الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [60] وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون

                                                                                                                                                                                                                                      وهو الذي يتوفاكم بالليل أي: ينيمكم فيه. استعير (التوفي) من الموت للنوم، لما بينهما من المشاركة في زوال الإحساس والتمييز، فإن أصله قبض الشيء بتمامه.

                                                                                                                                                                                                                                      ويعلم ما جرحتم بالنهار أي: فيه: وتخصيص الليل بالنوم، والنهار بالكسب، جريا على المعتاد. ثم يبعثكم أي: يوقظكم. أطلق البعث ترشيحا للتوفي: فيه أي: في النهار: ليقضى أجل مسمى أي: ليتم مقدار حياة كل أحد.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم إليه مرجعكم أي: رجوعكم بالبعث بعد الموت ثم ينبئكم بما كنتم تعملون أي: في ليلكم ونهاركم، بالمجازاة عليه، مبالغة في عدله.

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيهان:

                                                                                                                                                                                                                                      الأول: ظاهر الخطاب في الآية على العموم. وخصه في "الكشاف" بالكفرة، ذهابا إلى أن قوله: ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم يدل على تهديد شديد، لا يليق إلا [ ص: 2348 ] بالمعاندين الجاحدين، وأن المقصود بيان حالهم المذمومة في الليل، كما أن قوله: ما جرحتم بيان حالهم المذمومة في النهار. وحمل (البعث) لا على الإيقاظ، بل على البعث من القبور. وفي (فيه) بمعنى (من أجله) كقولك: فيم دعوتني؟ فتقول: في أمر كذا، والمعنى: أنكم ملقون كالجيف بالليل كاسبون للآثام بالنهار. وأنه تعالى مطلع على أعمالكم، يبعثكم من القبور في شأن ما قطعتم به أعماركم، من النوم بالليل، وكسب الآثام بالنهار ليقضي الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى، وجزائهم على أعمالهم. والذي حمله على ذلك زعمه أن قوله: ويعلم ما جرحتم بالنهار دال على حال اليقظة، وكسبهم فيها. وكلمة: ثم تقضي تأخير البعث عنها.

                                                                                                                                                                                                                                      قال شراحه: ولا يخفى ما فيه من التكلف، وأنه لا حاجة إليه؛ لأن قوله: ويعلم ما جرحتم بالنهار إشارة إلى ما كسب في النهار السابق على ذلك الليل، ولا دلالة فيه على الإيقاظ من هذا التوفي، وأن الإيقاظ متأخر عن التوفي. وإن قولنا: (يفعل ذلك التوفي لنقضي مدة الحياة المقدرة) كلام منتظم غاية الانتظام.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: قال الشريف المرتضى في "الدرر والغرر" فيما وقع من القرآن من ذكر الرجوع إلى الله نحو: وإلى الله ترجع الأمور كيف ترجع إليه، وهي لم تخرج من يده؟ وأجاب: بأنه في دار التكليف قد يغير البعض، فيضيف بعض أفعاله تعالى إلى غيره. فإذا انكشف الغطاء، انقطعت حبال الآمال عن غيره، فيرجع إليه. أو أن المراد أن الأمور في يده من غير خروج ورجوع حقيقي. ف (رجع) بمعنى (صار). تقول العرب: رجع علي من فلان مكروه، بمعنى صار، ولم يكن سبق. فهو بمعنى المصير إليه، كما تشهد به اللغة. أو أنه في دار الدنيا ما يكون للعباد ظاهرا كالعبد لسيده، فإذا أفضى الأمر إلى الآخرة، زال ذلك، ورجع الأمر كله إلى الله، ظاهرا وباطنا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية