الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون عطفت جملة : والوزن يومئذ الحق على جملة " فلنقصن " ، لما تضمنته المعطوف عليها من العلم بحسنات الناس وسيئاتهم ، فلا جرم أشعرت بأن مظهر ذلك العلم وأثره هو الثواب والعقاب ، وتفاوت درجات العاملين ودركاتهم تفاوتا لا يظلم العامل فيه مثقال ذرة ، ولا يفوت ما يستحقه إلا أن يتفضل الله على أحد برفع درجة أو مغفرة زلة لأجل سلامة قلب أو شفاعة أو نحو ذلك ، مما الله أعلم به من عباده ، فلذلك عقبت جملة : " فلنقصن " بجملة : والوزن يومئذ الحق فكأنه قيل : فلنقصن عليهم بعلم ولنجازينهم على أعمالهم جزاء لا غبن فيه على أحد .

والتنوين في قوله : يومئذ عوض عن مضاف إليه دل عليه : [ ص: 29 ] فلنسألن الذين أرسل إليهم وما عطف عليه بالواو وبالفاء ، والتقدير : يوم إذ نسألهم ونسأل رسلهم ونقص ذنوبهم عليهم .

والوزن حقيقته معادلة جسم بآخر لمعرفة ثقل أحد الجسمين أو كليهما في تعادلهما أو تفاوتهما في المقدار ، وإذ قد كان تساوي الجسمين الموزونين نادر الحصول تعين جعلت أجسام أخرى يعرف بها مقدار التفاوت ، فلا بد من آلة توضع فيها الأشياء ، وتسمى الميزان ولها أشكال مختلفة شكلا واتساعا .

والأجسام التي تجعل لتعيين المقادير تسمى موازين ، واحدها ميزان أيضا وتسمى أوزانا واحدها وزن ، ويطلق الوزن على معرفة مقدار حال في فضل ونحوه قال تعالى : فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا وفي حديث أبي هريرة ، في الصحيحين : إنه ليؤتى بالعظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة . ويستعار استعارة تمثيلية للتدبير في أحوال ، كقول الراعي :

وزنت أمية أمرها فدعت له من لم يكن غمرا ولا مجهولا

فالوزن في هذه الآية يراد به تعيين مقادير ما تستحقه الأعمال من الثواب والعقاب تعيينا لا إجحاف فيه ، كتعيين الميزان على حسب ما عين الله من ثواب أو عقاب على الأعمال ، وذلك مما يعلمه الله تعالى : ككون العمل الصالح لله وكونه رياء ، وككون الجهاد لإعلاء كلمة الله أو كونه لمجرد الطمع في الغنيمة ، فيكون الجزاء على قدر العمل ، فالوزن استعارة ، ويجوز أن يراد به الحقيقة فقد قيل : توضع الصحائف التي كتبتها الملائكة للأعمال في شيء خلقه الله ليجعله الله يوم القيامة ، ينطق أو يتكيف بكيفية فيدل على مقادير الأعمال لأربابها ، وذلك ممكن ، وقد وردت أخبار في صفة هذا الميزان لم يصح شيء منها .

والعبارات في مثل هذا المقام قاصرة عن وصف الواقعات ، لأنها من خوارق المتعارف ، فلا تعدو العبارات فيها تقريب الحقائق وتمثيلها بأقصى [ ص: 30 ] ما تعارفه أهل اللغة ، فما جاء منها بصيغة المصدر غير متعلق بفعل يقتضي آلة فحمله على المجاز المشهور كقوله تعالى : فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا . وما جاء منها على صيغة الأسماء فهو محتمل مثل ما هنا لقوله : فمن ثقلت موازينه . . . إلخ ، ومثل قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - : كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان وما تعلق بفعل مقتض آلة فحمله على التمثيل أو على مخلوق من أمور الآخرة مثل قوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة . وقد ورد في السنة ذكر الميزان في حديث البطاقة التي فيها كلمة شهادة الإسلام ، عند الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وحديث قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - لأنس بن مالك : فاطلبني عند الميزان خرجه الترمذي .

وقد اختلف السلف في وجود مخلوق يبين مقدار الجزاء من العمل يسمى بالميزان توزن فيه الأعمال حقيقة ، فأثبت ذلك الجمهور ونفاه جماعة منهم الضحاك ومجاهد والأعمش ، وقالوا : هو القضاء السوي ، وقد تبع اختلافهم المتأخرون فذهب جمهور الأشاعرة وبعض المعتزلة إلى تفسير الجمهور ، وذهب بعض الأشاعرة المتأخرين وجمهور المعتزلة إلى ما ذهب إليه مجاهد والضحاك والأعمش ، والأمر هين ، والاستدلال ليس ببين والمقصود المعنى وليس المقصود آلته .

والإخبار عن الوزن بقوله " الحق " ، إن كان الوزن مجازا عن تعيين مقادير الجزاء فالحق بمعنى العدل ، أي الجزاء عادل غير جائر ؛ لأنه من أنواع القضاء والحكم ، وإن كان الوزن تمثيلا بهيئة الميزان ، فالعدل بمعنى السوي ، أي والوزن يومئذ مساو للأعمال لا يرجح ولا يجحف .

وعلى الوجهين فالإخبار عنه بالمصدر مبالغة في كونه محقا .

وتفرع على كونه الحق قوله : فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ، فهو تفصيل للوزن ببيان أثره على قدر الموزون . ومحل التفريع هو قوله : فأولئك هم المفلحون وقوله : فأولئك الذين خسروا أنفسهم إذ ذلك [ ص: 31 ] مفرع على قوله : فمن ثقلت موازينه : ومن خفت موازينه وثقل الميزان في المعنى الحقيقي رجحان الميزان بالشيء الموزون ، وهو هنا مستعار لاعتبار الأعمال الصالحة غالبة ووافرة ، أي من ثقلت موازينه الصالحات ، وإنما لم يذكر ما ثقلت به الموازين لأنه معلوم من اعتبار الوزن ، لأن متعارف الناس أنهم يزنون الأشياء المرغوب في شرائها المتنافس في ضبط مقاديرها والتي يتغابن الناس فيها .

والثقل مع تلك الاستعارة هو أيضا ترشيح لاستعارة الوزن للجزاء ، ثم الخفة مستعارة لعدم الأعمال الصالحة أخذا بغاية الخفة على وزان عكس الثقل ، وهي أيضا ترشيح ثان لاستعارة الميزان ، والمراد هنا الخفة الشديدة وهي انعدام الأعمال الصالحة لقوله : بما كانوا بآياتنا يظلمون .

والفلاح حصول الخير وإدراك المطلوب .

والتعريف في المفلحون للجنس أو العهد وقد تقدم في قوله تعالى : وأولئك هم المفلحون في سورة البقرة .

وماصدق " من " واحد لقوله : موازينه ، وإذ قد كان هذا الواحد غير معين ، بل هو كل من تحقق فيه مضمون جملة الشرط ، فهو عام صح اعتباره جماعة في الإشارة والضميرين من قوله : فأولئك هم المفلحون .

والإتيان بالإشارة للتنبيه على أنهم إنما حصلوا الفلاح لأجل ثقل موازينهم ، واختير اسم إشارة البعد تنبيها على البعد المعنوي الاعتباري .

وضمير الفصل لقصد الانحصار أي هم الذين انحصر فيهم تحقق المفلحين ، أي إن علمت جماعة تعرف بالمفلحين فهم هم .

والخسران حقيقته ضد الربح ، وهو عدم تحصيل التاجر على ما يستفضله من بيعه ، ويستعار لفقدان نفع ما يرجى منه النفع ، فمعنى خسروا أنفسهم [ ص: 32 ] فقدوا فوائدها ، فإن كل أحد يرجو من مواهبه ، وهي مجموع نفسه ، أن تجلب له النفع وتدفع عنه الضر : بالرأي السديد ، وابتكار العمل المفيد ، ونفوس المشركين قد سولت لهم أعمالا كانت سبب خفة موازين أعمالهم ، أي سبب فقد الأعمال الصالحة منهم ، فكانت نفوسهم كرأس مال التاجر الذي رجا منه زيادة الرزق فأضاعه كله فهو خاسر له ، فكذلك هؤلاء خسروا أنفسهم إذ أوقعتهم في العذاب المقيم ، وانظر ما تقدم في قوله تعالى : الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون في سورة الأنعام . وقوله تعالى : فما ربحت تجارتهم في سورة البقرة .

والباء في قوله : " بما كانوا " باء السببية ، وما مصدرية أي بكونهم ظلموا بآياتنا في الدنيا ، فصيغة المضارع في قوله يظلمون لحكاية حالهم في تجدد الظلم فيما مضى كقوله تعالى : والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه .

والظلم هنا ضد العدل : أي يظلمون الآيات فلا ينصفونها حقها من الصدق . وضمن يظلمون معنى يكذبون ، فلذلك عدي بالباء ، فكأنه قيل : بما كانوا يظلمون فيكذبون بآياتنا على حد قوله تعالى : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا .

وإنما جعل تكذيبهم ظلما لأنه تكذيب ما قامت الأدلة على صدقه فتكذيبه ظلم للأدلة بدحضها وعدم إعمالها .

وتقديم المجرور في قوله : بآياتنا على عامله ، وهو يظلمون ، للاهتمام بالآيات . وقد ذكرت الآية حال المؤمنين الصالحين وحال المكذبين المشركين إذ كان الناس يوم نزول الآية فريقين : فريق المؤمنين ، وهم كلهم عاملون بالصالحات ، مستكثرون منها ، وفريق المشركين وهم أخلياء من الصالحات ، وبقي بين ذلك فريق من المؤمنين الذين يخلطون [ ص: 33 ] عملا صالحا وآخر سيئا ، وذلك لم تتعرض له هذه الآية ، إذ ليس من غرض المقام ، وتعرضت له آيات أخرى .

التالي السابق


الخدمات العلمية