الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين

[ ص: 19 ] عطف على جملة : " ولا تتبعوا " وهذا الخبر مستعمل في التهديد للمشركين الذين وجه إليهم التعريض في الآية الأولى والذين قصدوا من العموم . وقد ثلث هنا بتمحيض التوجيه إليهم .

وإنما خص بالذكر إهلاك القرى ، دون ذكر الأمم كما في قوله فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية ، لأن المواجهين بالتعريض هم أهل مكة وهي أم القرى ، فناسب أن يكون تهديد أهلها بما أصاب القرى وأهلها ولأن تعليق فعل " أهلكنا " . بالقرية دون أهلها لقصد الإحاطة والشمول ، فهو مغن عن أدوات الشمول ، فالسامع يعلم أن المراد من القرية أهلها لأن العبرة والموعظة إنما هي بما حصل لأهل القرية ، ونظيرها قوله تعالى : واسأل القرية التي كنا فيها ونظيرهما معا قوله : ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون ، فكل هذا من الإيجاز البديع ، والمعنى على تقدير المضاف ، وهو تقدير معنى .

وأجري الضميران في قوله : أهلكناها فجاءها بأسنا على الإفراد والتأنيث مراعاة للفظ قرية ، ليحصل التماثل بين لفظ المعاد ولفظ ضميره في كلام متصل القرب ، ثم أجريت ضمائر القرية على صيغة الجمع في الجملة المفرعة عن الأولى في قوله : أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم . . . إلخ لحصول الفصل بين الضمير ولفظ معاده بجملة فيها ضمير معاده غير لفظ القرية ، وهو بأسنا بياتا لأن بياتا متحمل لضمير البأس ، أي مبيتا لهم ، وانتقل منه إلى ضمير القرية باعتبار أهلها فقال : أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم . و " كم " اسم حال على عدد كثير وهو هنا خبر عن الكثرة وتقدم في أول سورة الأنعام .

والإهلاك : الإفناء والاستئصال . وفعل أهلكناها يجوز أن يكون مستعملا في معنى الإرادة بحصول مدلوله ويجوز أن يكون مستعملا في ظاهر معناه .

[ ص: 20 ] والفاء في قوله : " فجاءها بأسنا " عاطفة جملة : " فجاءها بأسنا " على جملة : أهلكناها ، وأصل العاطفة أن تفيد ترتيب حصول معطوفها بعد حصول المعطوف عليه ، ولما كان مجيء البأس حاصلا مع حصول الإهلاك أو قبله ، إذ هو سبب الإهلاك ، عسر على جمع من المفسرين معنى موقع الفاء هنا ، حتى قال الفراء إن الفاء لا تفيد الترتيب مطلقا ، وعنه أيضا إذا كان معنى الفعلين واحدا أو كالواحد قدمت أيهما شئت مثل شتمني فأساء وأساء فشتمني . وعن بعضهم أن الكلام جرى على طريقة القلب ، والأصل : جاءها بأسنا فأهلكناها ، وهو قلب خلي عن النكتة فهو مردود ، والذي فسر به الجمهور : أن فعل أهلكناها مستعمل في معنى إرادة الفعل كقوله تعالى : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم وقوله إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية أي فإذا أردت القراءة ، وإذا أردتم القيام إلى الصلاة ، واستعمال الفعل في معنى إرادة وقوع معناه من المجاز المرسل عند السكاكي قال : ومن أمثلة المجاز قوله تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله ، استعمل قرأت مكان أردت القراءة لكون القراءة مسببة عن إرادتها استعمالا مجازيا بقرينة الفاء في فاستعذ بالله ، وقوله وكم من قرية أهلكناها في موضع أردنا إهلاكها بقرينة فجاءها بأسنا والبأس الإهلاك .

والتعبير عن إرادة الفعل بذكر الصيغة التي تدل على وقوع الفعل يكون لإفادة عزم الفاعل على الفعل ، عزما لا يتأخر عنه العمل ، بحيث يستعار اللفظ الدال على حصول المراد للإرادة لتشابههما ، وإما الإتيان بحرف التعقيب بعد ذلك فللدلالة على عدم التريث ، فدل الكلام كله على أنه تعالى يريد فيخلق أسباب الفعل المراد فيحصل الفعل ، كل ذلك يحصل كالأشياء المتقارنة ، وقد استفيد هذا التقارب بالتعبير عن الإرادة بصيغة تقتضي وقوع الفعل ، والتعبير عن حصول السبب بحرف التعقيب ، والغرض من ذلك تهديد السامعين المعاندين وتحذيرهم من أن يحل غضب [ ص: 21 ] الله عليهم فيريد إهلاكهم ، فضيق عليهم المهلة لئلا يتباطئوا في تدارك أمرهم والتعجيل بالتوبة . والذي عليه المحققون أن الترتيب في فاء العطف قد يكون الترتيب الذكري ، أي ترتيب الإخبار بشيء عن الإخبار بالمعطوف عليه . ففي الآية أخبر عن كيفية إهلاكهم بعد الخبر بالإهلاك ، وهذا الترتيب هو في الغالب تفصيل بعد إجمال ، فيكون من عطف المفصل على المجمل ، وبذلك سماه ابن مالك في التسهيل ، ومثل له بقوله تعالى : إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا الآية . ومنه قوله تعالى : ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين أو قوله فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه لأن الإزلال عن الجنة فصل بأنه الإخراج ، وقوله تعالى : كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر وهذا من أساليب الإطناب وقد يغفل عنه .

والبأس ما يحصل به الألم ، وأكثر إطلاقه على شدة الحرب ولذلك سميت الحرب البأساء ، وقد مضى عند قوله تعالى : والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس في سورة البقرة ، والمراد به هنا عذاب الدنيا .

واستعير المجيء لحدوث الشيء وحصوله بعد أن لم يكن تشبيها لحلول الشيء بوصول القادم من مكان إلى مكان بتنقل خطواته ، وقد تقدم نظير هذا في قوله تعالى فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا في سورة الأنعام .

والبيات مصدر بات ، وهو هنا منصوب على الحال من البأس ، أي جاءهم البأس مبيتا لهم ، أي جاءهم ليلا ، ويطلق البيات على ضرب من الغارة تقع ليلا ، فإذا كان المراد من البأس الاستعارة لشدة الحرب كان المراد من البيات حالة من حال الحرب ، هي أشد على المغزو ، فكان ترشيحا للاستعارة التمثيلية ، ويجوز أن يكون بياتا منصوبا على النيابة عن ظرف الزمان أي في وقت البيات .

[ ص: 22 ] وجملة : " هم قائلون " حال أيضا لعطفها على بياتا بأو ، وقد كفى هذا الحرف العاطف عن ربط جملة الحال بواو الحال ، ولولا العطف لكان تجرد مثل هذه الجملة عن الواو غير حسن ، كما قال في الكشاف ، وهو متابع لعبد القاهر ، وأقول : إن جملة الحال ، إذا كانت جملة اسمية ، فإما أن تكون منحلة إلى مفردين : أحدهما وصف صاحب الحال ، فهذه تجردها عن الواو قبيح ، كما صرح به عبد القاهر وحققه التفتزاني في المطول ، لأن فصيح الكلام أن يجاء بالحال مفردة إذ لا داعي للجملة ، نحو جاءني زيد هو فارس ، إذ يغني أن تقول : فارسا .

وأما إذا كانت الجملة اسمية فيها زيادة على وصف صاحب الحال ، وفيها ضمير صاحب الحال ، فخلوها عن الواو حسن نحو قوله تعالى : قلنا اهبطوا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإن هذه حالة لكلا الفريقين ، وهذا التحقيق هو الذي يظهر به الفرق بين قوله : بعضكم لبعض عدو وقولهم في المثال : جاءني زيد هو فارس ، وهو خير مما أجاب به الطيبي وما ساقه من عبارة المفتاح وعبارة ابن الحاجب فتأمله .

وعلل حذف واو الحال بدفع استثقال توالي حرفين من نوع واحد .

و " أو " لتقسيم القرى المهلكة إلى مهلكة في الليل ، ومهلكة في النهار ، والمقصود من هذا التقسيم تهديد أهل مكة حتى يكونوا على وجل في كل وقت لا يدرون متى يحل بهم العذاب ، بحيث لا يأمنون في وقت ما .

ومعنى : قائلون كائنون في وقت القيلولة ، وهي القائلة ، وهي اسم للوقت المبتدإ من نصف النهار المنتهي بالعصر ، وفعله : قال يقيل فهو قائل ، والمقيل الراحة في ذلك الوقت ، ويطلق المقيل على القائلة أيضا .

وخص هذان الوقتان من بين أوقات الليل والنهار ؛ لأنهما اللذان [ ص: 23 ] يطلب فيهما الناس الراحة والدعة ، فوقوع العذاب فيهما أشد على الناس ، ولأن التذكير بالعذاب فيهما ينغص على المكذبين تخيل نعيم الوقتين .

والمعنى : وكم من أهل قرية مشركين أهلكناهم جزاء على شركهم ، فكونوا يا معشر أهل مكة على حذر أن نصيبكم مثل ما أصابهم فإنكم وإياهم سواء .

وقوله : فما كان دعواهم يصح أن تكون الفاء فيه للترتيب الذكري تبعا للفاء في قوله : فجاءها بأسنا لأنه من بقية المذكور ، ويصح أن يكون للترتيب المعنوي لأن دعواهم ترتبت على مجيء البأس .

والدعوى اسم بمعنى الدعاء كقوله : دعواهم فيها سبحانك اللهم وهو كثير في القرآن . والدعاء هنا لرفع العذاب أي الاستغاثة عند حلول البأس وظهور أسباب العذاب ، وذلك أن شأن الناس إذا حل بهم العذاب أن يجأروا إلى الله بالاستغاثة ، ومعنى الحصر أنهم لم يستغيثوا الله ولا توجهوا إليه بالدعاء ولكنهم وضعوا الاعتراف بالظلم موضع الاستغاثة فلذلك استثناه الله من الدعوى .

ويجوز أن تكون الدعوى بمعنى الادعاء أي : انقطعت كل الدعاوى التي كانوا يدعونها من تحقيق تعدد الآلهة وأن دينهم حق ، فلم تبق لهم دعوى ، بل اعترفوا بأنهم مبطلون ، فيكون الاستثناء منقطعا لأن اعترافهم ليس بدعوى .

واقتصارهم على قولهم : إنا كنا ظالمين إما لأن ذلك القول مقدمة التوبة لأن التوبة يتقدمها الاعتراف بالذنب ، فهم اعترفوا على نية أن ينتقلوا من الاعتراف إلى طلب العفو ، فعوجلوا بالعذاب ، فكان اعترافهم - آخر قولهم في الدنيا - مقدمة لشهادة ألسنتهم عليهم في [ ص: 24 ] الحشر ، وإما لأن الله أجرى ذلك على ألسنتهم وصرفهم عن الدعاء إلى الله ليحرمهم موجبات تخفيف العذاب .

وأيا ما كان فإن جريان هذا القول على ألسنتهم كان نتيجة تفكرهم في ظلمهم في مدة سلامتهم ، ولكن العناد والكبرياء يصدانهم عن الإقلاع عنه ، ومن شأن من تصيبه شدة أن يجري على لسانه كلام ، فمن اعتاد قول الخير نطق به ، ومن اعتاد ضده جرى على لسانه كلام التسخط ومنكر القول ، فلذلك جرى على لسانهم ما كثر جولانه في أفكارهم .

والمراد بقولهم : كنا ظالمين أنهم ظلموا أنفسهم بالعناد ، وتكذيب الرسل ، والإعراض عن الآيات ، وصم الآذان عن الوعيد والوعظ ، وذلك يجمعه الإشراك بالله ، قال تعالى : إن الشرك لظلم عظيم ، وذلك موضع الاعتبار للمخاطبين بقوله : ولا تتبعوا من دونه أولياء أي أن الله لم يظلمهم ، وهو يحتمل أنهم علموا ذلك بمشاهدة العذاب وإلهامهم أن مثل ذلك العذاب لا ينزل إلا بالظالمين ، أو بوجدانهم إياه على الصفة الموعود بها على ألسنة رسلهم ، فيكون الكلام إقرارا محضا أقروا به في أنفسهم ، فصيغة الخبر مستعملة في إنشاء الإقرار ، ويحتمل أنهم كانوا يعلمون أنهم ظالمون ، من قبل نزول العذاب ، وكانوا مصرين عليه ومكابرين ، فلما رأوا العذاب ندموا وأنصفوا من أنفسهم ، فيكون الكلام ، إقرارا مشوبا بحسرة وندامة ، فالخبر مستعمل في معناه المجازي الصريح ومعناه الكنائي ، والمعنى المجازي يجتمع مع الكناية باعتبار كونه مجازا صريحا .

وهذا القول يقولونه لغير مخاطب معين ، كشأن الكلام الذي يجري على اللسان عند الشدائد ، مثل الويل والثبور ، فيكون الكلام مستعملا في معناه المجازي ، أو يقوله بعضهم لبعض ، بينهم ، على معنى التوبيخ ، [ ص: 25 ] والتوقيف على الخطأ ، وإنشاء الندامة ، فيكون مستعملا في المعنى المجازي الصريح ، والمعنى الكنائي ، على نحو ما قررته آنفا .

والتوكيد بإن لتحقيق الخبر للنفس أو للمخاطبين على الوجهين المتقدمين أو يكون قولهم ذلك في أنفسهم ، أو بين جماعتهم ، جاريا مجرى التعليل لنزول البأس بهم والاعتراف بأنهم جديرون به ، ولذلك أطلقوا على الشرك حينئذ الاسم المشعر بمذمته الذي لم يكونوا يطلقونه على دينهم من قبل .

واسم كان هو : أن قالوا المفرغ له عمل كان ، و دعواهم خبر كان مقدم ، لقرينة عدم اتصال كان بتاء التأنيث ، ولو كان " دعوى " هو اسمها لكان اتصالها بتاء التأنيث أحسن ، وللجري على نظائره في القرآن وكلام العرب في كل موضع جاء فيه المصدر المؤول من أن والفعل محصورا بعد كان ، نحو قوله تعالى : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وغير ذلك ، وهو استعمال ملتزم غريب ، مطرد في كل ما وقع فيه جزء الإسناد ذاتين أريد حصر تحقق أحدهما في تحقق الآخر لأنهما لما اتحدا في الماصدق ، واستويا في التعريف ، كان المحصور أولى باعتبار التقدم الرتبي ، ويتعين تأخيره في اللفظ ، لأن المحصور لا يكون إلا في آخر الجزأين ، ألا ترى إلى لزوم تأخير المبتدأ المحصور . واعلم أن كون أحد الجزأين محصورا دون الآخر في مثل هذا ، مما الجزآن فيه متحدا الماصدق ، إنما هو منوط باعتبار المتكلم أحدهما هو الأصل والآخر الفرع ، ففي مثل هذه الآية اعتبر قولهم هو المترقب من السامع للقصة ابتداء ، واعتبر الدعاء هو المترقب ثانيا ، كأن السامع يسأل : ماذا قالوا لما جاءهم البأس ، فقيل له : كان قولهم : إنا كنا ظالمين دعاءهم ، فأفيد القول وزيد بأنهم فرطوا في الدعاء ، وهذه نكتة دقيقة تنفعك [ ص: 26 ] في نظائر هذه الآية ، مثل قوله : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم ، على أنه قد قيل : إنه لاطراد هذا الاعتبار مع المصدر المؤول من ( أن ) والفعل علة لفظية : وهي كون المصدر المؤول يشبه الضمير في أنه لا يوصف ، فكان أعرف من غيره ، فلذلك كان حقيقا بأن يكون هو الاسم ، لأن الأصل أن الأعرف من الجزأين وهو الذي يكون مسندا إليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية