الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين

ذكرنا في طالعة سورة البقرة أن الحروف المقطعة في أوائل السور أعقبت بذكر القرآن أو الوحي أو في معنى ذلك ، وذلك يرجح أن المقصود من هذه الحروف التهجي ، إبلاغا في التحدي للعرب بالعجز عن الإتيان بمثل القرآن وتخفيفا للعبء عن النبيء - صلى الله عليه وسلم ، فتلك جملة مستقلة وهي هنا معدودة آية ولم تعد في بعض السور .

فقوله : كتاب مبتدأ ووقع الابتداء بالنكرة أما لأنها أريد [ ص: 11 ] بها النوع لا الفرد فلم يكن في الحكم عليها إبهام وذلك كقولهم : رجل جاءني ، أي لا امرأة ، وتمرة خير من جرادة ، وفائدة إرادة النوع الرد على المشركين إنكارهم أن يكون القرآن من عند الله ، واستبعادهم ذلك ، فذكرهم الله بأنه كتاب من نوع الكتب المنزلة على الأنبياء ، فكما نزلت صحف إبراهيم وكتاب موسى كذلك نزل هذا القرآن ، فيكون تنكير النوعية لدفع الاستبعاد ، ونظيره قوله تعالى : قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فالتنكير للنوعية .

وأما لأن التنكير أريد به التعظيم كقولهم "

شر أهر ذا ناب

" أي شر عظيم . وقول عويف القوافي :

خبر أتاني عن عيينة موجع     كادت عليه تصدع الأكباد

أي هو كتاب عظيم تنويها بشأنه فصار التنكير في معنى التوصيف .

وإما لأنه أريد بالتنكير التعجيب من شأن هذا الكتاب في جميع ما حف به من البلاغة والفصاحة والإعجاز والإرشاد ، وكونه نازلا على رجل أمي .

وقوله : أنزل إليك يجوز أن يكون صفة لـ " كتاب " فيكون مسوغا ثانيا للابتداء بالنكرة ويجوز أن يكون هو الخبر ، فيجوز أن يكون المقصود من الأخبار تذكير المنكرين والمكابرين ، لأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين يعلمون أنه أنزل من عند الله ، فلا يحتاجون إلى الإخبار به ، فالخبر مستعمل في التعريض بتغليط المشركين والمكابرين والقاصدين إغاظة الرسول - عليه الصلاة والسلام - بالإعراض ، ويجوز أن يكون المقصود من الخبر الامتنان والتذكير بالنعمة ، فيكون الخبر مستعملا في الامتنان على طريقة المجاز المرسل المركب .

ويجوز أن يجعل الخبر هو قوله : أنزل إليك مع ما انضم إليه من [ ص: 12 ] التفريع والتعليل ، أي هو كتاب أنزل إليك فكن منشرح الصدر به ، فإنه أنزل إليك لتنذر به الكافرين وتذكر المؤمنين ، والمقصود : تسكين نفس النبيء - صلى الله عليه وسلم ، وإغاظة الكافرين ، وتأنيس المؤمنين ، أي : هو كتاب أنزل لفائدة ، وقد حصلت الفائدة فلا يكن في صدرك حرج إن كذبوا . وبهذه الاعتبارات وبعدم منافاة بعضها لبعض يحمل الكلام على إرادة جميعها وذلك من مطالع السور العجيبة البيان .

ومن المفسرين من قدروا مبتدأ محذوفا ، وجعلوا " كتاب " خبرا عنه ، أي هذا كتاب ، أي أن المشار إليه القرآن الحاضر في الذهن ، أو المشار إليه السورة أطلق عليها كتاب ، ومنهم من جعل كتاب خبرا عن كلمة المص وكل ذلك بمعزل عن متانة المعنى .

وصيغ فعل : " أنزل " بصيغة النائب عن الفاعل اختصارا ، للعلم بفاعل الإنزال ، لأن الذي ينزل الكتب على الرسل هو الله تعالى ، ولما في مادة الإنزال من الإشعار بأنه من الوحي لملائكة العوالم السماوية .

والفاء في قوله : فلا يكن في صدرك اعتراضية إذ الجملة معترضة بين فعل أنزل ومتعلقه وهو لتنذر به ، فإن الاعتراض يكون مقترنا بالفاء كما يكون مقترنا بالواو كما في قوله تعالى : هذا فليذوقوه حميم وغساق وقوله : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى . وقول الشاعر وهو من الشواهد : اعلم فعلم المرء ينفعه     أن سوف يأتي كل ما قدرا
وقول بشار بن برد :

كقائلة إن الحمار فنحه     عن القت أهل السمسم المتهذب

وليست الفاء زائدة للاعتراض ولكنها ترجع إلى معنى التسبب ، وإنما [ ص: 13 ] الاعتراض حصل بتقديم جملتها بين شيئين متصلين مبادرة من المتكلم بإفادته لأهميته ، وأصل ترتيب الكلام هنا : كتاب أنزل إليك لتنذر به وذكرى للمؤمنين فلا يكن في صدرك حرج منه ، وقد ذكر في مغني اللبيب دخول الفاء في الجملة المعترضة ولم يذكر ذلك في معاني الفاء فتوهم متوهمون أن الفاء لا تقع في الجملة المعترضة .

والمعنى أن الله أنزله إليك لا ليكون في صدرك حرج ، بل لينشرح صدرك به . ولذلك جاء في نفي الحرج بصيغة نهي الحرج عن أن يحصل في صدر النبيء - صلى الله عليه وسلم - ليكون النهي نهي تكوين ، بمعنى تكوين النفي ، عكس أمر التكوين الذي هو بمعنى تكوين الإثبات . مثل تكوين نفي الحرج عن صدره بحالة نهي العاقل المدرك للخطاب ، عن الحصول في المكان . وجعل صاحب الكشاف النهي متوجها في الحقيقة إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم ، أي نهيه عن المبالاة بالمكذبين بالقرآن ، والغم من صنيعهم ، وجعل النهي في ظاهر اللفظ متوجها إلى الحرج للمبالغة في التكليف ، باقتلاعه من أصله ، على طريقة قول العرب : " لا أرينك هاهنا " أي لا تحضر فأراك ، وقولهم " لا أعرفنك تفعل كذا " أي لا تفعله فأعرفك به ، نهيا بطريق الكناية . وأيا ما كان فالتفريع مناسب لمعاني التنكير المفروض في قوله " كتاب " ، أي فلا يكن في صدرك حرج منه من جهة ما جره نزوله إليك من تكذيب قومك وإنكارهم نزوله ، فلا يكن في صدرك حرج منه من عظم أمره وجلالته ، ولا يكن في صدرك حرج منه من عظم أمره وجلالته ، ولا يكن في صدرك حرج منه فإنه سبب شرح صدرك بمعانيه وبلاغته .

و من ابتدائية ، أي حرج ينشأ ويسري من جراء المذكور ، أي من تكذيب المكذبين به ، فلما كان التكذيب به من جملة شئونه ، وهو سبب الحرج ، صح أن يجعل الحرج مسببا عن الكتاب بواسطة . والمعنى على تقدير مضاف أي حرج من إنكاره أي إنكار إنزاله من الله .

والحرج حقيقته المكان الضيق من الغابات الكثيرة الأشجار ، بحيث [ ص: 14 ] يعسر السلوك فيه ، ويستعار لحالة النفس عند الحزن والغضب والأسف ، لأنهم تخيلوا للغاضب والآسف ضيقا في صدره لما وجدوه يعسر منه التنفس من انقباض أعصاب مجاري النفس ، وفي معنى الآية قوله تعالى : فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير .

و " لتنذر " متعلق بـ " أنزل " على معنى المفعول لأجله ، واقترانه بلام التعليل دون الإتيان بمصدر منصوب لاختلاف فاعل العامل وفاعل الإنذار . وجعل الإنذار به مقدما في التعليل لأنه الغرض الأهم لإبطال ما عليه المشركون من الباطل وما يخلفونه في الناس من العوائد الباطلة التي تعانى إزالتها من الناس بعد إسلامهم .

" وذكرى " يجوز أن يكون معطوفا على لتنذر به ، باعتبار انسباكه بمصدر ، فيكون في محل جر ، ويجوز أن يكون العطف عطف جملة ، ويكون " ذكرى " مصدرا بدلا من فعله ، والتقدير : وذكر ذكرى المؤمنين ، فيكون في محل نصب فيكون اعتراضا .

وحذف متعلق " تنذر " ، وصرح بمتعلق ذكرى لظهور تقدير المحذوف من ذكر مقابله المذكور ، والتقدير : لتنذر به الكافرين ، وصرح بمتعلق الذكرى دون متعلق " تنذر " تنويها بشأن المؤمنين وتعريضا بتحقير الكافرين تجاه ذكر المؤمنين .

التالي السابق


الخدمات العلمية