الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون

بيان لجملة : لتنذر به بقرينة تذييلها بقوله : قليلا ما تذكرون . فالخطاب موجه للمشركين ويندرج فيه المسلمون بالأولى ، فبعد [ ص: 15 ] أن نوه الله بالكتاب المنزل إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم ، وبين أن حكمة إنزاله للإنذار والذكرى ، أمر الناس أن يتبعوا ما أنزل إليهم ، كل يتبع ما هو به أعلق ، والمشركون أنزل إليهم الزجر عن الشرك والاحتجاج على ضلالهم ، والمسلمون أنزل إليهم الأمر والنهي والتكليف . فكل مأمور باتباع ما أنزل إليه ، والمقصود الأجدر هم المشركون تعريضا بأنهم كفروا بنعمة ربهم ، فوصف الرب هنا دون اسم الجلالة : للتذكير بوجوب اتباع أمره ، لأن وصف الربوبية يقتضي الامتثال لأوامره ، ونهاهم عن اتباع أوليائهم الذين جعلوهم آلهة دونه ، والموجه إليهم النهي هم المشركون بقرينة قوله : قليلا ما تذكرون .

والاتباع حقيقته المشي وراء ماش ، فمعناه يقتضي ذاتين : تابعا ومتبوعا ، يقال : اتبع وتبع ، ويستعار للعمل بأمر الآمر نحو : ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري وهو استعارة تمثيلية مبنية على تشبيه حالتين ، ويستعار للاقتداء بسيرة أو قول نحو : ولا تتبعوا خطوات الشيطان وهو استعارة مصرحة تنبني على تشبيه المحسوس بالمعقول مثل قوله تعالى : إن أتبع إلا ما يوحى إلي ، ومنه قوله هنا : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم .

والمراد بما أنزل هو الكتاب المذكور بقوله : كتاب أنزل إليك .

وقوله : ولا تتبعوا من دونه أولياء تصريح بما تضمنه : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم لأن فيما أنزل إليهم من ربهم أن الله إله واحد لا شريك له ، وأنه الولي ، وأن الذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم ، أي مجازيهم لا يخفى عليه فعلهم ، وغير ذلك من آي القرآن ; والمقصود من هذا النهي تأكيد مقتضى الأمر باتباع ما أنزل إليهم اهتماما بهذا الجانب مما أنزل إليهم ، وتسجيلا على المشركين ، وقطعا لمعاذيرهم أن يقولوا إننا اتبعنا ما أنزل إلينا ، وما نرى أولياءنا إلا شفعاء لنا عند الله فما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ، فإنهم كانوا يموهون [ ص: 16 ] بمثل ذلك ، ألا ترى أنهم كانوا يقولون في تلبيتهم : " لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك " فموقع قوله : اتبعوا ما أنزل إليكم موقع الفصل الجامع من الحد ، وموقع " ولا تتبعوا " موقع الفصل المانع في الحد .

والأولياء جمع ولي ، وهو الموالي ، أي الملازم والمعاون ، فيطلق على الناصر ، والحليف ، والصاحب الصادق المودة ، واستعير هنا للمعبود وللإله : لأن العبادة أقوى أحوال الموالاة ، قال تعالى : أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وقد تقدم عند قوله تعالى : قل أغير الله أتخذ وليا في سورة الأنعام ، وهذا هو المراد هنا . والاتباع في قوله ولا تتبعوا من دونه أولياء يجوز أن يكون مستعملا في المعنى الذي استعمل فيه الاتباع في قوله : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم وذلك على تقدير : ولا تتبعوا ما يأتيكم من أولياء دون الله ، فإن المشركين ينسبون ما هم عليه من الديانة الضالة إلى الآلهة الباطلة ، أو إلى سدنة الآلهة وكهانها ، كما تقدم عند قوله تعالى : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ، وقوله : فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا كما في سورة الأنعام ، وعلى تلك الاعتبارات يجري التقدير في قوله : " أولياء " أي لا تمتثلوا للأولياء أو أمرهم أو لدعاة الأولياء وسدنتهم .

ويجوز أن يكون الاتباع مستعارا للطلب والاتخاذ ، أي لا تتخذوا أولياء غيره نحو قولهم : هو يتبع زلة فلان . وفي الحديث : يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر أي يتطلبها .

و من في قوله : " من دونه " ابتدائية ، و دون ظرف للمكان المجاوز المنفصل ، وقد جر بمن الجارة للظروف ، وهو استعارة للترك والإعراض . [ ص: 17 ] والمجرور في موضع الحال من فاعل تتخذوا ، أي لا تتبعوا أولياء متخذينها دونه ، فإن المشركين وإن كانوا قد اعترفوا لله بالإلهية ، واتبعوا أمره بزعمهم في كثير من أعمالهم : كالحج ومناسكه ، والحلف باسمه ، فهم أيضا اتبعوا الأصنام بعبادتها أو نسبة الدين إليها . فكل عمل تقربوا به إلى الأصنام ، وكل عمل عملوه امتثالا لأمر ينسب إلى الأصنام ، فهم عند عمله يكونون متبعين اتباعا فيه إعراض عن الله وترك للتقرب إليه ، فيكون اتباعا من دون الله ، فيدخل في النهي ، وبهذا النهي قد سدت عليهم أبواب الشرك وتأويلاته كقولهم : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى فقد جاء قوله : ولا تتبعوا من دونه أولياء في أعلى درجة من الإيجاز واستيعاب المقصود .

وأفاد مجموع قوله : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء مفاد صيغة قصر ، كأنه قال : لا تتبعوا إلا ما أمر به ربكم ، أي دون ما يأمركم به أولياؤكم ، فعدل عن طريق القصر لتكون جملة : ولا تتبعوا من دونه أولياء مستقلة صريحة الدلالة اهتماما بمضمونها على نحو قول السموءل أو الحارثي :

تسيل على حد الظبات نفوسنا وليست على غير الظبات تسيل

وجملة : قليلا ما تذكرون هي في موضع الحال من " لا تتبعوا " . وهي حال سببية كاشفة لصاحبها ، وليست مقيدة للنهي : لظهور أن المتبعين أولياء من دون الله ليسوا إلا قليلي التذكر . ويجوز جعل الجملة اعتراضا تذييليا . ولفظ " قليلا " يجوز أن يحمل على حقيقته لأنهم قد يتذكرون ثم يعرضون عن التذكر في أكثر أحوالهم فهم في غفلة معرضون ، ويجوز أن يكون " قليلا " مستعارا لمعنى النفي والعدم على وجه التلميح كقوله تعالى : فقليلا ما يؤمنون فإن الإيمان لا يوصف بالقلة والكثرة .

والتذكر مصدر الذكر - بضم الذال - وهو حضور الصورة في الذهن .

[ ص: 18 ] وقليل مستعمل في العدم على طريقة التهكم بالمضيع للأمر النافع يقال له : إنك قليل الإتيان بالأمر النافع ، تنبيها له على خطئه ، وإنه إن كان في ذلك تفريط فلا ينبغي أن يتجاوز حد التقليل دون التضييع له كله .

و ما مصدرية والتقدير : قليلا تذكركم ، ويجوز أن يكون " قليلا " صفة مصدر محذوف دل عليه تذكرون و " ما " مزيدة لتوكيد القلة ، أي نوع قلة ضعيف ، نحو قوله تعالى : أن يضرب مثلا ما . وتقدم القول في نظيره عند قوله تعالى : فقليلا ما يؤمنون في سورة البقرة . والمعنى : لو تذكرتم لما اتبعتم من دونه أولياء ولما احتجتم إلى النهي عن أن تتبعوا من دونه أولياء ، وهذا نداء على إضاعتهم النظر والاستدلال في صفات الله وفي نقائص أوليائهم المزعومين .

وقرأ الجمهور : ما تذكرون بفوقية واحدة وتشديد الذال على أن أصله تتذكرون بتاءين فوقيتين قلبت ثانيتهما ذالا لتقارب مخرجيهما ليتأتى تخفيفه بالإدغام .

وقرأه حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وخلف بتخفيف الذال على حذف إحدى التاءين اختصارا . وقرأه ابن عامر : يتذكرون بتحتية في أوله ثم فوقية ، والضمير عائد إلى المشركين على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، أعرض عنهم ووجه الكلام على غيرهم من السامعين : إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية