ لأن صورتها أعظم من الراء والزاي . والواو لا تنقط ؛ لأنها أصغر من القاف ، فلم تشتبه بشيء من الحروف . والهاء لا تنقط ؛ لأنها لا تشبه شيئا من الحروف ، وقصتها قصة الواو . ولام ألف حرفان قرنا ، فليس واحد منهما ينقط . والياء إذا وصلت نقطت تحتها اثنتين ؛ لئلا تلتبس بما مضى ، فإذا فصلت لم تنقط .

وقال غير الخليل : حروف المعجم ثمانية وعشرون حرفا مختلفة منفردة في التهجي ، وهي سواكن . وقد دخل فيها لام ألف موصولين ؛ لانفرادهما في الصورة . وهي أربعة أصناف : صنف منها ستة أحرف متباينة ، لا تحتاج إلى الفصل بينها وبين غيرها بشيء من النقط : ( ا ك ل م و هـ ) . وصنف منها سبعة أحرف متلابسة مخلاة : ( ح د ر س ص ط ع ) . وصنف منها أحد عشر حرفا متلابسة ، يفصل بينها وبين ما قبلها من المتلابسين بالنقط : ( ب ت ث ج خ ذ ز ش ض ظ غ ) . وصنف منها أربعة أحرف تخلى إذا لم يوصل بها شيء ، وتنقط إذا وصل بها غيرها : ( ف ق ن ي ) . فجميع ما ينقط منها لالتباسها بغيرها خمسة عشر حرفا ؛ منها ثمانية أحرف ، كل حرف منها بنقطة واحدة : ( خ ذ ز ض ظ غ ف ن ) . واثنان بنقطتين من فوقهما : ( ت [ ص: 37 ] ق ) . واثنان بثلاث نقط من فوقهما : ( ث ش ) . واثنان بواحدة من تحتهما : ( ب ج ) . وحرف واحد بنقطتين من تحته : ( ي ) .

قال أبو عمرو : أهل المشرق ينقطون الفاء بواحدة من فوقها ، والقاف باثنتين من فوقها . وأهل المغرب ينقطون الفاء بواحدة من تحتها ، والقاف بواحدة من فوقها ؛ وكلهم أراد الفرق بينهما بذلك .

ورأيت بعض العلماء قد علل النقط ، فقال : اعلم أن الباء ، والتاء ، والثاء ، والنون ، والياء خمسة أحرف متشابهة الصور في الكتابة ، فلأجل ذلك احتيج أن يفرق بالنقط المختلف بينها ، فواخوا بين الباء والنون ، وبين التاء والياء ، فنقطوا الباء واحدة من تحت ، والنون واحدة من فوق ، ونقطوا التاء اثنتين من فوق ، والياء اثنتين من تحت ، وبقيت الثاء منفردة لا أخت لها ، فنقطوها ثلاثا من فوق ؛ إذ خلت من أخت ، ولم تخل من شبه .

ثم جاؤوا إلى الجيم والحاء والخاء ، وهن ثلاثة أحرف متشابهة الصور ، ليس في حروف المعجم ما يشبههن ؛ فابتدؤوا بالأولى وهي الجيم ، فنقطوها بواحدة من تحت ، واختاروا أن يجعلوا النقطة من تحت ؛ لأن الجيم مكسورة . وأخلوا الحاء من النقط ؛ فرقا بينها وبين الجيم . وأما الخاء فاختاروا لها النقط من فوق ؛ لأن اللفظ بالخاء مفتوح .

ثم جاؤوا إلى الدال والذال ، وهما حرفان متشابهان ؛ فأخلوا الدال من النقط ؛ فرقا بينها وبين أختها ، ولأن ما قبلها منقوط . ونقطوا الذال واحدة من فوق ؛ لأن اللفظ بها مفتوح . [ ص: 38 ] ثم فعلوا بالراء والزاي ، كما فعلوا في الدال والذال .

ثم جاؤوا إلى السين والشين ، وهما حرفان مشتبهان ؛ فأخلوا السين - وهو الحرف الأول - من النقط ؛ فرقا بينها وبين أختها ، ونقطوا الشين بثلاث من فوق ؛ لأنه حرف واحد ، صورته صورة ثلاثة أحرف . واختاروا النقط لها من فوق ، ولفظها مكسور ؛ لأنها من بين الحروف المزدوجة كثيرة النقط ، مخالفة في ذلك سائر المنقوط من المزدوج والمنفرد ، إلا الثاء فإن علتها مخالفة لعلة الشين .

ثم جاؤوا إلى الصاد والضاد ، ففعلوا فيهما كما فعلوا في الدال والذال ؛ إذ العلة فيهما وفي الدال والذال واحدة .

وفعلوا في الطاء والظاء ، والعين والغين ، كفعلهم في الدال والذال أيضا ، والعلة في الكل علة واحدة .

ثم جاؤوا إلى الفاء والقاف ، وهما حرفان ، في الانفراد تختلف صورتهما ، وفي أول الكلام ووسطه يشتبهان . فإذا وقع أحدهما في آخر كلمة ، متصلا بما قبله ، عاد إلى صورته في الانفراد . فلما اختلفت صورتهما في موضع ، واتفقت في موضع ؛ اختاروا لهما جميعا النقط ، وخولف بين نقطهما ليفرق به بينهما ، فنقطوا الفاء واحدة من فوق ، ونقطوا القاف اثنتين من فوق ، وجعلوا نقط الجميع من فوق ؛ لأن مخرج لفظهما مفتوح .

ثم جاؤوا إلى الكاف ، فوجدوا صورتها مفردة ، لا تشتبه بصورة حرف من [ ص: 39 ] حروف المعجم ، فأخلوه من النقط ؛ لانفراده بصورته ، لأنه يتصل بأوائل الكلام وأوساطه وأواخره ، لا ينفرد بذاته إلا في أواخر الكلام ، ولا يقع في أوائل الكلام كوقوع الألف ، وهو في انفراده بشكله مثله ، فأجروه في الإخلاء من النقط مجراه .

ثم جاؤوا إلى اللام ، وهو حرف منفرد الشكل ، علته علة الكاف ، فأجروه في الإخلاء من النقط مجرى الألف والكاف .

ثم جاؤوا إلى الميم ، وهو حرف منفرد ، لا شبيه له ، علته علة الكاف واللام ، فأخلوه من النقط ، وأجروه مجراهما .

ثم جاؤوا إلى الواو ، وهو حرف يشبه القاف في الانفراد ، وفي أواخر الكلام ، ويخالف شبهه في أول الكلام ووسطه ، فكانت موافقته للقاف في المواضع التي تخالف القاف فيها الفاء لا غير ، فأخلوه من النقط ؛ إذ كان شبهه في الانفراد وفي أواخر الكلام - وهو القاف - منقوطا .

ثم جاؤوا إلى الهاء ، وهو حرف منفرد ، لا شبه له في حروف المعجم ، له في الكتابة صورتان مختلفتان ، في ابتداء الكلام وفي وسطه مشقوق ، وفي آخره مدور غير مشقوق ، فأخلوه من النقط لخلو شبهه ، واختلاف صورته ، وجعلوا الخط الذي يشق به إذا وقع في أوائل الكلام ووسطه عوضا من النقط عند اختلاف الصورة .

قال : ولو احتج محتج في هذا الحرف ، فقال : قد كان يجب أن ينقط هذا ؛ لأن صورته تختلف في الكتابة ، وما اختلف من الحروف المفردة في [ ص: 40 ] موضع ، واتفق في موضع ؛ احتاج إلى النقط ؛ ليستدل به . قيل له : قد قلنا : إن الباء والتاء نقطا بواحدة واثنتين لعلة شبههما بالياء والنون ، ونقطت الثاء بثلاث نقط ؛ لأن لها أربعة أمثلة منقوطة من جنسين ، أكثره بنقطتين ، فاختير لها ثلاث نقط ، لهذه العلة . وليس في حروف المعجم حرف صورته صورة حرف واحد نقط بثلاث نقط غيره . ونقطت الشين بثلاث ؛ لعلة شبهها بالسين . واختير لها ثلاث نقط ؛ لأن صورتها صورة ثلاثة أحرف . وسائر الحروف المزدوجة والمنفردة أكثر نقطها اثنتان . وهذا الحرف - يعني الهاء - صورته صورة حرف واحد ، فبطل أن ينقط بواحدة لانفراده ، وبطل أن ينقط باثنتين لعلة شبهه ، وبطل أن ينقط بثلاث نقط فما فوقها لعلة صورته ؛ فاحتاج أن يخلى من النقط .

قال أبو عمرو : وكل هذا لطيف حسن .

فإن قال قائل : لم نقطت الباء بواحدة من تحتها ؟ هلا نقطت من فوقها ، ونقطت النون من تحتها مكان ذلك ، فرقا بينهما ؟ قيل له : إنما نقطت بواحدة لما تقدم من قولنا : إنها أول الصور الثلاث ، وإن التاء ثانيتها ، والثاء ثالثتها ، ولذلك نقطت التاء اثنتين ، والثاء ثلاثا . وإنما نقطت من تحتها ؛ للزوم الكسر لها ، إذا كانت زائدة جارة ، كالتي في أول التسمية . وإنما لزمها الكسر اتباعا لعملها ، إذ كانت لا تعمل إلا جرا ، فجعل نقطها [ ص: 41 ] موافقا لحركتها ، وألزما مكانا واحدا لذلك . ولهذه العلة نقط أهل المغرب الفاء من تحتها ، إذ كان الكسر والياء أيضا قد يلحقان بها ، إذا كانت جارة ، وحمل نقطها على ذلك في كل مكان .

فإن قيل : لم نقطوا الياء باثنتين من تحتها ؟ قيل : لتميز بذلك من الباء التي تنقط واحدة من تحتها ، ومن التاء التي تنقط اثنتين من فوقها ، ولمؤاخاتها في المخرج الجيم التي تنقط بواحدة من تحتها ، لكون لفظها مكسورا . وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية